الشيخ الصفار في الليلة الثالثة: الإمام الحسين ونهجه في الدعوة والحوار
انطلاقًا من الآية القرآنية الكريمة: «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» تحدّث سماحة الشيخ حسن الصفّار في الليلة الثالثة من المحرّم حول النهج الحسيني في الدعوة والحوار، مركّزًا ذلك في ثلاثة محاور رئيسة، هي:
المحور الأول «سبيل التأثير على الآخرين» أشار فيه سماحته إلى أن الإنسان بطبيعته يسعى لأن يرى الآخرين على نهجه وطريقته ومعتقده، وخصوصًا ذلك الإنسان المتديّن الذي يجد في النصوص الدينية ما يدفعه بهذا الاتجاه. وفي هذه النقطة ينبّه الشيخ الصفّار على أن الإسلام ـ وسائر الأديان الإلهية ـ تتوسّل القناعة الشخصية في مسألة الدعوة والحوار، فالدّين ـ كمعتقد ـ لا يمكن فرضه بالقوّة والعنف، وهذا ما تشير إليه الآية المفتتَح بها الحديث.
المحور الثاني «أزمة الحوار في المجتمع الإسلامي» فرّق فيه سماحته بين الهدي الإسلامي المتمثّل في النصوص الشريفة والذي يدعو للحوار وبين الواقع الإسلامي الذي يعيش النزاعَ والصراع في كافّة مستوياته الفكرية والاجتماعية والمذهبية، حيث اعتبر أن هذه الحالة هي امتداد للحالة الجاهلية العصبية التي لم تتخلّص مجتمعاتنا من آثارها ورواسبها بعدُ.
المحور الثالث «قبسات من رؤية الإمام الحسين في الحوار مع الآخر» ركّز الشيخ في هذا المحور على عرّض بعض المواقف الحياتية للإمام الحسين التي يمكن من خلالها التعرّف على نهج الإمام في مسألة الحوار والتعامل مع الآخر والتأثير عليه، عنْوَنَها ضمن ثلاثة عناوين رئيسة، رتّبها كالتالي:
1. اللباقة في نقد الآخر.
2. تجنّب الجدل العقيم (الْمِرَاء).
3. إثارة الوجدان والضمير والقيم الهادية.
قال الله العظيم في كتابه الكريم:
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[1]
حديثنا سيكون تحت عنوان الإمام الحسين ونهجه في الدعوة والحوار ويشتمل على ثلاثة محاور:
من الطبيعي أن يجد الإنسان نفسه في هذه الحياة أمام من يختلف معه في الرأي، ومن تتضارب مصالحه مع مصالحه, فالناس يختلفون في آرائهم وأفكارهم وتوجهاتهم، وكل واحد من الناس يريد أن يحوز على أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب في هذه الدنيا، مما يسبب نوعاً من التضارب في المصالح بين الناس. وحينما يكون الإنسان أمام من يخالفه في الرأي فإنه قد يسعى لإقناعه برأيه إما انطلاقاً من حالة دينية باعتبار أن الدين يدفع المؤمن للتبشير به, والنصوص الواردة تؤكد ذلك، كالحديث الشريف: «لإن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت»[2] .
وفي بعض الأحيان يتجسد حب الذات لدى الإنسان في سعيه لنشر آرائه باعتبارها نوعاً من الانتصار للذات, وبذلك ينتابه السرور والفرح.
والسؤال المهم: ما هو السبيل للتأثير على الآخرين؟ وكيف أحافظ على مصلحتي حينما تتضارب مع مصلحة الآخرين؟
هناك طريقان:
وهنا يلجأ الإنسان للقوة حتى يفرض رأيه، بالطبع الفرض في المجال الفكري ومجال الرأي ليس صحيحاً وغير ممكن، كما أن لك عقلاً, فإن لغيرك عقلاً, فقد يختلف معك في التفكير, والله تعالى خلق الناس أحراراً في هذه الدنيا، فلا يصح لأحد أن يسعى لفرض رأيه على الآخرين حتى وإن كان معتقداً بأن رأيه حق, فكل واحدٍ يعتقد أن رأيه حق، وهذا الاعتقاد لا يبرر فرض الآراء على الآخرين, فالله سبحانه وهو رب البشر لم يفرض على الناس الإيمان به، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[3] . وكذلك الأنبياء والرسل الذين يحملون رسالة الحق للناس من قبل الله تعالى، لم يسمح لهم أن يفرضوا دعواتهم على الآخرين بالقوة وإنما دورهم يكمن في التبليغ: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾[4] ، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾[5] . فإذا كان الأنبياء والرسل لا يحق لهم أن يفرضوا رأي الحق ورسالة الحق على الناس, فهل يصح لأي واحد أن يقوم بهذا الدور؟
لكن بعض المتجبرين يسعون لفرض الرأي بالقوة، وفي تاريخنا الإسلامي نجد كيف أن بعض الحاكمين كانوا يسعون لذلك. وفي الواقع ليس إخلاصاً منهم لتلك الآراء، ولكن ذلك ممارسةً للتسلط والهيمنة على الناس، فلا يكتفون بالتسلط على أجساد الناس، وإنما يريدون أيضا التسلط على أفكارهم والتحكم بآراهم.
