تحصين المجتمع من توجّهات العنف

أن يكون للإنسان رأي فكري أو سياسي يبشّر به، ويسعى إلى تطبيقه، فذلك حقّ طبيعي، وأمر مشروع، ينبع من الإقرار بحرية الإنسان وحقه في التعبير عن رأيه، وشراكته في محيطه الاجتماعي.

وأن يطالب الإنسان بكامل حقوقه الإنسانية والوطنية، ويعترض على انتقاص شيء منها، هو الآخر أمر مشروع ومقبول.

لكن الكلام في الوسيلة والمنهج، فهل يصح استخدام أيّ وسيلة للتبشير بالرأي ولو بفرضه بالقوة على المجتمع؟

وهل يشرع العمل لنيل المطالب الحقوقية باستخدام العنف؟

إنّ الله سبحانه وتعالى منحنا عقولًا نفكر بها، ونقوّم بها الأمور، فنوازن بين الخسائر والمكاسب، ونميّز بين ما يخدم مصالحنا وما يضرّ بها، فلا يصح الخضوع لحالات الانفعال والحماس التي قد تدفعنا لما يسبب لنا ضررًا أكبر من الضرر الذي نريد إزالته، وكما ورد عن أمير المؤمنين عليّ أنه قال: (لَيْسَ الْعاقِلُ مَنْ يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ وَلكِنَّ الْعاقِلَ مَنْ يَعْرِفُ خَيْرَ الشَّرَّيْنِ)[1].

كما أننا مسلمون نتقيّد بدين له قيم وتشريعات لا بُدّ أن نستحضرها في ممارساتنا وسلوكنا في مختلف المجالات، وخاصة حينما يتعلق الأمر بما قد يؤدي إلى تلف نفس، أو سفك دم، أو انتهاك حرمة، أو اخلال بالنظام العام، فتلك أمور خطيرة، لا يمكن تجاوز الشرع فيها، فلا بُدّ من الرجوع إليه لمعرفة الضوابط التي يقررها في هذه الحالات، ولتحديد الجهة التي يحقّ لها اتّخاذ القرار فيها.

وحين نتحدث عن العنف كوسيلة لخدمة رأي سياسي، أو نهج للمطالبة بحقوق وطنية، فإنّ علينا أن نناقش الموضوع على ضوء هدي العقل وحكم الشرع.

إنه لا يمكن لعاقل أن يرضى بما آلت إليه أمور الأمة، بسبب انتشار حركات العنف والممارسات الإرهابية، التي شوهت سمعة الإسلام والمسلمين على مستوى العالم، وحوّلت الحياة في عدد من البلدان الاسلامية إلى جحيم لا يطاق، يهيم أبناؤها على وجوههم بحثًا عن ملجأ أو مأوى، داخل وخارج أوطانهم، حيث وصل عدد اللاجئين والنازحين من سوريا مثلاً أكثر من خمسة ملايين لاجئ، ومن العراق زاد اللاجئون على ثلاثة ملايين ونصف المليون، ومن اليمن هناك الآن ثلاثة ملايين نازح ولاجئ، فضلًا عن افغانستان والصومال وبلدان أخرى.

أما أرقام القتلى والجرحى من ضحايا العنف السياسي، على مستوى العالم الإسلامي، فهي أرقام رهيبة مذهلة، حيث لم يَبْقَ بلد من بلدان المسلمين بمنأى عن استهداف الإرهاب الذي يُمارس تحت عنوان الإسلام، وباسم تطبيق الشريعة، وإقامة الخلافة والدولة الإسلامية.

العنف السياسي في المنطقة الخليجية

وكانت منطقتنا الخليجية بعيدة عن حركات العنف السياسي، تنعم بالأمن والاستقرار، لكنّ اندفاع بعض أبنائها أو دفعهم للمشاركة في ساحات العنف في بلدان أخرى، كأفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك، وأخيرًا العراق وسوريا، بمبرر النصرة والانتصار للإسلام والمسلمين، أنتج تسلل هذه التوجهات العنفية إلى داخل المجتمعات الخليجية، حينما ارتدّ أولئك المقاتلون على أوطانهم. بعد أن تمكنت في أذهانهم ونفوسهم توجهات التطرّف والتكفير، وتمرسوا على الحرب والقتال، وهان عليهم سفك الدماء وانتهاك الحرمات.

