خطاب المقاومة
وانتصرت المقاومة .. وفرح المؤمنون بنصر الله .. وخزي الصهاينة المعتدون ومن خلفهم .. وأغاظ الله بهذا النصر المنافقين، فالحمد لله وحده، الذي أنجز وعده ونصر عبده وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد.
في الأسبوع الماضي وفي مثل هذا الوقت كان المؤمنون في مختلف أنحاء العالم يعيشون الكثير من القلق، ذلك لأن الأعداء الصهاينة أغاظهم فشلهم، فقرروا أن يستفيدوا من الأيام والساعات الأخيرة، ويضاعفوا عدوانهم وإجرامهم البشع، لذلك دخلت الآلاف من جنودهم إلى جنوب لبنان، أو حاولت الدخول، واستعانوا بالإنزالات الجوية، وذلك في أكبر عمليات إنزال جوي عسكري في تاريخ هذا الكيان الغاصب وفي تاريخ المنطقة، وحاولوا بذلك أن يرفعوا من معنويات جندهم وجمهورهم، وأن يغيّروا ميزان القوّة لصالحهم.
في يوم الجمعة من الأسبوع الماضي واليومين اللذين تلياه، تكثفت الغارات على منازل الأبرياء في مختلف المناطق اللبنانية، وكان كثير من المؤمنين يعيشون القلق عمّا يمكن أن تسفر عنه المعركة، ولكنَّ الله خيّب آمال الأعداء الصهاينة، فمحاولتهم كبّدتهم المزيد من الخسائر، وزادت في عمق هزيمتهم.
وقد نقلت وسائل الإعلام عن مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الخارجية (نيكولاس بيرنز) الذي تولى التفاوض قوله: «كنا نضرب رؤوسنا بالحائط (من الإحباط) من ست إلى سبع ساعات يوميًّا، نعمل خلالها على صوغ كلمات (مشروع) القرار وعباراته عبر أربع أو خمس عواصم. كنا نقول إن غداً سيكون أفضل، لكن غداً كان تكراراً للأيام التي سبقته»[1] .
إن القرار 1701لم يصدر إلا بعد أن يئس الأعداء من أن يفعلوا أكثر مما فعلوا، أو أن ينتزعوا مقدارًا من النصر، فرأوا أن وقفًا لإطلاق النار قد يحفظ وينقذ ما يمكن من هيبة إسرائيل، وقد كتب الجنرال (زئيف شيف) كبير المعلقين العسكريين في صحيفة (هآرتس) مشيراً إلى أن وزيرة الخارجية الأمريكية، وأركان الإدارة في واشنطون، كانوا من أكثر المتحمسين لمواصلة إسرائيل للحرب، حتى تنجح في إخضاع حزب الله واستسلامه. لكن الأداء العسكري الإسرائيلي خيب آمال المسئولين الأمريكيين، الذين استغربوا قدرة المقاومة اللبنانية على مواصلة حرب الاستنزاف ضد الدولة العبرية بعد مرور أربعة أسابيع على المعارك[2] .
نحن الآن بعد مرور أربعة أيام على وقف إطلاق النار تتكشّف أمامنا الحقائق يومًا بعد آخر، ويتبين مدى فضل وتأييد الله تعالى لعباده الصالحين المجاهدين، ومدى ما أوقعوه في صفوف العدوّ من خسائر وهزائم نكراء.
ومن المؤسف أن يكون في عالمنا العربي المكلوم من جرائم إسرائيل، والمثكول من آلام عدوانها أكثر من نصف قرن، من لا يغمره الفرح ونشوة الانتصار. فالحكومات التي عانت من إذلال الصهاينة، ورأت ممارسات هؤلاء الصهاينة على أراضيها وتجاه شعوبها، كان من المتوقّع أن تظهر فرحها وتأييدها وتهنئتها لهذه المقاومة الباسلة، ولكن مع الأسف لم يفعلوا ذلك، بل إن بعضهم لم يكلف نفسه أن يتحدّث عن هذا الإنجاز وهذا النصر، وأن يبارك للمجاهدين، ولا أن يشيد بالمقاومة. أيُّ عالم هذا العالم؟!
