الجـمـعـــة شخصية المجتمع الإسلامي
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين.
يمكن القول بلا مبالغة إن الجمعة كيوم مبارك له آدابه وبرامجه، وأن صلاة الجمعة كشعيرة عظيمة بوظائفها وأبعادها، ترسم الهوية الخاصة, والشخصية المميزة للمجتمع الإسلامي، ذلك المجتمع الذي يستجيب لنداء الله, ويجتمع لأداء فريضته، وتنتظم صفوفه خلف إمام صلاته، ويستمع لتوجيه قيادته الدينية من خلال خطبتي الجمعة، ويتلقى منها الرؤية والتحليل عن قضايا الأمة وأوضاع الحياة، وينفتح أبناؤه على بعضهم في مشهد اجتماعي رهيب، لا يتميز فيه أحد على أحد، مما يؤكد روح المساواة والتعاون، وأواصر المحبة والمودة.
حين تتحدث النصوص الدينية عن خصوصية يوم الجمعة، وتميّزه على سائر الأزمنة، وأنه «خير يوم طلعت عليه الشمس»[1] ، وأنه «سيد الأيام وأعظمها عند الله»[2] ، كما ورد عن النبي . فهذا يعني أن يتعامل الإنسان المسلم مع هذا اليوم تعاملاً خاصاً مميزاً، يحرص فيه على استثمار ساعاته في أفضل البرامج والأعمال.
لكن المؤسف حقاً أن يتعامل الكثيرون مع هذا اليوم العظيم المبارك، كوقت فائض، وزمن إضافي، يتفننون في إضاعته وصرفه دون تخطيط وبرنامج مفيد.
فيتعاملون معه كيوم عطلة وفراغ، خارج أيام العمل والإنتاج، فهو فرصة للاستغراق في النوم، حيث يواصلون نومهم أكثر ساعات الصباح إلى الظهر، وهو وقت للراحة بمعنى الكسل والفراغ، والتسمّر أمام شاشات التلفاز، أو ممارسة اللهو واللعب.
لم يرد نص شرعي يوجب تعطيل العمل يوم الجمعة، كما هو الحال عند اليهود، ولم يفت بذلك أحد من فقهاء المسلمين، وإنما يحرم فيه العمل المانع من أداء صلاة الجمعة لمن تجب عليه، وذلك التحريم هو بمقدار أداء الفريضة، التزاماً بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾[3] .والمراد به على ما يفيده السياق: النهي عن الاشتغال بكل عمل يشغل عن صلاة الجمعة، سواء كان بيعاً أو غيره، وإنما علق النهي بالبيع لكونه من أظهر مصاديق ما يشغل عن الصلاة[4] .
حيث أوجب سبحانه السعي إلى الجمعة، وأمر بترك المعاملة، ونحن نعلم أنه لا خصوصية لترك البيع وتخصيصه بالذكر، إلا لكونه أهم الأمور، وأكثر ابتلاءً للناس، سيما أهل السوق.
فالمطلوب أولاً هو درك مصالح الجمعة، فكل أمر يوجب تفويت تلك المصلحة، أو التأخير عنها، أو بعضها، فهو منهي عنه، ومن اشتغل بشيء أوجب التفويت أو التأخير فهو آثم[5] .
أما بعد انتهاء صلاة الجمعة فالمجال مفتوح لممارسة مختلف أعمال الحياة، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾[6] .
والمراد بقضاء الصلاة: إقامة الجمعة. والانتشار في الأرض: التفرق فيها.
وابتغاء فضل الله: طلب الرزق. نظراً إلى مقابلته ترك البيع في الآية السابقة، لكن تقدم أن المراد ترك كل ما يشغل عن صلاة الجمعة، وعلى هذا فابتغاء فضل الله، مطلق عطيته، في التفرق لطلب رزقه، بالبيع و الشراء، وطلب ثوابه، بعيادة مريض، والسعي في حاجة مسلم، وزيارة أخ في الله، وحضور مجلس علم، ونحو ذلك[7] .