وبقيت المجتمعات الشيعية الخليجية أبعد عن توجّهات العنف والتطرف، مع أنّ بعضها يشكو من التهميش والتمييز الطائفي، بسبب هيمنة تيارات تعصبية ضدّ الشيعة، لكنّ الناشطين فيها اعتمدوا أسلوب التواصل مع حكوماتهم، والانفتاح على محيطهم الوطني، وقد يندفع بعضهم نحو المعارضة ضمن الأساليب السلمية.

وإذا ما حصلت بعض حوادث العنف فإنها كانت نادرة ومحدودة النطاق لا تشكّل ظاهرة، ولا تمثّل تيارًا، وقد سمعت شخصيًّا كما سمع غيري من القيادات السياسية والأمنية في بلادنا الثناء على حالة الانضباط والاستقرار في المجتمعات الشيعية، وعدم انزلاق أبنائهم نحو هاوية العنف والإرهاب.

لكنّ هذه المجتمعات ليست معزولة عن تأثير الأجواء العامة التي تسود المنطقة، حيث يشتد التوتر السياسي بين ضفتي الخليج (بين إيران ودول المنطقة) وحيث تدور المعارك الطاحنة في دول مجاورة كالعراق وسوريا واليمن.

هذا التجاذب الإقليمي يواكبه زخم من الإعلام الطائفي المذهبي من كلا الجهتين، وإذا ما أضفنا إلى ذلك شكاوى التمييز والتهميش، وتأخّر المعالجة الوطنية لهذه الملفات، فإنّ ذلك قد يعطي فرصة لتأثر بعض أبناء الشيعة وخلق الاستعداد في نفوسهم لقبول توجّهات العنف. خاصة وأنّ بعض الشباب لديهم فائض وقت وطاقة، ونزوع للمغامرة والمخاطرة، كما نلحظ ذلك مثلًا من الإقبال على ممارسة التفحيط، مع أنها أوقعت عددًا من الضحايا الشباب موتًا أو إعاقة.

وهناك عصابات إجرامية كانت تستخدم العنف للسرقة والخطف، وترويج المخدرات، وقد ضجّ منها المجتمع لسنوات ماضية، وشكا الأهالي للحكومة من تكرار حالات سرقة المنازل والمحال التجارية، حتى في وضح النهار، وطالبوا الأجهزة الأمنية بوضع حدٍّ لهذه الجرائم التي أثارت قلق المجتمع على أمنه.

هذه العصابات من الوارد أن تسعى لحماية نفسها، وتضليل أبناء المجتمع، برفع شعارات سياسية مذهبية، مستفيدة من الأجواء السياسية التي سادت المنطقة أخيرًا.

وقد حصلت بالفعل حوادث استهداف لرجال الأمن في المنطقة، ولبعض المواطنين المناوئين لتلك التوجّهات.

مما يؤكد الخشية والقلق من تسلّل ونمو توجهات العنف في المجتمع، وذلك يعني ضرورة اليقظة والانتباه من قبل الأسر لأبنائها، حتى لا يُغرّر بهم، كما يوجب على العلماء والخطباء وذوي الرأي في المجتمع العمل على محاصرة هذه التوجّهات، بإعلان الرفض والإدانة لها، وعدم القبول بأيِّ مبررات تسوّغ العنف، ونشر الثقافة الداعية إلى معالجة المشاكل والنواقص بالوسائل السلمية، والأساليب المشروعة.

من ناحية أخرى، فإنّ على الجهات الرسمية سدّ الثغرات، والإسراع في معالجة ما يشكو منه المجتمع من نواقص ومشاكل، حتى لا تكون مادة تستفيد منها هذه الجهات في خدمة توجّهاتها.