لو كانت هذه المقاومة في أي مجتمع آخر لأصبحت تاجًا على رؤوسهم، ولأعلنوا العيد القومي والوطني لما حققته من إنجاز، ولكن هذا العالم العربي، وخاصة في شقه الرسمي والسياسي، كأنه غير مرتاح لهذا النصر، وكأن هذا النصر قد تحقق رغمًا عنهم، ولذلك يبخلون ـ أو لا تسمح لهم نفوسهم ـ أن يتحدّثوا حول هذا الانتصار والإنجاز. إن الصهاينة يعيشون الآن في داخل إسرائيل زلزالاً سياسيًا، وغضبًا جماهيريًّا، وسعيًا لمحاسبة قيادتهم. وهذا من خلال ما يقوله الصهاينة تعليقًا على هذه المعارك التي حصلت، حيث تحدّث أحد الكتّاب الإسرائيليين المعروفين (يوئيل ماركوس) في صحيفة هآرتس الإسرائيلية بتاريخ 7/8/2006م فقال: «إن ما بين 100 إلى 200 صاروخ تضرب إسرائيل يومياً من المطلة وحتى حيفا. وذلك كابوسًا لم نتوقعه حتى في أسوأ أحلامنا. وحذر من الأسئلة المحرجة التي سيطرحها الناس حول المكسب والخسارة في الحملة العسكرية»[3] . وقال المفكر الإسرائيلي (يونتان شام أور) في صحيفة معاريف بتاريخ 2/8/2006م: «لقد خسرنا ولم يعد مهماً إذا كان الجيش سيصل إلى نهر الليطاني أو أنهم سيأتون إلينا برأس نصر الله، فقد انتصروا وأصبحنا نحن الخاسرين. ثم أضاف قائلاً: إن المواجهة الحالية لن تقضي على المستقبل السياسي لحزب كاديما الذي يقوده أولمرت، ولكنها أيضاً ستلقي بظلالها على مستقبل المواجهات القادمة بين إسرائيل وحركات المقاومة العربية. ذلك إن إسرائيل بعدما فقدت قوة الردع، سيصبح بمقدور أي جماعة من خصومها أن تتغوط علينا بأي عدد من الصواريخ يروق لها»[4] .
ومحللون عرب ـ كذلك ـ كتبوا كثيرًا حول هذا الأمر، فهاهو وزير حربية ورئيس استخبارات سابق في مصر (أمين هويدي) يتساءل: «من كان يحلم بأن ينقل طرف عربي الخوف والوجع إلى إسرائيل، فيهددها لأول مرة في تاريخها، ويضرب عمقها واصلاً إلى صفد وطبريا والعفوله، ويدفع بسكانها إلى المخابئ التي لم يدخلوها منذ نصف قرن. بل ولا يتردد في التصريح بضرب تل أبيب إن هي قصفت بيروت؟ - من كان يخطر له أن تنجح المقاومة الإسلامية في هدم نظرية الأمن الإسرائيلي، وإفقاد العدو قدرته على الردع، وإسقاط هيبة الجيش الذي قالوا إنه لا يقهر، بل وأيضاً إسقاط هيبة أجهزة المخابرات الثلاثة: الموساد والسي آي إيه الأمريكية ومخابرات حلف الناتو؟ - من كان يتصور في أجواء الإحباط والهزيمة المخيمة أن تقلب المعارك بالكامل في المنطقة، على نحو يحدث نقلة نوعية مهمة في موازين القوى، تجاوزت بكثير ما حققه العبور المصري إلى سيناء عام 73»[5] .
هذا النصر والإنجاز العظيم كان يستحقّ احتفاء ممن يتطلّع إلى النصر، لكن يبدو أن هناك من تكيّف مع الهزيمة، وتربّى عليها، ولا يفكّر في الخروج من أوحالها، لذلك لا يفرح بهذا النصر، وصدق الله العظيم حينما قال: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ﴾[6] ، حيث يفرح بهذا النصر المؤمنون، في الوقت الذي يغيظ المنافقين والأذلاّء والخانعين.
إن هذا الإنجاز العظيم يشكّل منعطفًا في تاريخ المنطقة، وتاريخ العالم الإسلامي، وستبدأ آثاره ونتائجه، فالكل يعلم أن تحرير جنوب لبنان هو الذي مهّد لانتفاضة فلسطين، وهذا الإنجاز العظيم سيمهّد لبراكين وزلازل تزلزل أقدام وعروش الصهاينة ومَن خلفهم إن شاء الله.