وهنا نذكر مثلاً واحداً:
المهدي العباسي الذي حكم الأمة الإسلامية 11 سنة (158 إلى 169)، في وقته تبنى شعار مواجهة الزنادقة، وهم الذين لديهم آراء تخالف الإسلام, فكيف واجههم؟ طبعاً ليس بالمنطق ولا بالحوار ولا بالدليل، ولكن بالسيوف. فأي اتهامٍ يصله ضدّ أحدٍ بأنه زنديق، يأمر بقتله. وبهذه السياسة صار هناك مجال للوشايات ولتصفية الحسابات، ويذكر أن وزيره أبو عبيد الله معاوية بن يسار، وكان أديباً عالماً وهو أول من صنف كتابا في الخراج, هذا الوزير حصل بينه وبين الربيع الحاجب سوء تفاهم فأراد الحاجب أن يصفي حسابه معه فوشي إلى المهدي أن وزيرك له ابن اسمه محمد وهو متهم في دينه. فقال المهدي: علي به, وقال: يا محمد أقرأ – القران – فاستعجم عليه القرآن (باعتباره شاب وفي حضرة الخليفة ارتبك ولم يستطع القراءة)، فالتفت إلى أبيه وقال له: يا معاوية ألم تخبرني أن ابنك جامع للقران؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكنه فارقني منذ سنين وفي هذه المدة نسي القرآن.
فقال المهدي: قم فتقرب إلى الله بدمه،فذهب ليقوم فوقع.
فتدخل أحد الحاضرين وهو العباس بن محمد قال: يا أمير المؤمنين إن شئت أن تعفي الشيخ، ففعل، وأمر المهدي بابنه فضُرب عنقه[6] .
هذه الطريقة لا يقبل بها العقل والدين، فما هو السبيل إذن؟
وهذا هو الطريق الذي يأمر به القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.
والحكمة من الإحكام، وهي وضع الشيء في موضعه. فحينما تريد أن تقنع شخصاً فاختر الكلام المناسب والدليل المناسب وبالأسلوب المناسب, والحكمة تعني مخاطبة العقل مع دليل وبرهان.
والموعظة الحسنة تعني: إثارة الوجدان والمشاعر الطيبة, بحيث لا تكون الموعظة خشنة.
وقد يكون لدى الطرف الآخر شبهة فكن مستعداً واستقبل رأيه وتناقش معه, فهذا هو هدي السماء وتوجيهه, بأن تتناقش وتتجادل معه بأفضل أسلوب وأحسن خطاب ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾
نحن نرى، وخاصة في هذا العصر، أن المجتمعات المتقدمة قطعت شوطاً في النضج في تعاملها الداخلي مع مشاكلها الفكرية, والسياسية, وفي المصالح المختلفة, فهم يختلفون ولكن يتناقشون ويتحاورون ويصلون إلى حل وسط، ويتعايشون مع اختلافاتهم المتنوعة وفي مختلف الميادين والأبعاد. لكن، مع الأسف، في مجتمعنا الإسلامي، هذا المجتمع الذي كان يجب أن يكون نموذجاً في علاقاته الداخلية، بنص القرآن الكريم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَر﴾[7] ، بينما نجد واقعنا لا يعكس تلك الصورة المشرقة التي يريدها لنا القرآن الكريم. ولذا تجد مجتمعاتنا تعيش أزمات متعددة على هذا الصعيد، وهذه الأزمات على نوعين: أزمات متفجرة، وأخرى نار تحت الرماد يُمكن أن تتفجر في أي يوم. لماذا؟
لأننا لا نسلك طريق الحوار، وهذا قد يكون من تأثير العصبية الجاهلية، بعكس الهدي الإسلامي الذي ربّى هذه الأمة عبر الهدى القرآني والنبوي، والذي من أبرز معالمه: التسامح, الاحترام المتبادل, التعاطف، ولكن رواسب العصبية الجاهلية، لم تتلاشى. وفي بعض الأحيان تحصل فتن ومشاكل وصراعات دون مبرر وسبب.
