نحو مؤسسات أهلية لحماية الأمن الاجتماعي

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


ليس مستغرباً أن يعتبر الإمام الصادق الأمن كأول معلم من معالم سعادة الإنسان في هذه الحياة، إذ يقول : «النعيم في الدنيا الأمن وصحة الجسم، وتمام النعمة في الآخرة دخول الجنة». ذلك لأن الأمن هو الذي يُمكن الإنسان من ممارسة حياته بصورةٍ طبيعية، فيتحرك عقله، ويستفيد من طاقاته، ويتنعم بحياته. أما إذا فقد الأمن، حتى لو توفر له كل شيءٍ في الحياة فإنه لا يهنأ بذلك.

والأمن يعني عدم شعور الإنسان بالخوف على نفسه أو ماله أو عرضه. ويُقابله حالة الخوف، وهي تسلب الإنسان السعادة والارتياح في الحياة، ولذلك ورد في ألأثر: ((نعمتان مجهولتان: الصحة والأمان)). وحينما يمنّ الله تعالى على قريش يُذكرهم بنعمة الأمن، يقول تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (قريش، 3-4).

وينُقسم الأمن باعتبار مصدر العدوان إلى قسمين:



الأمن السياسي والأمن الاجتماعي




فحينما تحكم شعباً سلطة ظالمة، لا يُقيدها قانون، ولا تُحددها قيم، هنا تُصبح حياة الناس وأموالهم وأعراضهم معرضةً للعدوان والانتهاك. كما كان في عهد النظام الزائل في العراق، إذ أن الحالة عند عامة الشعب العراقي هي حالة الخوف، حتى أن أحد العلماء سئل: ما هي مشاريعكم في العراق؟ قال: أهم عمل لنا الحفاظ على بقاء رؤوسنا على أبداننا.

مثل هذه الأنظمة القمعية تسلب الناس أمنهم، ولكن ولله الحمد شيئاً فشيئاً تتقلص الآن هذه المشكلة على مستوى العالم، وستزول الأنظمة القمعية الاستبدادية، وتتسع رقعة الديمقراطية. وما هذه المحاكمة التي تُعرض للطاغية صدام الذي كان يحكم العراق بالنار والحديد إلا نموذجاً عن التغير الذي يحصل وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. فما عادت الأمور قابلة للتستر عليها أو السكوت عنها، فإجراء المحاكمة بحد ذاته رسالة بأن أي ظلم وعدوان لن يفلت من العقوبة والمحاسبة في الدنيا قبل الآخرة. البعض مستاء من طول هذه المحاكمة، فإجرامه لا يحتاج إلى إثبات أو دليل، ولكن المهم في عرض جلسات هذه المحاكمة أن ذلك الرجل الطاغية الذي كان يحتقر السلطات والحكام في المنطقة، فضلاً عن الشعوب، يمثل الآن داخل قفص الاتهام يتحدث عن أنه تعرض للتعذيب والضرب، وكذلك تحدث رفاقه وأعوانه. إن عرضهم بهذه الصورة المذلة المهينة ومشاهدة الناس لهم، بحد ذاته، رسالة.

فهناك حد قد وضع للانتهاكات التي تحصل من السلطات على الشعوب.



الأمن الاجتماعي




أما الأمن الاجتماعي فيعني أن الخطر لا يتوجه للإنسان من السلطة الحاكمة، وإنما من المجتمع الذي يعيش ضمنه.

صحيح أن الإنسان أصبح يعيش أمناً نسبياً في الجانب السياسي، ولكنه أصبح يُواجه مشكلةً كبيرة في مجال الأمن الاجتماعي على المستوى العالمي.

قد لا يكون لدى المواطن الأمريكي أو الأوروبي أو الياباني خوفٌ من السلطة الحاكمة في بلاده، لوجود قانون وضمانات ووسائل حماية، لكن المواطن في تلك البلاد غالباً ما يشعر بالقلق والخطر من الجرائم الموجودة في المحيط الاجتماعي.

وتتحدث عن هذه المشكلة الأرقام، والتقارير والتحقيقات، هناك إحصائية تقول: في كل ثانيتين ونصف الثانية تقع جريمة في أمريكا، ويوجد فيها خمسة آلاف عصابة، وفي بريطانيا في كل دقيقة تُسرق سيارة. ونشر استطلاع في أمريكا يفيد بأن 21% من الأمريكيين يعتبرون الجريمة المشكلة الكبرى التي تواجهها البلاد، وأن 40% من الأمريكيين غيروا أسلوب حياتهم خوفاً من المجرمين.