جاء في رواية عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «يكره السفر والسعي في الحوائج يوم الجمعة بكرة من أجل الصلاة، فأما بعد الصلاة فجائز يتبرك به»[8] .
ولم يكن متداولاً بين المسلمين في الماضي تعطيل أعمالهم يوم الجمعة، يقول الدكتور سليمان بن علي الضحيان: لم يذكر في تاريخ المسلمين تخصيص يوم الجمعة أو سواه لترك العمل فيه والراحة. ومن أوائل من ترك التدريس يوم الجمعة السبكي الشافعي، من علماء القرن الثامن الهجري، وقد أنكر عليه بعض علماء مذهبه، ورأوا أن فيه تشبهاً باليهود بتركهم العمل يوم السبت[9] .
لكن المتعارف عليه الآن في جميع المجتمعات البشرية، تخصيص يوم أو يومين كعطلة أسبوعية، يرتاح فيها الإنسان من عناء برنامجه الدائم في الدراسة والعمل، لتكون فرصة لتجديد النشاط الذهني والنفسي، ولإتاحة المجال لأداء سائر المهام والاهتمامات المختلفة للإنسان.
ومن الطبيعي أن تختار المجتمعات الإسلامية لعطلتها الأسبوعية يوم الجمعة، كما اختار اليهود يوم السبت، واختار المسيحيون يوم الأحد، انطلاقاً من النظرة الدينية المختلفة بين هذه الديانات حول تحديد اليوم المقدس في الاسبوع.
لقد أولت التوجيهات الإسلامية يوم الجمعة اهتماماً عظيماً، وجاءت النصوص الكثيرة التي تؤكد على استثمار ساعات يوم الجمعة في صالح الأعمال، وتضع أمام المسلم مختلف البرامج التي تخدم تكامله الروحي، وجماله المادي، وتواصله الاجتماعي، وسعادته الأسرية، وتقدمه المعرفي.
وتوحي هذه النصوص والبرامج بأن يوم الجمعة يجب أن يكون يوم نشاط مكثف, وجهد مضاعف، لخدمة الأبعاد المختلفة في شخصية الإنسان وحياته. وأن الذين يتخذونه يوم كسل وتقاعس يحرمون فيه أنفسهم من خير كثير، ويخسرون أغلى وأثمن الأوقات.
إن أجر وثواب الأعمال الصالحة يكون مضاعفاً عند الله تعالى يوم الجمعة، كما أن أعمال السوء والشر فيه توجب مضاعفة غضب الله وعذابه، حسبما ورد في نصوص كثيرة، وذلك بهدف دفع الإنسان المسلم وتشويقه لأداء المزيد من أعمال الخير والصلاح في هذا اليوم المبارك، وتحذيره من الاقتراب من أي ذنب أو معصية.
جاء عن الإمام محمد الباقر أنه قال: (الخير والشر يضاعف في يوم الجمعة)[10] ، وعنه أيضاً : «إن الأعمال تضاعف يوم الجمعة فأكثروا فيه من الصلاة والصدقة»[11] . وعن الإمام علي الرضا : «اعلم يرحمك الله أن الله تبارك وتعالى فضّل يوم الجمعة وليلته على سائر الأيام، فضاعف فيه الحسنات لعاملها، والسيئات على مقترفها»[12] .
وعن أبان عن أبي عبدالله جعفر الصادق قال: «إن للجمعة حقاً وحرمة، فإياك أن تضيّع أو تقصّر في شيء من عبادة الله والتقرب إليه بالعمل الصالح، وترك المحارم كلها، فإن الله يضاعف فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات»[13] .
وقد تنوعت البرامج التي حثت النصوص الدينية على أدائها يوم الجمعة، بين برامج روحية, ومعرفية, واجتماعية, وجمالية تعنى بأناقة الإنسان وحسن مظهره.
