الحقوق الشرعية وتجربة شرقية في الشفافية
للسنة الثالثة على التوالي تستمر مبادرات وتجديدات الشيخ حسن الصفار ليلتقي بمجاميع الشباب الذين يؤدون فريضتهم الدينية (الخمس) ليكونوا على موعد لا ينتظره غالبيتهم إن لم أقل كلهم، نظراً لثقتهم واطمئنانهم للشيخ وحكمته وعفته في التصرف والتعامل مع الأمور المالية.
كان اللقاء في ليلة الجمعة الماضية وقد ناهز الحضور 150شخصاً، ليبدأ الشيخ الحديث بعد التبرك بآيات القران الكريم، وليأخذ الحاضرين بأسلوبه الشيق إلى عالم رحب من الوضوح والصراحة والأريحية والحديث المباشر عن هذه الفريضة الدينية، ولينقلها من عالم الأسئلة والتصورات المتضاربة إلى حيث الجواب والنور والوضوح والملامسة المباشرة من طرف المكلف ليشعر وجدانا بحركة أمواله وفائدتها لمجتمعه وعطائها لدينه.
كل ما وصل خلال عام كامل من الحق الشرعي أظهره جهاز العرض برقم كبير ليراه الحاضرون واضحاً بيناً لا لبس فيه، ثم تعاقبت شرائح العرض لتبين المصارف التي سلكها ذلك المال المحدود، فشريحة تتحدث عن المبالغ التي وصلت للجمعيات الخيرية بأسمائها ومناطقها، وأخرى عن المبلغ المصروف لأهل الحاجة من الفقراء والمحتاجين، وثالثة للمبلغ الذي كان من نصيب بعض طلبة العلم، ورابعة عن المال الذي دفع من أجل المساجد والحسينيات، وخامسة عن المبالغ التي صرفت في مشاريع الزواج ومساعدة المقبلين عليه.
ثم تلا ذلك شرائح تتحدث عمّا أُنفق على طباعة الكتب الدينية والثقافية، وشرائح تتحدث عن الإنفاق في الشأن الاجتماعي التنموي كدعم صندوق المئوية واللجان الأهلية لمساعدة المحتاجين، ومؤسسات الإنشاد الديني، ولجان تعليم القرآن الكريم وغيرها.
وحين انتهى العرض كان المجال رحباً للحوار والنقاش والسؤال في كل ما يرتبط بالموضوع، فهل جهات الصرف مقبولة؟ هل يرى الحاضرون خطأ في الصرف أو تقتيراً؟ هل يقترحون جهات أخرى تستحق أن يصرف لها من أموال الحقوق الشرعية؟ هل هناك نقد؟ هل هناك رأي؟ هل هناك اقتراح؟ اللاقط بين أيديكم والوقت ملككم والرجل جاهز للمساءلة.
هكذا مرت ليلة الجمعة، من جهتي شخصياً تحركت بين الموجودين مع انتهاء الجلسة لأسألهم عن آرائهم وتقييمهم، فرأيتهم يشكرون ويُكْبِرون هذا اللقاء، وطريقة العرض التي شاهدوها.
في تصوري القاصر أن مثل هذه اللقاءات يجب أن تعم وأن تنتشر ليس في هذا الموضوع فحسب بل في كل المواضيع ذات الصلة بالمجتمع وبواقع حياته ودينه وفرائضه التي فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده، ليكون المكلف مطمئناً متيقناً، مع علمنا أن الناس تمتلك من الثقة ما يكفي مع علمائها، لكن وكما قال القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ (البقرة:260)، مع ما في هذه اللقاءات من فوائد كثيرة، يمكن الإشارة إلى بعضها ضمن نقاط:
-1 الشفافية والوضوح
صحيح أن هنالك ثقة قوية بين معطي الخمس ومستلمه، لكن الصحيح أيضاً أن المشافهة والمكاشفة تزيد الثقة وتوطدها، وفوق ذلك تجعل الطرف المعطي في تمام الصورة وحقيقتها، ما يشجعه على المداومة والتواصل في الخير والعمل الصالح، وأداء ما عليه من فرائض وحقوق.
المكاشفة والبيان في هذه الموضوعات تحول العطاء من عطاء تعبدي محض، إلى عطاء يشارك الجانب العبادي فيه حساً إنسانياً دافعاً، ووجداناً منسجماً مع التكاليف ومتجاوباً، ليؤدي المكلف عبادته بشوق ورضا رغم مشقة الموضوع المالي الذي يعبر عنه القرآن الكريم بزينة الحياة الدنيا ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف:46).
-2 المشاركة في القرار
يميل أغلب الناس إلى مطالبة السياسي بإشراكهم في القرارات التي يتخذها، ويصرون على ذلك ويتظاهرون أحيانا، لكنهم لا يطالبون الديني بإشراكهم في قراراته وآرائه، بل يعتقد البعض أن أمره من الله سبحانه وتعالى، في حين نرى رسول الله يؤمر من قبل الله سبحانه وتعالى بإشراك الناس ومشاورتهم في أمورهم، يقول تعالى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (آل عمران:159)، مع أنه المعصوم الذي يقول القرآن الكريم عنه ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم:3).
المشاركة في القرار والمشاورة في الرأي في موضوعنا الذي نتحدث عنه تجعل المكلف شريكاً في قرار الصرف ووصول المال إلى مستحقيه، بعد أن يوضح له ضوابط الشارع في التصرف في أموال الحقوق الشرعية(الأخماس).
-3 ثم أنه في تشخيص الموضوعات الخارجية، لا نستطيع أن نجزم بأن الديني أو العالم أدق في التشخيص من الناس، بل ربما تكون معرفة الناس وخبرتهم بهذه المواضيع أكثر من الديني.
بل الجدير بالعالم أن يجعل له في كل مجال من مجالات التواصل والتعاطي الاجتماعي مشيرين وخبراء يساعدونه في تشخيص الكثير من المفردات، ويرشدونه إلى وضع الأمور في مواضعها، فلا يستطيع الإنسان أن يحيط بمفرده بكل شيء، ولا أن يستغني عن الناس، لأنه أعرف بأمور الدين، ذلك أن أمور الدنيا تحتاج كذلك إلى معرفة وخبرة تعصم رجل الدين عن الخطأ والزلل فيها، وهذه الخبرة ربما تتوفر في الناس بشكل ناضج وكاف ومفيد.
-4 الوضوح يجيب على الكثير من الأسئلة الحائرة في النفس، ويريح المكلف من الهواجس، ويجعله قادراً على مواجهة المسائلين حول هذا الموضوع الحساس، الوضوح وبكل صراحة أقول يمكنه أن يقف أمام التشكيكات التي تثار من هنا وهناك، بغرض صرف الناس عن هذه الشعيرة الدينية، كما أنها ترفع المبررات التي يتذرع بها البعض الآخر ويبرر بها انصرافه عن أداء تكليفه الشرعي.
-5 أخيراً... من المناسب جداً بعد أن يضع مجموعة من المكلفين ثقتهم بأحد من العلماء أن يقول لهم بوضوحه وشفافيته أن اختياركم كان مناسباً، وأن ثقتكم في محلها، واني حاضر لأي سؤال في أذهانكم عن إدارتي لما خصصتموني من الثقة، وعلى وجه الخصوص حين يعلم المكلفون أن هذه الصراحة وهذا الوضوح لم يوجبوه على من وثقوا به، وإنما هو مبادرة وتقدير منه لهم، واحترام لاختيارهم.