وهكذا في مختلف بلدان العالم هناك شكاوى متصاعدة من انتشار الجرائم، و انتهاك الأمن الاجتماعي. وقد تسرّبت هذه الحالة إلى بلداننا ومجتمعاتنا، فنحن جزءٌ من هذا العالم.

كانت مجتمعاتنا في الماضي تعيش أمناً اجتماعياً، ولكن بدأت تتسرب لنا مظاهر وحالات غريبة.

في الماضي قد تحصل جريمة قتل خلال سنتين أو ثلاث سنوات أو أكثر في محافظة القطيف، ولكن في هذه السنة 1426هـ إلى الآن وصل عدد حالات القتل إلى عشرين حالة في محافظة القطيف.

وكذلك حالات السرقة، وهي لا تحصل من قبل أناسٍ غرباء عن المجتمع، بل في بعض الأحيان تكون من قبل أفرادٍ من ذات المجتمع. وأيضاً حالات العنف والعدوان على المواطنين والمقيمين. فبعض المقيمين من الهنود أو الباكستان ينقلون قصصاً مرعبة عما يتعرضون له، ليس في شوارع نيويورك بل في شوارع وأحياء محافظة القطيف؟

وما حصل أخيراً من أحداث مؤسفة في أعقاب مباريات رياضية بين ناديين من أندية المنطقة في مدينة الأمير نايف الرياضية بالقطيف، مضى ضحيتها أحد الشباب، أسامة بن عبدالمحسن أبو عبد الله رحمه الله، حيث تعرض لطعناتٍ قاتلة بالسكين من قبل أناسٍ من أبناء المجتمع، إضافةً لحالاتٍ أخرى من الجرحى والمصابين، وتكسير السيارات. وبعدها بأيام حصل حادثٌ مشابه في الأحساء في منطقة العمران بعد مباريات رياضية، حيث وقع عدد من الجرحى والمصابين بسبب استخدام الآلات الحادة.

مثل هذه الأمور: حالات العنف، السرقة، الاستهتار بالحياة والممتلكات الشخصية وبحياة وممتلكات الآخرين، وبالأمن العام في المجتمع، كل هذه الحالات المرعبة والمزعجة يجب أن نتوقف عندها.



أولاً- تأثر المجتمع بالحضارة المادية الغربية



لأننا جزءٌ من هذه الحضارة المادية السائدة التي غزتنا بأفكارها وأنماط سلوكها وتكنولوجيتها وعلومها بخيرها وشرها، فكما أننا استفدنا من خير هذه الحضارة من خلال التكنولوجيا والوسائل المتقدمة، فإننا ندفع ثمن شر هذه الحضارة، فهذه الحضارة لها مساوئ بسبب ضعف التوجه القيمي والروحي، وبسبب ارتفاع وتيرة تحريض الشهوات والغرائز عند الإنسان وتركيز الروح المادية المصلحية. هذه الحالة أوجدت هذه المساوئ والمشاكل.

فللجريمة الآن مؤسسات على مستوى العالم ترعاها وتستثمرها. ومثال ذلك: انتشار المخدرات في العالم فهي ليست حالة عفوية، بل تُعتبر تجارة المخدرات أربح ثاني تجارة في العالم بعد تجارة السلاح، (500) بليون دولار سنوياً أرباح تجارة المخدرات في العالم. فهناك جهات مستفيدة من انتشار المخدرات دولية ومحلية، فقد اكتشفت الحكومات في كثير من البلدان أن هناك عناصر متواطئة مع المهربين في نفس أجهزة الأمن والجمارك. كما قد اكتشف أن أسرع الناس في الخروج من السجون هم أصحاب المخدرات، والسبب وجود المتواطئين معهم في بعض الأجهزة الأمنية. وكذلك الأمر بالنسبة للانحلال الأخلاقي والانحرافات الجنسية هناك شبكات على مستوى العالم تُغذيها وترعاها، وهناك العديد من المواقع على شبكة الإنترنت دأبها الترويج لهذه المفاسد. ولا ننسى أن نشير إلى تأثير أفلام العنف التي تعرض حتى للأطفال فالكثير من الأفلام الكارتونية التي للأطفال تعتمد مشاهد العنف.



ثانياً- وجود مشاكل حياتية عند الشباب.



فالبعض منهم يُعاني من البطالة، والبعض يعمل براتب ضعيف لا يمكنه من بناء حياة مستقرة، والحاجة والفراغ من العوامل المشجعة على الإجرام

ثالثاً- ضعف استيعاب الشباب:



فقد ضعف دور المؤسسة العائلية في الاستيعاب والتربية، والمناهج الدراسية لم تعد تستوعب الجيل الجديد.