صلاة الجمعة هي البرنامج الأهم للإنسان المسلم في يوم الجمعة، وهو العمل المحوري, والمهمة الأساسية التي ينبغي أداؤها في ذلك اليوم, وعلى المسلم أن يكيّف سائر برامجه وأعماله لصالح هذه الفريضة العظيمة.
فلا ينبغي له أن يسافر صباح الجمعة، فيخسر فرصة أدائها, فذلك مكروه شرعاً. كما جاء في رواية عن الإمام علي الهادي: «يكره السفر والسعي في الحوائج يوم الجمعة بكرة من أجل الصلاة، فأما بعد الصلاة فجائز يتبرك به»[14] .
وجاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي في كتابه إلى الحارث الهمداني، قال: «ولا تسافر في يوم الجمعة حتى تشهد الصلاة، إلا ناصلاً في سبيل الله، أو في أمر تعذر به»[15] .
وعن الإمام علي الرضا أنه قال: «ما يؤمن من سافر يوم الجمعة قبل الصلاة ألا يحفظه الله تعالى في سفره، ولا يخلفه في أهله، ولا يرزقه من فضله»[16] .
ونقل الشهيد الثاني في رسالة الجمعة عن النبي أنه قال: «من سافر يوم الجمعة دعا عليه ملكاه أن لا يصاحب في سفره ولا تقضى له حاجة»[17] .
هذا التحذير والكراهة هو عن السفر بعد الفجر وقبل وقت الصلاة من يوم الجمعة، أما إذا حان الزوال فإن السفر يكون حراماً على من تجب عليه الجمعة بإجماع الفقهاء.
ولا يجوز للمسلم عند وجوب صلاة الجمعة أن يشتغل بأي عمل آخر يصرفه عنها لصريح النهي الوارد في قوله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾.
ويجب قصد صلاة الجمعة عند وجوبها ولو كان بين الإنسان وبينها مسافة في حدود فرسخين، أي بمقدار (11) كيلو متر تقريباً.
كما ورد عن الإمام الباقر : «تجب الجمعة على كل من كان منها على فرسخين»[18] .
وهي مسافة كانت تستلزم وقتاً وجهداًً في الزمن الماضي، ففي عهد رسول الله كان بعض قاصدي الجمعة لا يصلون إلى منازلهم عند عودتهم إلا بعد ساعات، كما يشير إلى ذلك ما ورد عن الإمام محمد الباقر قال: «الجمعة واجبة على من إن صلى الغداة (صلاة الصبح) في أهله أدرك الجمعة، وكان رسول الله إنما يصلي العصر في وقت الظهر في سائر الأيام كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله رجعوا إلى رحالهم قبل الليل»[19] .
التبكير للجمعة:
ولأن صلاة الجمعة ليست مجر د صلاة وإنما هي ملتقى وحراك اجتماعي، بالإضافة إلى بعدها العبادي، وهي حضور في ساحة قضايا الدين والأمة، لذلك ينبغي أن يخصص لها الإنسان المسلم أكبر وقت ممكن من يوم الجمعة، حيث ورد الحثّ والتشجيع على التبكير في السعي والذهاب إلى موقع الصلاة، ليؤدي الإنسان ما شاء من نوافل، وليتلوا ما تيسر له من القرآن الكريم، وليبتهل ويتضرع إلى الله تعالى بالدعاء في هذا اليوم المبارك العظيم، ولتكون فرصته أوسع في اللقاء مع أبناء مجتمعه.
فقد ورد أن الإمام محمد الباقر يبكّر إلى المسجد يوم الجمعة حين تكون الشمس قيد رمح، فإذا كان شهر رمضان يكون قبل ذلك، وكان يقول: «إن لجمع شهر رمضان على جمع سائر الشهور فضلاً كفضل رمضان على سائر الشهور»[20] .
وجاء عن الإمام جعفر الصادق: «فضّل الله يوم الجمعة على غيرها من الأيام، وإن الجنان لتزخرف وتزيّن يوم الجماعة لمن أتاها، وإنكم تتسابقون إلى الجنة على قدر سبقكم إلى الجمعة، وأن أبواب السماء لتفتح لصعود أعمال العباد»[21] .