وانطلاقًا من هذا الإنجاز العظيم الذي حققته المقاومة الإسلامية في لبنان، أودّ أن أسلّط الضوء على نقطة مهمّة أسهمت في تحقيق النصر، وهو: الخطاب الذي تبنّته المقاومة، وضرورة الاستفادة من خصائص ومميزات هذا الخطاب، وأخذ الدروس التي تتناسب مع واقع وخصوصيات المجتمعات التي نعيش فيها وننتمي إليها.
فهذه الدروس هي التي قد نكون بحاجة إليها، لأن الجانب العسكري والجهادي يتعلّق بخصوصية الوضع في لبنان، ويستفيد منه مَن يعيش نفس هذه الظروف أو ما يشابهها، ولكن ما يمكن أن يخدم مجتمعاتنا هو الخطاب المتزن الذي تبنته المقاومة طوال مسيرتها الطويلة والذي لم تخرج عنه. لإن هذه المقاومة لم تكن مجرّد صواريخ ومدافع فقط، كانت قبل ذلك فكرًا وخطابًا.
وهذا الخطاب المتميّز الذي قدمته المقاومة ينبغي أن ينال منّا الاهتمام والتأمّل والدراسة، لأن خطاب أي جماعة له تأثيره الداخلي والخارجي.
الخطاب هو الذي يربّي الجمهور ويوجهه، فإذا كان الخطاب سليمًا وجّه الجمهور في الاتجاه الصحيح، أما إذا كان سيئًا فإن النتائج بالطبع ستكون سيئة.
من هنا يجب أن يهتمّ قادة كل مجتمع وذوي الرأي فيه بالخطاب الذي يوجهونه لجمهورهم، لأنه يبني فكر وسلوك الجمهور.
وكما يؤثر خطاب أي جماعة في جمهورها، فإنه يعكس صورتها للآخرين، فالآخر عندما يريد التعرّف على ثقافة أي جماعة وفكرها يراقب خطاب نخبتها، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قوله: «اللسان ميزان الإنسان»، وورد عنه : «لسانك ترجمان عقلك»، وقوله : «يستدل على عقل كل امرئ بما يجري على لسانه».
لذلك إذا أرادت جهة مّا أن تدرس وضع مجتمعٍ فإنها تتابع الخطاب السائد في أجوائه، وتحاول أن ترصد ما يدور فيه من حديث على المنابر، وما يُلقى من إرشادات داخل المساجد، وما يُكتب وينشر في وسائل الإعلام، وهذا الخطاب هو الذي يرسم أمام الآخر صورة المجتمع.
لأن المتابع والراصد لحركة المجتمعات لا يستطيع أن يلتقي مع كل أفراد المجتمع، لكنّه يفترض أن هؤلاء الخطباء هم الموجهون لهذا المجتمع، فكلامهم يرسم له صورة عن المجتمع.
وفي هذا العصر ربما لا يحتاج الآخر ـ كي يتعرّف على خطابنا ـ أن يأتي لمجتمعاتنا ويدخل لمؤسساتنا من مساجد وحسينيات، فأشرطة الكاسيت والإنترنت والوسائل المختلفة حاضرة وموجودة، فإذا أراد البعض أن يتعرّف على ثقافة وواقع مجتمعٍ معين فإنه يبحث في أبرز مواقع الإنترنت الخاصة بذلك المجتمع، ويستطلع المقالات والأخبار الموجودة عليها. وهذا ما هو متداول في كثير من مراكز الدراسات والأبحاث.
إن من أهم أسباب انتصار المقاومة الإسلامية في لبنان ومعالم قوتها وتقدّمها هو خطابها الرصين الرزين، وهو تطبيق لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾[7] .
فالله تعالى بعد أن يأمر المجتمع الإيماني بتقوى الله يأمرهم بالقول السديد.
و(السديد) من أحد معنيين، إما من السداد بمعنى الصواب، فعندما يقال: (قول سديد) أي: قول صائب، كما يقال تسديد الرمية، أي توجيهها نحو الاتجاه المحدّد توجيهًا صحيحًا، فيكون معنى الآية أنه يطلب من المؤمنين أن يحدّدوا ما يريدون قبل التحدّث وعدم التحدث بشكل عشوائي.
