المشروع الحضاري لأهل البيت (ع)

 
الليلة الثالثة: سماحة الشيخ الصفار يتحدث عن المشروع الحضاري لأهل البيت (عليهم السلام)

 



تحدث سماحة الشيخ حسن الصفار في الليلة الثالثة من محرم 1427هـ في (مأتم العدواني) بدبي، عن: المشروع الحضاري لأهل البيت (عليهم السلام)، في محاضرةٍ تضمنت ثلاثة محاور:

* أهل البيت (عليهم السلام) يحملون أهداف الإسلام.

* الأصالة الإسلامية في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

* ماذا يعرف العالم عن أهل البيت (عليهم السلام).

وفيما يلي لقطاتٌ من هذه المحاضرة:




المحور الأول/ أهل البيت (عليهم السلام) يحملون أهداف الإسلام.




يجب أن نعرف أن الإسلام برنامج متكامل لإسعاد الإنسان في هذه الحياة، ولإعمار الكون، ولكي يصل الإنسان إلى أرفع درجة من التكامل الإنساني. الإسلام ليس مجرد طقوسٍ وعبادات وبرامج روحية، فالإسلام ليس من أجل الآخرة فقط، وإنما هو في الأساس من أجل إصلاح الدنيا. ويُقرر ذلك الدعاء الذي ينقله القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً (البقرة، 201)، وقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل، 97).

لهذا فإن الإسلام يُوجه الإنسان لإعمار الحياة، والتفكر في الطبيعة: ﴿قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ (يونس، 101)، ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (الغاشية، 17-20). وورد في الحديث: («من كان في دنياه عاجزاً، فهو عن آخرته أعجز»).

وأهل البيت (عليهم السلام) يحملون هذه الأهداف، ويبشرون بالمشروع الإسلامي الحضاري الذي يُريد إعمار الكون وبناء الحياة الكريمة.

ونجد في واقعنا أن هناك بعض الصور التي تُرسم لأهل البيت تختزل حياتهم في بعض الجوانب الضيقة، فأهل البيت ليسوا عناصر وشخصيات طموحة للمواقع السياسية، يقول أمير المؤمنين : («اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا طمعاً للحصول على شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، فيأمن المظلومون من عبادك»).

وأهل البيت لم يكونوا مجرد عبّاد زهّاد، ولم يكونوا رؤساء لطرق صوفية، بل إنهم ليسوا مجرد أئمة مذهب لهم آراء فقهية.

أهل البيت فوق كل ذلك، فهم حملة المشروع الحضاري للإسلام، لذلك ترى تراث أهل البيت يطفح بمشروع الإسلام الحضاري. ومن أمثلة ذلك:

- عهد الإمام علي لمالك الأشتر، فهو يُمثل أهم وثيقة سياسية.

- رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين .

- توحيد المفضل الذي أملاه الإمام جعفر الصادق الذي يحوي الكثير من أسرار الخلق والطبيعة وعلم التشريح.

- جامعة الإمام جعفر الصادق والتي تضم أكثر من (4000) طالب، أحدهم: جابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء.

- الرسالة الذهبية للإمام علي بن موسى الرضا في الطب.



المحور الثاني/ الأصالة الإسلامية في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).




معارف وعلوم أهل البيت (عليهم السلام) لم تكن مجرد نظريات شخصية، ولم تكن اجتهادات قابلة للخطأ والصواب، وإنما كانت من عمق الوحي والرسالة الإسلامية، وهذا هو الفارق بين حديث أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم، ولذلك يقول الشاعر:

 

 

 

فدع عنك قول الشافعي ومالك وأحمد والمروي عن كعب أحباري

ووالي أناساً قولهم وحديثهم روى جدنا عن جبرئيل عن الباري

 


لذلك هنا الأصالة والعمق الديني وجادة الهدى والصواب، وهذا هو التطبيق لما قاله رسول الله : (إني مخلفٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).

فعلوم أهل البيت (عليهم السلام) متصلةٌ بالوحي، وذلك من جهتين:

أولاً- هناك جانب الإلهام الإلهي، والقرآن تحدث عن ذلك بالنسبة للأولياء كالخضر : ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (الكهف، 65). والله تعالى قد ألهم أهل البيت (عليهم السلام) من العلوم والمعارف بصفة خاصة، تماماً كما كان ذلك بالنسبة للأنبياء والأولياء السابقين.

ثانياً- توارث أهل البيت (عليهم السلام) للعلم، ومن ذلك بعض المغيبات التي أخبر عنها الإمام علي ، وحين تعجّب البعض من ذلك بقولهم: يا أمير المؤمنين هل هذا علم غيب؟ قال : كلا، وإنما هو تعلّم من ذي علم، علّمنيه رسول الله . وتنقل أم المؤمنين أم سلمة: كان لعليٍّ على رسول الله مدخلان، مدخل بالليل و مدخل بالنهار.

وقد أور النسائي في خصائص عليٍّ هذا الحديث: قال أمير المؤمنين علي : بعثني رسول الله إلى اليمن وأنا شابٌ صغير السن لأقضي بينهم، قلت: يا رسول الله تبعثني إليهم وهم أكبر مني سناً حتى اقضي بينهم ولا عهد لي بالقضاء، يقول الإمام علي : فضرب رسول الله على صدري ثم قال: اللهم أهد قلبه وسدد لسانه. قال عليٌّ : فما شككت بعدها في قضاءٍ بين اثنين قط.

يقول عطاء المكي، وهو من المعاصرين للإمام محمد الباقر : ما رأيت العلماء أصغر عند أحد كما هم بين يدي أبي جعفر محمد بن علي الباقر.

ويتحدث الإمام مالك عن الإمام جعفر الصادق فيقول: ما رأت عينٌ ولا سمعت أذنٌ ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد علماً وعبادةً وورعاً.

هذه الحالة تُلفت إلى أن العلم الذي كان عند أهل البيت (عليهم السلام) يُمثل عمق الدين، وهو انتهال من منبع الوحي الأساس، ويُمثل الأصالة الإسلامية.



المحور الثالث/ ماذا يعرف العالم عن أهل البيت (عليهم السلام).




تراث أهل البيت (عليهم السلام) ليس ملكاً محتكراً لأتباعهم، بل قد تكون هناك جوانب من تراث أهل البيت لا يستطيع أتباعهم الاستفادة منها كما يستفيد منها غيرهم، كتراثهم في علوم الكون والطبيعة، لا شك أن العلماء في العالم أكثر قدرة على الاستفادة من هذا القسم من التراث.

من المؤسف جداً أن أهل البيت لا يزالون مجهولين، ومغمورين، لا يعرف العالم عن سيرتهم وعن تراثهم ومعارفهم إلا النزر الضئيل جداً.

وأمامك الجامعات العلمية في العالم، هل يوجد في جامعة منها كرسياً باسم الإمام جعفر الصادق ، وكذلك أين حضور أهل البيت وكلامهم في مراكز الدراسات والأبحاث العلمية في مختلف أنحاء العالم.

(مايكل هارت) حينما كتب كتابه (المئة الأوائل) واعتبر رسول الله على رأس هذه القائمة، لكنه لم يذكر ولا واحداً من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ضمن هذه القائمة!

وأيضاً: أين تجد ذكر أهل البيت (عليهم السلام) في وسائل الإعلام، وفي مواقع الثقافة العالمية.

مع الأسف لا تجد شيئاً بالمستوى المطلوب الذي يليق بمكانة أهل البيت (عليهم السلام).

لماذا لم يصل تراث أهل البيت (عليهم السلام) إلى هؤلاء؟ فلو اطلع العالم على تراث أهل البيت، لعرف مكانتهم، وهذا ما يؤكده الإمام الرضا في قوله: (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)، فيسأل: كيف يُحيى أمركم؟ قال : («يتعلم علومنا ويُعلّمها الناس، فإن الناس لو عرفوا محاسن كلامنا لاتبعونا»).

وفي العالم الآن الكثير من الإنصاف والموضوعية والبحث عن العلم والمعرفة، ولكن كيف يصل هذا التراث للعالم؟ ينبغي أن يُنشر هذا التراث ويُترجم إلى مختلف لغات العالم حتى يطلع العالم على تراث أهل البيت (عليهم السلام).

مع الأسف فإن تراث أهل البيت (عليهم السلام) لا يزال مجهولاً حتى على المستوى الإسلامي، فهل تُدرّس آراء أهل البيت (عليهم السلام) على مستوى الجامعات الإسلامية الموجودة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي؟ وهل تُطرح فيها سيرة أهل البيت (عليهم السلام)؟ بكل أسف لا تجد ذلك حاصلاً.

وهذا ليس عيباً ولا نقصاً ولا خساراً على أهل البيت، وإنما هو خسارة للمسلمين.

وعلى مستوى أتباع أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً لا تزال معارفهم عن أهل البيت محدودة وضئيلة.