وعن الإمام الباقر : «يكون يوم الجمعة شاهداً وحافظاً لمن سارع إلى الجمعة، ثم يدخل المؤمنون إلى الجنة على قدر سبقهم إلى يوم الجمعة»[22] .
إن كثرة الأحاديث والروايات الواردة حول صلاة الجمعة، ترقى بها إلى ذروة الفرائض والواجبات، وكما ذكر السيد الخوئي (رحمه الله) فإن ما تناوله الفقهاء من الأخبار في مقام الاستدلال على وجوب صلاة الجمعة، يصل إلى مئتي حديث[23] .
وفي كتاب (وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة) للفقيه المحدث الحر العاملي (رحمه الله) اشتملت أبواب صلاة الجمعة وآدابها على (356) حديثاً ورواية.
وتؤكد أكثر هذه النصوص على أهمية هذه الفريضة ووجوبها، وعلى عظيم ثواب الله وفضله لمن واظب عليها، كما تحذّر من التفريط فيها، والتهاون في حضورها وأدائها.
ومنها ما ورد عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «الجمعة واجبة على كل أحد، لا يعذر الناس فيها إلا خمسة: المرأة، والمملوك، والمسافر، والمريض، والصبي»[24] .
وورد أن علياً كان يقول: «لأن أدع شهود حضور الأضحى عشر مرات أحبّ إليّ من أن أدع شهود حضور الجمعة مرة واحدة من غير علة»[25] .
وروي عن رسول الله أنه قال: «إن الله كتب عليكم الجمعة فريضة واجبة إلى يوم القيامة»[26] .
هذه النصوص وكثير أمثالها يجب أن تلفت أنظارنا إلى مدى الخسارة والحرمان الذي نصاب به في التهاون بصلاة الجمعة، وإذا ما كانت الأجواء في الماضي غير مهيأة في بعض مجتمعاتنا لإقامة هذه الفريضة المقدسة، والشعيرة العظيمة، فما عذرنا الآن في التساهل والتهاون بها وقد أصبحت تقام بحمد الله في مناطقنا؟
كانت تسود أجواء المجتمعات الشيعية آراء فقهية غير مساعدة على إقامة صلاة الجمعة، كالرأي القائل بعدم مشروعية إقامة الجمعة في عصر غيبة الإمام، انطلاقاً من بعض الروايات التي يستفاد منها كون إمامة الجمعة من المناصب التي تختص بالمعصوم، ولا يجوز لغيره التصدي لها إلا بإذنه، فإذا لم يحصل الإذن يكون المتصدي لإقامتها متجاوزاً على مقام شرعي لا يستحقه، وهو أمر محرم.
لكن هذا الرأي الذي تبنَّاه عدد محدود من الفقهاء، يقابله رأي معارض لعدد واسع من الفقهاء، يرى أن تلك الروايات ليست في مقام حصر إمامة الجمعة في المعصوم، وإنما غايتها إثبات إمامة الجمعة للمعصوم والحصر والإثبات متفاوتان من حيث القابلية وعدمها للنيابة[27] .
ثم إن هناك عدداً من الروايات واضح منها عدم تقييد الجمعة بالإمام المعصوم، كما أن الفقيه الجامع للشرائط له موقعية النيابة العامة عن الإمام في عصر الغيبة، مما يخوله إقامتها أو الإذن بها بناءً على استلزامها لذلك.
وكان هناك رأي لبعض الفقهاء باشتراط أن يكون إمامها فقيهاً جامعاً للشرائط، كما جاء في (سداد العباد) للفقيه المحدث الشيخ حسين العصفور، حيث قال ضمن شرائط الوجوب: (والإمام العادل أو نائبه الخاص، وفي الغيبة الفقيه الجامع لشرائط الفتوى، ولو متجزِّياً تجزِّياً قريباً من الفقيه الجامع) وقال ضمن شرائط الصحة: ( ويعتبر في إمامها الكمال، والإيمان, والعدالة, والذكورة, وطهارة المولد, والفقاهة, وكونه أهلاً للنيابة)[28] .