وإما أن يكون من (السدّ)، أي الإحكام والمنع، فيكون المعنى: اجعلوا خطابكم محكمًا خاليًا من الثغرات.
﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾: حيث أن الخطاب له دور في بناء المجتمع على أسس صحيحة، ورسم صورته الحسنة الصالحة.
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾: إذ الخطاب الصحيح يُغطي على بعض السَّوءات والعورات ويعالجها، في حين أن الخطاب الخاطئ يكشف العورات وثغرات المجتمع، وينتج المشاكل والسلبيات.
امتاز خطاب المقاومة الإسلامية في لبنان بالإحكام والرصانة، وذلك في ثلاثة جوانب:
الأول: أنه خطاب دعوة للبناء
إن خطاب المقاومة يحمل في داخله دعوة للبناء والعمل، في مقابل خطابات البعض التي غالبًا ما تكون خطابات تذمّر وتشكّي، هذه الخطابات لا تقدّم حلولاً، ولا مشروعًا بديلاً للوضع السيئ.
والخطاب الداعي للبناء يحفّز العاملين في أي مجتمع إلى تحسس حاجات مجتمعاتهم، وتوجيه خطابهم إلى هذه الحاجات، وتقديم الحلول، وعدم التشاغل عن ذلك بقضايا ثانوية، فتقديم الحلول والمشاريع البديلة والعملية غائبة في أكثر مجتمعاتنا، لأن كثيرًا ممن ينتجون الخطاب لا يحملون مشروعًا أو لايتبنّون هموم المجتمع وآلامه، وإنما هم جزء من الحالة العامّة من التذمّر واجترار الغبن فقط لا غير.
وقد وجدنا كيف أن المقاومة الإسلامية في لبنان تحدّثت عن ضرورة أن يتّجه اللبنانيون للبناء، وترميم المنازل، ولمعالجة كثير من المشاكل التي سببتها الحرب، ودعت إلى بدء ورشات الإعمار في كافّة المناطق اللبنانية في الوقت الذي تشيّع فيه شهداءها، وربما قبل أن تبدأ بتشييعهم.
الثاني: أنه خطاب متعقّل
المقاومة الإسلامية في لبنان مقاومة دينية تنطلق من الدين، لكنها لا تطرح الدين من زاويته الحادّة، بل تطرحه بخطاب متعقّل واعٍ، بعكس بعض الفئات الدينية التي تطرح الدين بشكل متزمّت ومتشدّد، وقد نشرت بعض وسائل الإعلام مثلاً عن بعض الحركات الإسلامية في الصومال أنها منعت مشاهدة مباريات كرة القدم، وأغلقت دور السينما، وهو أمر مشابه لتجربة حركة طالبان في أفغانستان.
إن تناول الدين من زواياه الحادّة غير مقبول، لأنه يشوّهه، وقد بدأنا نرى بعض بوادر هذا الطرح في العراق، حيث نشرت وسائل الإعلام عن بعض الفئات الإسلامية المتشدّدة أنها بدأت بالتوجّه إلى الحلاّقين الذين يحلقون اللحى وبعض قصّات الشعر الغربية والقيام باختطافهم وقتلهم.
وفي مقابل هذه الحركات الدينية المتطرّفة تقف المقاومة الإسلامية في لبنان كحركة دينية ـ مع التزامها بالأحكام الشرعية ـ تتحدّث عن الدين بتعقّل ومن الزوايا الواسعة المنفتحة.
وفي الإطار المذهبي فإن المقاومة لا تخفي تشيعها، لكنها لا تطرح التشيّع من زاويته الحادّة، ويمكننا أن نلاحظ هذه النقطة بجلاء في خطابات أمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصر الله ـ حفظه الله ـ حينما يحاضر في ليالي عاشوراء، حيث يعرض قضية أهل البيت ويعرض التشيّع بشكل يستقطب المسلمين بجميع أطيافهم ومذاهبهم ،بل كل البشر الواعين والمتطلعين للحرية والكرامة.
وفي خصوص انتمائها السياسي والفكري، فإن المقاومة تعلن ارتباطها الوثيق بالجمهورية الإسلامية في إيران، وبالمرجعية والقيادة الدينية فيها، ولكن خطابهم خطاب وطني، فيتحدّثون عن لبنان، ويرفعون علم بلادهم، ويبدأون في جميع احتفالاتهم بالنشيد الوطني اللبناني، ويتحدثون في جميع خطاباتهم عن تحرير الأراضي اللبنانية والأسرى اللبنانيين، والقوّة الدفاعية للدولة اللبنانية، ويشاركون في مجلس النواب اللبناني والحكومة اللبنانية.