فقد نقل عن سبب أحد المعارك الكبيرة في تاريخ العرب أن رجلا مدَّ رجليه في وسط الطريق وصاح: من كان رجلا فليبعد رجلي عن هذا الطريق. أحد المارّة لم يتحمل هذا الكلام، فأخذ سيفه وقطع رجله. وبسبب هذا الحدث البسيط حصلت بين القبيلتين حربٌ شعواء نتيجة تصرف أحمق.
وفي واقعنا الاجتماعي الأمر شبيه بذلك، ونطلع أحيانا على حرب بعض المشاكل وعند التدخل لحلها نجد أن أصلها تافه ولا يستحق أن تحصل بسببه مشكلة.
وتجد هذه الحالة سائدة في محيطنا الإسلامي والعربي وعلى مختلف الأصعدة والمستويات سواءً: العائلي أو السياسي أو الاجتماعي أو المذهبي ولذلك ترى بلدان المسلمين في أفغانستان وفلسطين ولبنان والعراق والصومال ودار فور في السودان مشاكل متعددة وهكذا بقية المناطق. والسؤال لماذا هذه المشاكل المتراكمة في المحيط الإسلامي والعربي؟ بينما نجد انخفاض مستوى المشاكل في المجتمعات الأخرى، أليس عندهم تضارب في المصالح أيضاً؟ بلى والمصالح هناك أرقى بكثير مما هي عليه في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية. ونجدهم يختلفون وتتضارب مصالحهم، وما يُميزهم امتلاكهم لمنهجية في التعامل مع مشاكلهم. ونحن مع الأسف ليست عندنا هذه المنهجية.
وبلادنا لا تخلو من هذا النوع من المشاكل أيضاً ففي تاريخ 17/12/1427 قرأت في (جريدة اليوم) خبرين عن مناسبتين متباينتين الخبر الأول: يتحدث عن صراع في إحدى مناطق المملكة بين أشخاص حصل بينهم اختلاف في المقبرة، جاء في الخبر: أن المعزين اشتبكوا مع بعضهم البعض خلال تشييع الجنائز بسبب ملاسنة بين عدد منهم وأسفر الشجار عن إصابة البعض بإصابات مختلفة.
وتعود تفاصيل الواقعة إلى مشادة كلامية بين اثنين من المعزين إثر خلاف قديم بينهما تحول إلى تشابك بالأيدي. ثم تدخل بعض الحضور وتطور التشابك الى استخدام العصي وتحولت المقبرة إلى حلبة مصارعة، وقد ساهمت الدوريات الأمنية في تهدئة الخلاف، وقد أسفر التشاجر عن إصابة أربعة أشخاص إصابة احدهم بالغة.
مع العلم أن الإنسان في المقبرة ينبغي أن يتذكر الموت والحساب فيخشع قلبه، ولكن هذا ما حصل وكما قال الشاعر القديم: الحرب أولها كلام.
والخبر الآخر الذي نشرته الجريدة نفسها وفي نفس اليوم عن مدينة الخبر، يتحدث عن خلاف حوّل حفلة عرس إلى مأتم بسبب خلاف بين أهل العريس وأهل العروس، وسالت فيه الدماء، وتحول الفرح إلى حزن وانتهى في مركز للشرطة.
ما هذه الحالة المتخلفة؟
وتبرز حالة الخلاف واضحةً في المجال المذهبي، ومن آخر الأحداث، مؤتمر الدوحة في التقريب بين المذاهب الإسلامية، ومع أن المؤتمر للتقريب إلا أننا وجدنا حالة التشنج واضحة في بعض الكلمات التي ألقيت في المؤتمر. بالطبع وجود هذا اللقاء أفضل من عدمه، والمصارحة طريقٌ للتعارف وإيضاح الصورة للجميع، وهذا أفضل من أن تبقى الخلافات محبوسة في النفوس فيعيش الجميع حالة التباعد والاحتقان.