وبعضهم اشترط لوجوبها أن يكون الفقيه مبسوط اليد، بمعنى صاحب حكم وسلطة، لكن الرأي السائد عند أكثر الفقهاء المعاصرين، كفاية شروط إمامة الجماعة لإمامة الجمعة, فمن صحت جماعته كإمام في سائر الفرائض اليومية، صحت إمامته في صلاة الجمعة.
ولم يخل عصر من عصور الشيعة من إقامة صلاة الجمعة من قبل بعض علمائهم، وإن لم تكن تمثل حالة عامة لديهم بتأثير تلك الآراء الفقهية أولاً، ولعدم ملائمة الظروف السياسية والاجتماعية ثانياً.
لذلك حينما تغيرت الأوضاع السياسية في إيران بقيام النظام الإسلامي بادرت القيادات الدينية لإقامة صلاة الجمعة، وحينما وجد الإمام الشهيد السيد محمد الصدر الفرصة مناسبة في العراق، أقام الجمعة في الكوفة، ونصب لها أئمة في سائر مناطق العراق، في ظل الحكم الزائل لصدام.
كما أصبحت تقام في لبنان وسوريا وغيرها.
ولا شك أن لإقامة صلاة الجمعة بركات عظيمة على المجتمع، ولا ينبغي أن نحرم أنفسنا وأبناءنا منها، وإذا كانت هناك مبررات وأسباب في بعض المجتمعات لعدم إقامتها في الماضي، فلا يصح السير على نهج الاستصحاب والاسترسال، وإغفال التطورات الإيجابية على الصعيد الفقهي والسياسي والاجتماعي.
لقد تحدث الإمام الخامنئي مرة عن بركات إقامة الجمعة في أوساط الشعب الإيراني فكان مما قاله: ( إن خدمة صلاة الجمعة خدمة للدين والتقوى، لأن الهدف من صلاة الجمعة نشر التقوى والروح الدينية بين الشعب، كما أن خدمة صلاة الجمعة خدمة للوعي العام لدى الشعب الإيراني، لأن صلاة الجمعة ليست فرضاً عبادياً محضاً، بل هي عمل يهب الوعي بمحتواه وطبيعة تركيبته من اجتماع عظيم للمسلمين في كل اسبوع، يشاهده الصديق والعدو، وتفصيل وبيان للأوضاع والظروف السياسية لهم من قبل خطيب الجمعة. فصلاة الجمعة في الإسلام تركيب عجيب حقاً، فمن ناحية تأتي الوصية للناس بالتقوى والطهارة والإعراض عن الأهواء النفسية، وفيها من ناحية أخرى توعية الأمة بالأحداث السياسية، ومؤامرات الأعداء، ومتطلبات الأصدقاء، وأوضاع العالم الإسلامي، فلا بد من عرفان قدر هذه الفريضة العظيمة.
لقد تبدلت صلاة الجمعة اليوم، وبفضل الثورة الإسلامية، وحنكة إمامنا العظيم إلى سنة وطيدة في البلاد. فلم يألف شعبنا صلاة الجمعة بمعناها وحقيقتها قبل النظام الإسلامي، فكان لطف الله على شعبنا، وواحدة من بركات الثورة الإسلامية: أن استطعنا فتح هذه النافذة الواسعة نحو المعنويات والمعرفة أمامنا.
وعلى الشعب أن يعرف قدر صلاة الجمعة، وحري بأئمة الجمعة، وسائر القائمين عليها العمل على مضاعفة دواعي الاستقطاب في صلاة الجمعة، فجيل الشباب لدينا متعطش للحقيقة والإدراك والتوعية، ويجب أن تنجح صلوات الجمعة في إرواء هذا العطش، وتلبية الحوائج العامة لجيل الشباب)[29] .