والآن ما هو العلاج؟




وماذا ينبغي أن نعمل تجاه هذه الظواهر التي تهدد الأمن في مجتمعاتنا؟



أولاً- إحياء دور العائلة.



أصبحت العائلة مشغولة عن الأبناء، ولم يعد الولد يتربى في ظل أبيه وجده ومع أعمامه وأخواله، فقد صغر حجم العائلة وأصبحت عائلة نووية، وهذا لا يوفر للأبناء التوجيه والرعاية والحنان الكافي.



ثانياً- تكثيف التوجيه الديني والأخلاقي.



الحالة الدينية في مجتمعنا موسمية، ومظاهرية في كثير من الأحيان، في محرم وبعض المناسبات، ولكن أين الناس بقية أيام السنة، إن الحضور في صلاة الجماعة قليل ولا تتوفر برامج منتظمة للشباب.



ثالثاً- وجود ومؤسسات تهتم باستيعاب الشباب ومعالجة هذه المشاكل.



إن من أبرز الدول التي تنخفض فيها نسبة الجرائم على مستوى العالم هي اليابان، والسبب في ذلك كما تُشير التقارير، أن اليابان أكثر دولة تحتضن مؤسسات اجتماعية، ففيها (540) ألف مؤسسة اجتماعية تهتم بالشباب، ومن بينها مؤسسة يُطلق عليها (وحدة الإرشاد والتوجيه للشباب) تضم (126) ألف عضو متطوع. وكذلك (مؤسسة المرأة لإعادة التأهيل) تضم (320) ألف متطوعة. فكل مشكلة من المشاكل تجد لها مؤسسة متخصصة بدراستها وبوضع الخطط لمواجهتها وبالتحرك تجاهها.

بينما نحن لا يتجاوز اهتمامنا سوى الحديث عن المشكلة دون أن نندفع باتجاه تأسيس المؤسسات واللجان المتخصصة لدراسة المشكلة والبحث عن حلول لها، والسبب في ذلك:

أولاً- القوانين الموجود في بلادنا ليست مشجعة، ولا تسمح بوجود مؤسسات المجتمع المدني.

ثانياً- ضعف المبادرة لتحمل المسؤولية عند الناس، وضعف الوعي بحجم هذه المشاكل.



وبالطبع معالجة المشكلة لا يتم بحلول سحرية وإنما يحتاج إلى وقت، وبرامج عملية طويلة المدى. وغاية ما استطاع المجتمع الوصول إليه هو تكوين جمعيات خيرية، ولكن المجتمع لم يعد بحاجة إلى جمعيات خيرية تعني بالفقراء والمحتاجين فقط، إن المجتمع بحاجة إلى جمعيات تعني بمختلف القضايا والشؤون الاجتماعية والثقافية المطروحة في المجتمع، نحن بحاجة إلى جمعية تتصدى لظاهرة العنف التي بدأت تنتشر، تدرس هذه الظاهرة، تُثقّف المجتمع تجاهها، تتحرك لمعالجتها، وتنسق مع الأجهزة الرسمية حولها. نحن بحاجة لجمعية خيرية لمكافحة المخدرات، وبحاجة إلى مؤسسات لمكافحة العنف الأسري. وهناك العديد من القضايا التي ينبغي أن تتبلور مؤسسات وجمعيات أهلية تتصدى لها.

لو فعلنا ذلك لأمكننا أن نتصدى، فقد لا تُعالج الجمعية كل المشكلة، ولكنها تستثير وتستنهض الهمم في مقابل هذه المشكلة، وهذا بحد ذاته أمرٌ مهم ومطلوب.

علينا أن نهتم بأمننا الاجتماعي، وأن لا نكتفي بحالة القلق والتشكي والحديث المستفيض في المجالس، وتحميل الدولة فقط للمسؤولية، بالفعل الدولة تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية، ولكن هذه المشاكل لا تستطيع أجهزة الدولة لوحدها أن تُعالجها، لأن قسماً كبيراً منها يرتبط بالتربية، وآخر يرتبط بالتوجيه والنشاط الاجتماعي.

فعلى الناس أن يتحملوا مسؤوليتهم في حل المشكلات التي يواجهها المجتمع. وإذا تغافلنا عن ذلك فسنجد أ، هذه الظواهر ستصبح طبيعية في المستقبل. وعلى الشباب المتدينين أن يتحركوا ويشحذوا هممهم فالدين لا يتمثل في مواكب العزاء والقراءة وحملات الحج فقط، إنما الدين لمعالجة مختلف المشاكل الاجتماعية، وهو تبشير بالأخلاق، وبالسلوك الصحيح الذي يحتاجه الناس، ويحفظ أمن المجتمع، فيجب أن يتحرك الجميع بهذا الاتجاه.