وكما ذكرت فإن الأفراد والجماعات في المجتمعات الناضجة إذا اختلفوا, يلتقون ويتحاورون حتى يصلوا إلى حل وسط ويتفقون على نقاط مشتركة، بينما في المجتمعات التي لا تمتلك هذا النضج فإن الاختلاف بين أفرادها يؤدي إلى القطيعة والتباعد.
وهنا نذكر حادثةً حصلت في التاريخ العربي لنبينا محمد قبل البعثة، وكان عمره الشريف خمساً وثلاثين سنة, عندما أراد العرب تجديد بناء الكعبة, وحصل بين القبائل خلاف حول أي قبيلة يكون لها شرف وضع الحجر الأسود في مكانه. هذا الخلاف كاد أن يؤدي إلى حرب ضروس لو لا أن أحد الحكماء أشار عليهم أن يحتكموا لأول من يدخل عليهم المسجد الحرام، وبالفعل اتفقوا على ذلك فكان أول من دخل عليهم رسول الله ، فلما أن رأوه قالوا: جاء الصادق الأمين، قبلنا به حكماً. فطرحوا عليه المشكلة. فقال: آتوني برداء واسع ووضع الحجر فيه، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة طرفاً من الرداء، حتى إذا اقتربوا من مكان الحجر استلمه رسول الله ووضعه في موضعه.
فالمشاكل لا تستعصي على الحل إذا أتيح للعقل أن يتدخل في الأمر.
واليوم تعيش أمتنا الإسلامية المشكلة المذهبية الطائفية والتي يراد تفجيرها في الأمة في هذا الوقت العصيب. ولو كانت المسألة بيد العقلاء لهان الأمر كثيراً، إلا أن الساحة متروكة للمتطرفين وللمتشنجين. إضافة لوجود إرادات مصلحية, سياسية, تريد أن تفجر أوضاع الأمة وتشغل الأمة بهذه المشكلة. وإلاّ فإن المذاهب ليس جديدة، والاختلاف المذهبي أمر تاريخي منذ أربعة عشر قرناً، وكنت أقول لبعض العلماء السنة كل الإشكالات التي عندكم على المذهب الشيعي قديمة، والإجابات التي لدينا قديمة قالها علماؤنا، فإلى متى نبقى في هذه القوقعة العمياء؟
هنا تكمن أهمية الحوار والتقارب. فلماذا التباعد؟ ولماذا الاتهامات؟ ولماذا نترك الفرصة للأعداء ليستفيدوا من هذه الخلافات على حساب مصالحنا وكرامتنا وحريتنا ومستقبلنا؟
وبالفعل هناك علماء في هذا العصر تحدثوا بصوت العقل والمنطق، منهم الإمام الشيخ علي – ابو الحسن – الخنيزي رحمه الله (1291 هـ – 1363هـ) الذي ألف كتاب (الدعوة الإسلامية إلى و حدة أهل السنة والإمامية)[8] فيما يزيد على الألف صفحة.
وكذلك الشيخ محمد صالح بن الشيخ علي بن الشيخ سليمان آل الشيخ مبارك (1318هـ - 1394هـ) هذا العالم الكبير سليل الأسرة العلمية والذي حاز على إجازات اجتهاد من بعض كبار علماء عصره كالشيخ عبدالكريم الزنجاني والإمام الشيخ محمد كاشف الغطاء، وتولى القضاء في منطقتنا عام 1376هـ حتى وفاته، يعني ثمانية عشر عاماً، وقد تلمذ على يديه كبار علماء المنطقة أمثال الشيخ فرج العمران والشيخ منصور البيات والشيخ منصور السيف والشيخ أحمد السنان والشيخ محمد صالح البريكي.
أقول: هذا العالم الكبير له كتاب اسمه (الدعوة في كلمة التوحيد)[9] اتبع فيه طريق التقريب بين المسلمين ودعوتهم إلى فهم بعضهم البعض قبل أن يكيل أحدهم الاتهامات الجائرة لإخوانه، مؤكدا على أهمية الوحدة في كل حال وزمان ومكان.
فما أحوجنا إلى الأصوات التي تتحدث بصوت العقل والمنطق، حتى نعالج الأمور بالحوار وليس بالتهييج ولا بالتهريج ولا بالتعبئة. وعلينا أن نعي الأمر جيداً فإلى أين ستصل بنا هذه التعبئة والتعبئة المضادة؟
نحن أبناء وطن واحد، وكلنا في قارب واحد وبلادنا محسودة من الأعداء، فلماذا نعطي الفرصة للأعداء؟ والمشكلة الكبرى أن آثار التعبئة تظهر على حياة المواطنين وعلاقاتهم مع بعضهم عندما يلتقي أبناء الوطن في مختلف الأماكن كالدوائر الحكومية، والجامعات والمدارس والأماكن العامة، وهذا خطرٌ كبير يجب علينا أن نُجنّب بلادنا منه.