وهذا بعكس بعض المجاميع التي تطرح التشيّع ومذهب أهل البيت بشكل منفّر وقاس في مخاطبته للآخر المسلم، وعندما يعلن انتماءه للمذهب، واتباعه للمرجعية الدينية، ويبدي تعاطفه مع بعض القيادات الدينية الشيعية وتعاطفه مع قضايا الجمهورية الإسلامية في إيران، يعطي رسالة خاطئة بأسلوبه المثير للآخرين الذين يقاسمونه الوطن، ويجد قسم كبير ممن يتحدّثون عن ولاء الشيعة للخارج ضالتهم في مثل هذه التعبيرات والتصرفات الخاطئة، التي لا تخدم المذهب والوطن، ولا ترضى عنها المرجعية والقيادات الدينية الحكيمة، لأنه ليس المطلوب من التجمعات الشيعية أن تبرز نفسها وكأنها فصيل مختلف عن بقية شرائح الوطن الذي يعيشون فيه، وإنما المطلوب أن يكون خطابنا خطاب تطمين يوثّق الصلة بيننا وبين الآخر، ويكّرس الولاء والانتماء الوطني.
ولنا في تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان خير درس في هذه النقطة، فمن يتابع خطابات السيد حسن نصر الله خلال فترة الحرب يرى أنها انصبّت كلها حول الهمّ والشأن اللبناني، والمعركة التي يخوضونها، وهذا من التعقّل، ويكشف عن أن هذه الفئة تحمل مشروعًا لوطنها والأمّة.
الثالث: أنه خطاب انفتاح على الآخرين
كانت المقاومة ولا زالت تتجنب الدخول في معارك جانبية، فحتى الذين يتحدّثون ضدّهم فإن القيادة في المقاومة تدافع عن نفسها ولكن بحكمة وهدوء.
والمتابع يرى كيف أن بعض الذين يختلفون مع المقاومة يكون خطابهم متشنجًا ضدّها، بينما المقاومة يكون خطابها هادئًا متعقّلاً متوازنًا، لأن المطلوب من أي إنسان أن يزيد من كسبه للأصدقاء ويقلّل من أعدائه أو درجة العداء عندهم على الأقل.
وهذا بخلاف البعض الذين يبحثون عن الفرصة ضد كل من يخالفهم الرأي ووجهة النظر، وكأنهم يستمتعون بالصراع مع الآخرين. وفي هذه النقطة يجب أن أوضح أنه ليس من الخطأ أن نردَّ على ما يثار ضدّنا، ولكن الردّ نوعان: منه ما يبعّدك عن ساحة الآخرين ويجعلك شخصًا مقصيًّا مبعدًا، ومنه ما يقرّبك منهم ويجعلك في موقع أقوى ممن أساء إليك، يقول تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾[8] .
إن هذه الجوانب الثلاثة لخطاب المقاومة نحن بحاجة إلى تمثّلها والاستفادة من تجربة المقاومة بخصوصها، وذلك حتى يكون خطابنا على المنبر، وكلمات الجمعة، وكتباتنا على الإنترنت والصحف ووسائل الإعلام الأخرى في هذا الاتجاه، ومن الضروري أن نعي ونقدّر أهمية هذا الأمر، لأن خطيب المنبر حينما يوجه خطابه للجمهور يتحمّل مسؤولية كبيرة في توجيه المجتمع، وهذه الشريحة التي تصغي لخطابه بدورها تتفاعل مع شرائح أخرى تشاركها الوطن، وعلى الخطيب أن يوجه لجمهوره خطابًا يعزّز هذا التفاعل في الاتجاه الإيجابي.
نسأل الله تعالى أن يكمل للمقاومة وللشعب اللبناني تحقيق النصر بالنجاح في معركتهم السياسية، وحفظ وحدتهم، ونسأله تعالى أن يتغمد أرواح الشهداء بواسع الرحمة، وأن يلهم ذويهم الصبر والسلوان، ويمّن على المصابين بالشفاء العاجل،إنه سميع الدعاء.
والحمد لله رب العالمين.