المعرفة وتقدم المجتمع


تحدث سماحة الشيخ حسن الصفار في الليلة الخامسة من محرم 1427 هـ في (مأتم العدواني) بدبي، عن: المعرفة وتقدّم المجتمع، في محاضرة شملت ثلاثة محاور:

المحور الأول/ أولوية المعرفة في الإسلام

المحور الثاني/ بين المعرفة الدينية والمعرفة الدنيوية

المحور الثالث/ مسؤولية النهوض المعرفي

وهذه مقتطفات من تلك المحاضرة:


المحور الأول/ أولوية المعرفة في الإسلام


ليس هناك دين من الأديان أو مبدأ من المبادئ أعطى تلك القيمة التي أولاها الإسلام للعلم والمعرفة.

بل إن أكثر الأديان (والتي حرفت في كثير من مضامينها) لا تتوافق مع العلم والمعرفة، وتقصر اهتماماتها في الأخلاق والأحوال الشخصية وترسخ في كثير من الأحيان الخرافة والغيبيات البعيدة كل البعد عن العقل والحقائق العلمية.

بينما الدين الإسلامي يولي أهمية كبيرة للعلم، ويكفي للتدليل على ذلك أن أول آية نزلت من القرآن تأمر بالقراءة، يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: 1 – 5).

ففي هذه الآيات بعد الحديث عن خلق الإنسان يتحدث الله سبحانه عن العلم والتعلّم.

ولم تكن هذه الآية الوحيدة التي تتحدث عن العلم، يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (الزمر: 9)، وآيات أخرى غيرها.

وورد عن الرسول أنه قال: «أكثر الناس قيمة أكثرهم علمًا، وأقل الناس قيمة أقلهم علمًا»، والإمام علي يقول: ««قيمة كل امرئ ما يحسنه»».

وعند المقارنة ـ في الإسلام ـ بين العلم والعبادة يقدّم العلم على العبادة، كما ورد ذلك في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، يقول : ««العلم خير من العبادة»»، وعنه : ««عالم ينتفع بعلمه خير من عبادة سبعين ألف عابد»»، و««ركعتان يصليهما العالم خير من سبعين ألف ركعة يصليها الجاهل»».

بل إن الشيخ عباس القمي عندما يتحدث عن أعمال ليلة القدر الكثيرة يشير في النهاية إلى أن مذاكرة العلم خير من جميع هذه الأعمال.

المحور الثاني/ بين المعرفة الدينية والمعرفة الدنيوية


قد يتصوّر البعض عندما تطلق لفظة العلم في هذه النصوص أن المقصود بها العلم في المجال الديني فقط، من علوم الشريعة والأخلاق والعقيدة، ولكن هذا أمر لا ينطبق والإطلاق الموجود في هذه النصوص، فهي لم تحصر العلم وأفضليته في الجانب الديني فقط، وهذا أمر يمكن إدراكه من خلال فتاوى الفقهاء، ففقهاؤنا كما يفتون بوجوب الاجتهاد وجوبًا كفائيا لتغطية حاجة الأمة في الحصول على الأحكام الشرعية يوجبون سد احتياجات المسلمين في شتى العلوم الصناعية والطبية وجميع ما تحتاجه الأمة من علوم.

وهناك من النصوص الشرعية ما يؤيد هذا المعنى أيضًا، فعن الرسول أنه قال: ««العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان»»، والإمام علي يقول: ««اكسبوا العلم يكسبكم الحياة»».

وهناك من الآيات القرآنية الكثير التي تحث على التأمل في الطبيعة وأسرار الكون، يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (الغاشية: 17 – 20)، وآيات غيرها.

والأئمة من أهل البيت لم ينحصر اهتمامهم بالعلم الديني فقط، فالإمام الصادق كما كان يوجه أصحابه للعلوم الدينية كان يوجههم إلى دراسة العلوم الطبيعية، منهم ملهم الكيمياء جابر بن حيان، والمفضل بن عمر في مجال تشريح الجسم البشري، وغيرهما.

بل إن الحضارة الإسلامية عندما بزغت لم تترك مجالاً علميًا إلا ودخلته، وكتبوا في شتى المجالات العلمية، التي استفاد منها الغربيون وبنوا على أساسها حضارتهم.


العالم الإسلامي والتقدم المعرفي


ومن المؤسف أن تكون لنا تلك الحضارة العلمية العظيمة ونجد أنفسنا ـ كمسلمين ـ اليوم متخلفين في هذا الجانب، فليس لنا أي موقع وأي دور في التقدم التكنولوجي والمعرفي، وهذا ما جعلنا مستضعفين ومحطًّا لنفوذ الآخرين.