 

القيادات الدينية تجّرم العنف

ويمكن القول إنه لا يوجد غطاء ديني سياسي لأيّ ممارسة عنفية، فلا أحد من علماء الشيعة في البلاد يجيز هذه الممارسات، حتى من يتبنى موقفًا معارضًا، وليس بين مراجع الشيعة البارزين الذين يقلّدهم المواطنون الشيعة في الخليج، من يفتي بجواز ممارسة العنف، والإخلال بالأمن والاستقرار في هذه المنطقة.

وقد أعلن هذا الموقف الرافض للعنف كثيرٌ من علماء الشيعة في البلاد، من خلال منابرهم الدينية، وخطبهم منشورة متداولة.

كما أصدر جمع من علمائهم البارزين أكثر من بيان يحرّم ويجرّم ممارسة العنف ضدّ الدولة والمجتمع، ومنها البيان الصادر بتاريخ 5 جمادى الأولى 1435هـ الموافق 10 مارس 2014م، وقد نشرته مختلف وسائل الإعلام، ومما جاء فيه:

(لا شكّ أنّ أعظم مقصد للدين وأهمّ مطلب للمجتمع هو بسط الأمن والاستقرار في البلاد.

وقد بليت مجتمعات الأمة في هذا العصر بجماعات وتيارات متطرفة، تمارس الإرهاب والعنف تحت عناوين دينية وسياسية، والدين بريء من الإرهاب، والعنف السياسي يدمّر الأوطان.

وما نعرفه من سيرة أئمة أهل البيت ، ومن توجيهاتهم الهادية، أنهم يؤكّدون حفظ وحدة الأمة، ورعاية المصلحة العامة، ورفض أيّ احتراب داخلي، حماية للسلم والأمن في مجتمع المسلمين، وذلك هو نهج مراجعنا وفقهائنا الكرام.

لذا نحذّر أبناءنا وشبابنا الأعزاء، من الانجراف خلف توجّهات العنف والتطرف، فهو لا يحلّ مشكلة ولا يحقق مطلبًا، بل يزيد المشاكل تعقيدًا، ويحقق مآرب الأعداء الطامعين.

ونؤكّد أنّ أيّ استخدام للسلاح والعنف، في وجه الدولة أو المجتمع، مدان ومرفوض، من قبل علماء المذهب، وعموم المجتمع، ولا يحظى بأيّ غطاء ديني أو سياسي)[2].

وأخيرًا أقول بلسان عموم أبناء المجتمع: إنه يزعجنا ويؤذينا أن يجري الحديث عن وجود إرهاب وإرهابيين في مجتمعنا، فلنعمل على تفويت الفرصة على من يسعى لذلك.

ومن يريد الدفاع عن حقوق الطائفة لا يسلك طريقًا يضرّ بالطائفة ويهدّد وجودها ومستقبلها.

ومن يريد الانتصار للمذهب لا يستخدم الوسيلة التي ينبذها أئمة المذهب من أهل البيت .

ولنتذكر أقوال وتوجيهات أئمتنا كالنص المروي عن أمير المؤمنين عليّ : (شِيعَتُنَا... بَرَكَةٌ عَلى مَنْ جَاوَرُوا، سِلْمٌ لِمَنْ خَالَطُوا)[3].

وما روي عن الإمام جعفر الصادق : (يا مَعشَرَ الشِّيعَةِ، إنّكُم قد نُسِبتُم إلَينا، كُونُوا لَنا زَينًا، ولا تَكُونُوا عَلَينا شَينًا)[4].

وما روي عن الإمام الحسن العسكري : (اِتَّقُوا اللّه َ وكونوا زَينًا ولا تَكونوا شَينًا، جُرّوا إلَينا كُلَّ مَوَدَّةٍ، وَادفَعوا عَنّا كُلَّ قَبيح)[5].

حمى الله بلادنا ومجتمعنا من كلّ مكروه وحفظ شبابنا وصانهم من تيارات التطرف والانحراف.

 

* حديث الجمعة 20 محرم 1438ﻫ الموافق 21 اكتوبر 2016م
[1] بحار الأنوار، ج ٧٥، ص ٦، حديث58.
[2] http://www.saffar.org/?act=artc&id=3302
[3] الكافي، ج٢، ص٢٣٦، ح24.
[4] بحار الأنوار، ج85، ص119، ح83.
[5] تحف العقول، ص488.