كثير من الناس يعرفون عن الحسين بأنه مظلوم, ويعرفون عن المآسي والآلام التي تحملها الحسين ، وهي عظيمة وهامة. ولكننا أيضاً يجب أن نتعرف على مدرسة الإمام الحسين ونهجه على صعيد الدعوة والحوار.
فمن كلماته أنه قال: «لا تتكلمن فيما لا يعنيك، فإني أخاف عليك الزور، ولا تتكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى للكلام موضعاً، فرب متكلم قد تكلم بالحق فعِيب. ولا تمارين حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك»[10] .
وفي الفقرات التالية بعض القبسات من سيرة الإمام الحسين في إطار الموضوع الذي نتحدث فيه.
حينما ترى إنساناً مخطئاً في رأيه أو تصرفه فإنه ينبغي أن تحاول إرشاده، ولكن بلباقة، والبعض من الناس لا يجيدون هذا الأسلوب فتراهم يستخدمون التوبيخ والردع وهذا خطأ.
فلنتأمل هذا الموقف من حياة الإمام الحسين : مرّ الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام وهما صغيران على شيخ يتوضأ وهو لا يحسن الوضوء, طبعاً المسئولية تقتضي توجيهه وإرشاده، وباعتبار أن الرجل كبير في السن وهما صغيران، فكّرا في أسلوبٍ لبق بحيث لا يجرحا مشاعر الرجل وأحاسيسه، فالهدف إرشاده, أقبل أحدهما عليه وقال: «أيها الشيخ كن حكما بيننا يتوضأ كل واحد منا»، فتوضئا ثم قالا: «أينا أحسن؟»، قال: كلاكما تحسنان الوضوء ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن وقد تعلم الآن منكما وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمة جدّكما[11] .
روي أن رجلا قال للإمام الحسين : اجلس حتى نتناظر في الدين. فقال : «يا هذا أنا بصير بديني مكشوف عليّ هداي فإن كنت جاهلا بدينك فاذهب واطلبه؟، مالي وللمماراة! وإن الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول: ناظر الناس في الدين كيلا يظنوا بك العجز والجهل»[12] .
وهذا درس بليغ جداً يجب أن نتأمل فيه, إن الإنسان ينبغي أن لا ينساق إلى الجدل العقيم. وأحب أن ألفت النظر إلى أن هذا الكلام الطائفي المذهبي الموجود في الأجواء يريد إشغال الناس بالجدل العقيم, ونصيحتي لنفسي ولجميع إخواني المواطنين بأن يتجنبوا الدخول في هذا الجدل.
في بعض الأحيان ترى في المدرسة, أو الجامعة, أو في أي مكان جدلاً من وحي ما يسمعه الناس من الفضائيات، ويتصور البعض أن واجبه الدفاع، وإذا لم يناقش يُصبح ضعيفاً، ومن هذا المنطلق يندفع الكثير للتجاوب مع هذه المجادلات العقيمة، والتي لا يُعلم إلى أي ستنتهي. فلا يتصور البعض أنه باستجابته يخدم المذهب والعقيدة، فهذا التصور خاطئ.
وفي كثير من الأحيان يكون هدف الطرف الآخر من النقاش التعبئة واصطناع المشكلة, وقد شاهدنا وسمعنا الكثير على هذا الصعيد. ولهذا القرآن الكريم يصف المؤمنين في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾[13] ، ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾[14] .
لوا قرأنا كتب الحديث كالكافي وبحار الأنوار نجد روايات كثيرة عن أئمتنا حول المناظرة والجدل والمراء في الدين، وهي تنهى عن هذه الحالة، الإمام الصادق يقول: «إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عز وجل»[15] ، «لا تخاصموا الناس لدينكم، فإن المخاصمة ممرضة للقلب... دروا الناس فإن الناس قد أخذوا عن الناس»[16] . والواضح أنك لا تستطيع تغيير قناعات الآخرين لأنهم أخذوا معارفهم من مشايخ يعتبرونهم أجلاء ويحترنموهم، وهناك رواية عن الإمام الباقر تؤكد على ضرورة الابتعاد عن الجدل والمناظرات العقيمة فتصف الشيعة بوصفٍ عجيب، يقول الإمام : «إنما شيعتنا الخرس»[17] ، تعبيراً عن ابتعادهم عن هذه الحالة العقيمة.
حتى أن بعض تلامذة الإمام الصادق قال للإمام : بلغني أنك كرهت مناظرة الناس؟ قال : «أما كلام مثلك فلا يكره، من إذا طار يحسن أن يقع، وإن وقع يحسن أن يطير، فمن هكذا لا نكرهه»[18] ، وقال عبدالأعلى: قلت لأبي جعفر : إن الناس يعيبون عليّ بالكلام، وأنا أكلم الناس. فقال : «أما مثلك من يقع ثم يطير فنعم، وأما من يقع ثم لا يطير فلا»[19] .
من هنا نؤكد على أن أي شخص لديه المقدرة على معالجة الموقف بالطريقة السليمة يصح له أن يناقش, أما إذا كان عاجزاً عن ذلك كأن تكون معارفه محدودة، أو لا يقدر على ضبط أعصابه فإن الجدل ليس من مصلحته، وإن المذهب لا ينتصر بالجدل، إنما ينتصر بالعمل الصالح.
في طريق الإمام الحسين إلى العراق مرّ بمنطقة تًسمى (زرود) ووجد هناك خيمة زهير بن القين ، وكان عثماني الهوى، أي ممن يؤيدون الطلب بثأر عثمان، وبالتالي موقفه متأثر بالموقف الأموي. تُشير الروايات إلى أن زهير كان حريصاً على مخالفة الحسين في الطريق حتى لا يتورط في لقائه ولذا لم يتفق أن وقف ركب الحسين وركب زهير في مكانٍ واحد طيلة طريق الحسين إلى العراق إلا في هذه المنطقة (زرود) إذ لم يكن لزهير خيارٌ آخر.
فبعث إليه الإمام رسولاً يدعوه إليه، قال الراوي: فبينا نحن جلوس نتغذى إذ أقبل رسول الحسين فسلم، وقال: يا زهير بن القين إن أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه، قال: فطرح كل إنسان ما في يده حتى كأننا على رؤوسنا الطير.
فقالت له زوجته: أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ؟ سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ! فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه، فأمر بفسطاطه ومتاعه فحمل إلى الحسين، ثم قال لامرأته: أنت طالق! الحقي بأهلك، فاني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير، ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فانه آخر العهد.
وفي رواية: من أحب منكم الشهادة فليقم ومن كرهها فليتقدم.
إني سأحدثكم حديثا غزونا (بلنجر) ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسي: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم ؟ فقلنا: نعم. فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمد - وفي رواية: سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم فأما أنا فاستودعكم الله فقالت له زوجته: خار الله لك وأسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جد الحسين [20] .
وفي موقف آخر مع أشد الأعداء للحسين والذي قاد الجيش ضده وهو عمر بن سعد، مع ذلك تجد الإمام الحسين وفي اليوم التاسع من المحرم يطلب من ابن سعد اللقاء، فيتمنع، وفي الأخير وافق، تقول الرواية:
قال له الحسين : ويحك يا بن سعد ! أما تتقي الله الذي إليه معادك أراك تقاتلني وتريد قتلي, وأنا ابن من قد علمت دع هؤلاء القوم, واتركهم وكن معي, فإنه أقرب لك إلى الله تعالى.
فقال له: يا حسين إني أخاف أن تُهدم داري بالكوفة, وتنهب أموالي.
فقال له الحسين : أنا أبني لك خيراً من دارك.
فقال: أخشى أن تؤخذ ضياعي بالسواد.
فقال له الحسين: أنا أعطيك من مالي البغيبغة وهي عين عظيمة بأرض الحجاز, وكان معاوية، أعطاني في ثمنها ألف ألف دينار من الذهب فلم أبعه إياها, فلم يقبل عمر بن سعد شيئاً من ذلك.
فانصرف عنه الحسين – عليه السلام – وهو غضبان وهو يقول: ذبحك الله يا بن سعد على فراشك عاجلاً, ولا غفر لك يوم حشرك ونشرك, فو الله إني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا يسيراً.
فقال له عمر بن سعد مستهزئاً: يا حسين إن في الشعير عوضاً عن البر[21] .
هذا هو نهج الإمام وسيرته، فحريٌ بالأمة أن تستقي من هذا النهج النبوي ما ينير لها طريق التقدم والازدهار.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله الطاهرين.