بل الأسوأ من ذلك أننا أصبحنا نتهيّب ونتحذّر من دخول أي منتج وأي اختراع جديد، فهذا الشاعر المصري ينشئ قصيدة عن الهاتف عندما دخل مصر، فيقول:

 

 

على الإسلام والدنيا السلام إذا في السلك قد صار الكلام



ولو تحدثنا بلغة الإحصائيات لزاد الأمر سوءًا، ففي حين يبلغ العرب 5 % من سكان العالم، لا يشكل إنتاجهم من المطبوعات أكثر من 1.1 % من الإنتاج العالمي.

وفي مجال الترجمة يترجم العرب بمجموعهم سنويًّا 330 كتابًا إلى اللغة العربية، في حين تترجم دولة صغيرة مثل اليونان سنويًا 1600 كتاب إلى اللغة اليونانية.

وقبل فترة وجيزة نشر في وسائل الإعلام عن أفضل 500 جامعة في العالم، لم تكن بينها أي جامعة عربية، في حين كانت من بينها خمس جامعات إسرائيلية.

وتخلف المسلمين المعرفي ليس في المعرفة الدنيوية فقط، بل حتى في التعاليم الإسلامية البحتة هناك حالة تخلف معرفي أيضًا، في المبادئ الإسلامية والأحكام الشرعية، خصوصًا في المسائل الحديثة والمستجدات العالمية، التي لم تبحث من الناحية الفقهية بالمستوى المطلوب.

المحور الثالث/ مسؤولية النهوض المعرفي


إن حكومات الدول الإسلامية هي من تتحمل العبء الأكبر في مسألة النهوض المعرفي، وذلك عن طريق وزاراتها: التربية والتعليم العالي والثقافة والإعلام وغيرها من الوزارات، ولكننا يجب أن لا نلقي العبء كله على الحكومات، فنحن كأفراد ومجتمعات نتحمل جزءًا من المسؤولية.

على المستوى الفردي

بعد انتشار التعليم، وانتشار وسائل الاتصال والمعرفة من المفترض أنه لا يوجد عذر لأحد منّا أن لا يثقف نفسه معرفيّا وعلميًا.

ففي المجتمعات الغربية أصبحت مسألة الاطلاع والقراءة ممارسةً يومية ولا علاقة لها بالمكان، يقرأون في القطارات والطائرات ومحطات المترو والأنفاق، وفي كل مكان، بينما في مجتمعاتنا لا زالت القراءة أمرًا هامشيًا.

ومما يؤسف له أننا في زياراتنا لمقامات الأئمة لا نتعب أنفسنا بالقراءة والمعرفة حول الإمام الذي نزوره، وهذا خلاف ما وصّانا به أهل البيت ففي زيارة الإمام الحسين نقرأ في فضلها: ««من زار الحسين عارفًا بحقه»».

على المستوى الاجتماعي

وعلى هذا المستوى يجب أن نعي دورنا كمجتمع، بحيث يوفر المجتمع لأفراده إمكانية الحصول على الكتاب الديني ويوفر ويدعم البرامج الدينية، فنحن مسئولون أن نوصل أمانة نقل الدين والشرع إلى أبنائنا والأجيال التي تعقبنا، ولا يكفي أن ننقله كعادات وتقاليد متوارثة، بل يجب أن يصاحب ذلك وعي ومعرفة، خصوصًا أن هذه الأجيال ستواجه تحديات ثقافية وشبهات وتساؤلات ولا تستطيع أن تواجهها إلا بالمعرفة الدينية السليمة والواعية.

ومن جهة أخرى يجب أن نوجّه أبناءنا إلى تحصيل المعرفة الدنيوية، لأن الحياة لا تحترم إلا الكفاءات والقدرات العلمية والطاقات المعرفية.

وأهل البيت نموذج وقدوة لنا في هذا المجال، حيث كانوا يوجهون أصحابهم للإبداع في شتى المجالات العلمية، فهاهي الدولة العباسية على عظمتها عندما أراد هارون الرشيد أن يستوزر أحدًا ذا كفاءات وقدرات عالية لم يجد أمامه إلا علي بن يقطين، ليعينه وزيره الأول، وهو من أتباع أهل البيت .

وكذلك المتوكل العباسي عندما أراد أن يؤدب ولديه لم يجد مؤدبًا خيرًا من ابن السكيت الكوفي من أصحاب أهل البيت أيضًا.

وكذلك هم أصحاب الأئمة يكونون دائمًا من النخبة والطليعة في المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت.