الشيخ الصفار في مهني القطيف: ثقافة حب العمل تصنع الحضارة
«الحضارة وليدة العمل الدؤب، وأمتنا الإسلامية كانت تحمل مشعل الحضارة يوم كانت مددنا مراكز الإشعاع في العالم»
عبارات رنانة افتتح بها سماحة الشيخ حسن الصفار كلمته في حفل تكريم المتقاعدين والمتميزين في معهد المهني بالقطيف، يوم الأربعاء 19/5/1428هـ.
وقال الشيخ الصفار: نحن نشاهد اليوم البلدان المتقدمة وما تقدمه من تطور علمي وتكنولوجي وصناعي، وفي المقابل نرى أنفسنا بمثابة ضيوف على حضارة تلك المجتمعات، هم يخترعون وينتجون، ودورنا استهلاك ما ينتجون!
كلنا يطمح أن نعيش اكتفاء ذاتياً كأمة مسلمة، بل نطمح أن نعود إلى سابق مجدنا حينما كنا رواداً على وجه الكرة الأرضية، كانت أمتنا الإسلامية هي الأمة الرائدة، وكانت بقية الأمم والشعوب ترسل أبناءها للدراسة في مراكزنا العلمية، وكانت تستفيد من آراء علمائنا ومفكرينا في جميع العلوم، ولكن دورة الزمن وأحداث التاريخ فعلت فعلها، فأصبحت أمتنا الإسلامية في آخر الركب، وهكذا هي الحضارات، فكل حضارة لها دورة وزمن، إذا لم تحافظ على مقومات قوتها ورثتها أمة أخرى، وكما يقول تعالى: من ﴿وورثها قوم آخرون﴾.
وأضاف: «إننا اليوم نشعر بألم هذه الحقيقة وهي لاتحتاج إلى شرح وتفكير، كما أن بلاد المسلمين تتفاوت من بلاد إلى أخرى في نسبة اكتفائها، واستقلالها العلمي، ونحن بحمد الله نعيش في بلد من خير البلاد، لأن الله كرّمه باحتضان الحرمين الشريفين، كما أن الله أنعم علينا بثروة هائلة عظيمة، هي الثروة النفطية التي تدفقت من أراضينا، وبحمد الله فإن أوضاعنا السياسية إذا ما قسناها ببلدان أخرى فإننا نعيش استقراراً وأمناً سياسياً، وإن كان الأعداء يسعون لتخريب هذه المسيرة عبر تسلل بعض الفئات الإرهابية الضالة، والتي نرجو أن يعين الله قادة البلاد بتعاون المواطنين على وضع حد لخطر هذه الفئات الإرهابية، ولكن مع ما لدينا من نعم وثروات إلا أننا نستعين كثيراً بالآخرين لتسيير أمور حياتنا، وخاصة في الجانب المهني».
وبيّن الشيخ الصفار أن الحياة في الماضي كانت بسيطة، وكان أبناء البلد يسيّرون أمور معيشتهم وحياتهم الاقتصادية بأنفسهم، كان منهم البحار، والنجار، والحداد، والبناء، وغير ذلك من الحرف، ولكن تطورات الحياة، وهي تطورات طبيعية، كانت سبباً في تغير أنماط الحياة.
وقال مؤكداً: «إن هذا التغير والتطور، لم يواكبه تخطيط مدروس، بحيث يقلل من خسائر مرحلة التغير والتحول، لذا أصبحنا نعيش حالة لا أعتقد أننا نرتاح لها، حيث الاعتماد على العمالة الأجنبية في مختلف مجالات حياتنا».
وقد ألفت سماحة الشيخ إلى أنه لا يدعو إلى وضع الحواجز والسدود أمام العمالة الأجنبية، قائلاً: «هذا غير ممكن، بل بالعكس قد نحتاج في صناعتنا ونهضتنا إلى الاستفادة من الشعوب الأخرى، فأمريكا والدول الغربية تتنافس على جذب الكفاءات، مع فارق أنهم يجذبون الكفاءات والعقول، ونحن لا نزال في مرحلة جذب الايدي العاملة!
نحن بحاجة إلى الايدي العاملة حتى لو اشتغل جميع أبناء الشعب، فإن هناك حاجة للأيدي العاملة، ولكن المؤسف هو المبالغة في الاعتماد على العمالة الأجنبية، في الوقت الذي نعاني فيه من مشكلة بطالة، والبحث عن لقمة العيش!».
وأضاف: «لعل البعض في ذهنه أن على الحكومة أن توفر راتباً لكل مواطن، منذ ساعة الميلاد، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى العمل، لكننا حينئذ سنكون شعبا كسولاً، سنكون شعباً هامشياً في حياته، ونحن لا نتمنى لأنفسنا».
ثم أشار سماحته إلى المعالجة الصحيحة لمشكلات البطالة والتي يحددها في: «تنمية الكفاءات والقدرات، وسد الحاجات التي يعانيها سوق العمل في بلادنا».
وحذر الشيخ الصفار من أن مجيء العمالة الوافدة من الخارج بهذه الأعداد الضخمة مع وجود حالة من البطالة في البلد، يؤدي إلى نتائج مدمرة، وأولها الاقتصاد، وقال: «إن المملكة هي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية على مستوى العالم في مجال التحويلات المالية من العمالة الوافدة، فالتقارير تقول أنه يتم تحويل 149 مليار دولار من المملكة سنويا بينما في أمريكا 341 مليار دولار، وهذا مبلغ ضخم لو استثمر نصفه داخل البلاد لكان عائده كبيراً على الوطن وأبناء الوطن».
وأضاف: «في بلادنا 7 مليون عامل أجنبي هذه العمالة تمارس مختلف المهن والحرف وبعضها، ليست صعبة المنال وممكن أن يتعلمها المواطن بسرعة، فلو أننا اجتهدنا في تنمية كفاءاتنا المهنية والحرفية، لوفّرنا الكثير من اقتصادنا الوطني، إضافة إلى إشكالات العمالة الوافدة الأخلاقية والقانونية».
وأوضح سماحته أن حجم العمالة الوافدة في المجال المهني يفوق العمالة السعودية بأضعاف، وأشار إلى إحصائية تقول: «العمالة الوافدة تمثل 88% من العاملين في القطاع الخاص في المملكة و 12% من المواطنين، حجم العمالة الوافدة يفوق بأضعاف العمالة السعودية، عدا المديرين، وعدا المهن الكتابية 41% من العمالة الوافدة في مهن الخدمات، و31% تتركز في المهن الهندسية الأساسية المساعدة».
وأضاف مشيداً بدور المعهد ومطالباً إياه: « نحن بحاجة إلى صرف المزيد من الجهود في تنمية الكفاءات المهنية ومثل هذا المعهد يتوقع منه دور كبير.
هذا المعهد هو جزء من مؤسسة لها فروعها الممتدة في أرجاء الوطن، ونحن نتوقع من هذه المؤسسة أن تساعد الوطن على تجاوز هذه المشكلة، بتنمية الكفاءات والأيدي العاملة المهنية المتمرسة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، نحن بحاجة إلى ثقافة وتربية تشجع على العمل، وتشجع على بذل الجهد، ومشكلتنا أنه مع تطور نمط الحياة ضعفت هذه الثقافة.
في الماضي كان الأولاد يعيشون في ظل عائلة كادحة، فالولد منذ صغره يرى كدح أبيه، والبنت ترى كدح أمها وأبيها، والآن ينشأ الولد وأبوه يعمل بعيداً عنه، فلا يرى كدح أبيه، وأغلب الآباء يعملون أعمال مريحة، فلا يشعر الولد أن أباه يتعب، والكثيرون منا خاصة ممن تقدم بهم العمر يتذكرون كيف كان الأهل يعملون، وكان الأولاد يشاهدون ويلاحظون العمل الزراعي المتعب والمجهد، والعمل في البناء، وكانوا يرون كدح وعناء العائلة، فيتربى الولد منذ صغره على العمل وبذل الجهد، ومع تطور الحياة أصبح الولد يعيش حوالي 20 سنة وهو ضيف شرف في البيت! والبنت ترى أمها تعتمد على وسائل حديثة، ولا تحتاج إلى جهد كبير، فما عاد أبناؤنا يتربون في أجواء كدح وعمل، وسادت ثقافة الرفاهية، وثقافة الراحة، وهي سبب لكثير من الأمراض، فليس هناك صرف للطاقة الغذائية».
وأكد: «العمل سبيل إلى الراحة النفسية، ويخطئ من يتصور أن عدم العمل راحة، ورد عن أمير المؤمنين علي : «من يعمل يزدد قوة»، وقال أيضا: «من قصّر في العمل ابتلي بالهم».
وفي حديث المقارنة بين العمالة الوافدة، والعمالة المحلية، قال: «أصحاب الشركات كثيراً ما يشكون من العمال والموظفين المحليين بسبب توانيهم وتراخيهم في العمل، ولعلكم تابعتم السجال الذي دار بين وزارة العمل، وأصحاب المؤسسات الصناعية والاقتصادية. وزارة العمل في المملكة تريد أن تحد من إعطاء التأشيرات، ففي السنة الماضية صدرت 170 ألف تأشيرة في سنة واحدة، لكن أصحاب المؤسسات والمصانع يشكون من أن العامل المحلي لا يسد الحاجة التي تشعر بها هذه الشركات والمؤسسات بحجة عدم كفاءة ونشاط العامل المحلي، ولا شك أن للموضوع صلة بالرواتب وفارق الأجر».
ثم قرأ سماحته إحصائية نقلها عن جريدة المدينة بتاريخ 1-5- 1428هـ تتحدث عن ارتفاع عدد الوفيات في اليابان بسب الإفراط في العمل، تقول الإحصائية: (ازداد عدد الوفيات الناجمة عن الإفراط في العمل في اليابان خلال السنة الحالية بالرغم من الحملة الحكومية للحد من نظام الساعات الإضافية المنتشر إلى حد كبير في المؤسسات).
وأعلنت وزارة الصحة اليابانية: أن 355 موظف أصيبوا بأمراض خطيرة أو توفوا لهذا السبب بين مارس 2006 ومارس 2007 توفي 147 مواطن اثر جلطة دماغية أو اثر أزمات قلبية وكانت وفاتهم مرتبطة بالعمل المفرط وهي ظاهر باتت تشكل آفة اجتماعية حقيقية خلال مرحلة النمو الاقتصادي بعد الحرب.
لفت أحد المحامين إلى أن الشبان ممن تتراوح أعمارهم بين 20-30 عاماً ما زالوا يتمتعون بالحيوية يميلون إلى تجاوز حدود قدراتهم وهم يصابون باضطرابات قلبية مما قد يؤدي إلى الوفاة والإفراط في العمل هو السبب الوحيد الذي يفسر ذلك.
وفي تقرير صادر عن الحكومة اليابانية يقول: أن 10% من الذكور الذين يموتون في اليابان بسب كثرة العمل، والإجازة في اليابان في السنة أسبوع واحد، واقترحت الحكومة اليابانية تخفيض ساعات العمل من 44 ساعة في الأسبوع إلى 42 ساعة فخرجت المظاهرات من الناس يرفضون تخفيض ساعات العمل.
ثم قال سماحته: «بمثل هذه الروح بنيت اليابان، وبمثل هذه الروح أصبحت اليابان دولة صناعية تكنولوجية كبرى بعد أقل من ثلاثة عقود من أصابتها في الحرب العالمية الثانية، حيث ضربت بالقنابل الذرية.
إننا بحاجة إلى ضخ ثقافة العمل في نفوسنا، وفي نفوس أبنائنا، حتى يعلم الواحد منا أنه بالعمل ينال الراحة ويستمتع بحياته، وليس بالتراخي والدِّعة التي لا تنتج إلا الأمراض والهموم النفسية والمشاكل الاجتماعية، ولذلك حينما نأتي ونكرّم هؤلاء المدربين إنما نكرم هذه الروح التي تريد أن تنمي كفاءات أبنائنا وأن تسد هذه الحاجة الكبيرة في وطننا».
ثم شكر سماحته لإدارة المركز مبادرتها الكريمة بتكريم المدربين المتميزين، كما قام بتوزيع الجوائز والهدايا التذكارية عليهم، بدوره قدم مدير المركز هدية تذكارية لسماحة الشيخ الصفار.
وكان حفل التكريم قد افتتح بتلاوة آيات من القرآن الكريم ثم ألقى مدير المركز الأستاذ عباس الصايغ كلمة ترحيبية بسماحة الشيخ الصفار شاكراً له رعايته للحفل واستجابته للدعوة.