فمن هو المسؤول عن نشر تراث أهل البيت (عليهم السلام) للعالم؟

أتباع أهل البيت (عليهم السلام) يتحملون القسط الأكبر من هذه المسؤولية، لأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أمروا أتباعهم بإحياء أمرهم، فعلينا أن نُحيي أمرهم.

مخجلٌ جداً حينما نرى شخصيات على مستوى معين لا تُقاس أبداً بأهل البيت (عليهم السلام) ولكنك تجد الاهتمام بهم على مستوى الجامعات ومراكز الأبحاث يفوق الاهتمام بأهل البيت (عليهم السلام) بكثير.

ومثاله:

الشاعر المسرحي الإنجليزي وليم شكسبير (1564-1616م) والذي أنتج في حياته 37 مسرحية إلى جانب مجموعة من القصائد، تنشر عنه في كل سنة أكثر من 5475 بحثاً ومقالة ، كما يتواصل إصدار الطبعات الجديدة من مسرحياته من قبل أعرق الجامعات البريطانية، حيث بدأت منذ مطلع الثمانينيات جامعتا كمبردج وأكسفورد في إصدار طبعات جديدة لأعمال شكسبير، تظهر آخر ما توصلت إليه الدراسات النصيّة التي يدعمها استخدام الحاسوب.

وفي عام 1930م تأسست في واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية مكتبة فولجر الخاصة بشكسبير، وتضم أهم مجموعة من الكتب عن شكسبير، وأهم مجموعة من الكتب عن الحضارة البريطانية بين عامي 1485 و1715م. وفي المكتبة أكثر من 225000مجلد، أسسها هنري كلاي فولجر وهو رئيس سابق لشركة ستاندارد أويل بنيويورك، ترك ثروته وقفاً على إنشاء المكتبة، والتي يفد إليها دارسون من معظم أرجاء العالم.

أما الشاعر الإنجليزي الآخر اللورد بايرون (1788-1824م) فقد ظهر عنه لحد الآن أكثر من 300 كتاب في سيرة حياته وعلاقاته الخاصة، منها كتاب سلي مارجانت الذي صدر في الخمسينيات بثلاثة مجلدات، وقد ولد اللورد بايرون في لندن وتوفي في اليونان، وكانت حياته العائلية والسلوكية مضطربة جداً، حيث لم تدم علاقته مع زوجته أكثر من سنة واحدة، وارتبط بعلاقة غير شرعية مع أخته غير الشقيقة (أوغستاليف) إلى جانب علاقات أخرى منحرفة



ولكن/ ماذا كتب عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؟

لقد أنجز الباحث العراقي الشيخ عبد الجبار الرفاعي، موسوعة استقصى فيها عناوين المؤلفات والبحوث التي كتبت عن أهل البيت (عليهم السلام)، عبر أربعة عشر قرناً، (بيلوغرافيا) تحت عنوان (معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت) طبعت في اثني عشر مجلداً. وكشفت عن الأرقام التالية بالنسبة لعدد الكتب والمقالات عن كل واحد منهم:


عن فاطمة الزهراء (عليها السلام): 546

عن الإمام علي: 4956

عن الإمام الحسن بن علي : 205

عن الإمام الحسين بن علي : 3215

عن الإمام السجاد : 399

عن الإمام الباقر : 69

عن الإمام الصادق : 331

عن الإمام الكاظم : 211

عن الإمام الرضا : 651

عن الإمام الجواد : 62

عن الإمام الهادي : 79

عن الإمام العسكري : 66

عن الإمام المهدي : 1145


إنها أرقام متواضعة جداً، أليس هذا تقصير وتهاون في القيام بالمسؤولية؟



والآن أصبحت الظروف مناسبة والمجال مفتوح، للقنوات الفضائية، ومراكز الدراسات والأبحاث، والكتب والمجلات، ومختلف الأنشطة العلمية والثقافية.

ونحن نعيش موسم عاشوراء، نتساءل: ما مدى انعكاس هذا الموسم على مستوى الإعلام الإسلامي والعالمي؟ يجب أن نتحمل مسؤوليتنا، فلا يكفي مجرد الحضور والمشاركة في مآتم العزاء، إذ أن المطلوب منا إيصال صوت الإمام الحسين للبشرية جمعاء، وإيصال صوت الإمام الحسين مهمة ضخمة جداً ولذلك فإن الإمام الحسين من أجل هذه المهمة عرّض عائلته للسبي.