ولإكمال بحث إقامة هذه الشعيرة العظيمة، لا بد من الإشارة إلى بعض المعوقات الاجتماعية التي تعاني منها بعض الأوساط الدينية، ذلك أن صلاة الجمعة لا يصح أن تتعدد في المنطقة الواحدة, ولا بد أن يكون الفاصل بين جمعتين فرسخاً أي بحدود خمسة كيلومترات ونصف الكيلو، مع أن كل منطقة فيها جماعات متعددة، وأئمة يقيمون صلاة الجماعة، فإذا أقيمت صلاة الجمعة من قبل أحدهم فلا مجال للآخرين، وعليهم أن يحضروا معه الجمعة، ويعطلوا صلاتهم بالجماعة، مما يثير عنصر التنافس والشعور بالمزاحمة، لذلك تفضّل هذه الأوساط الدينية إبقاء ما كان على ما كان، والاكتفاء بأداء صلاة الظهر جماعة يوم الجمعة، وعدم الحث والتشجيع على إقامة الجمعة، مراعاة لهذه المشاعر والأحاسيس، وحفظاً للتوازنات الشخصية والفئوية.
وقد أشار إلى هذه المشكلة وبحثها السيد الخوئي Sعند استعراضه لأدلة عدم مشروعية الجمعة في عصر الغيبة، نقتطف من كلامه ما يلي:
( إن الجمعة لا بد وأن يقيمها شخص واحد في كل مكان، ولا يشرع فيها التعدد في محل واحد، وكيف يحمل الشارع من في ذلك المحل -كافة- على الائتمام بواحد غير معين، ويوكل تعيينه إلى إرادتهم؟ فإنه لا يكاد يتفق آراؤهم على شخص واحد! على أن جل الناس يأبى عن الاقتداء بمن يراه مثله، أو دونه في الأهلية للإمامة، وأضف إلى ذلك أن كل شخص أو الأغلب -على الأقل- يريد أن يكون هو المتصدي لهذا الأمر المهم، أو يقيمها من اتصل به من الأقارب والأولاد فإن حب الرئاسة جبلِّي للبشر، أو إذا فرضنا أنه لا يريد ذلك بنفسه فقد يريده أهل محلته وأعوانه، بل هذا هو الأغلب في العوام فإنه من المحسوس أن أهل كل محلة يريدون أن يكون الإمام لجماعتهم هو المقيم لصلاة الجمعة في البلد، وبهذا تتحقق الفتنة وينشأ النزاع والخلاف).
ثم يدفع –رحمه الله- هذا الإشكال بالقول بأن صلاة الجمعة واجب تخييري، مضيفاً لذلك قوله: (بل يمكن أن يقال: أن الأمر بصلاة الجمعة لا يكون مثاراً للفتنة أبداً حتى على القول بالوجوب التعييني في المسألة والوجه في ذلك: أن من تصدى لإقامة الجمعة وإمامتها إما أن يكون ممن توفرت فيه شروط الإقامة وتحققت فيه أهليتها لدى المكلف بصلاة الجمعة وإما أن لا يكون كذلك عنده:
فعلى الأول لا مناص لغيره من أن يأتم به في صلاة الجمعة ولا نرى أيّ مانع من أن يكون هو المتصدي لإمامتها حينئذ وإن رأى المأموم نفسه أرقى من الإمام وأصلح منه للتصدي بالإمامة لأنه ليس في هذا الائتمام سوى مجاهدة النفس والتخاضع، وإطلاق النفس عن الأنانية والكبرياء وهو أمر محبوب للشارع وقد حثنا على التجنب عن الكبر واختيار التواضع والمقام من مصاديقه وموارده.
وقد كنا نشاهد أن الزاهد الفقيد الشيخ علي القمي (طاب رمسه) يأتم به من هو أقدم وأرقى منه في الفضل والكمال فما هو المانع من أن يتصدى مثله للإمامة على غيره، ويصلي الناس خلفه؟!)[30] .
إن مثل هذا العائق إذا وجد فلن يصعب على الواعين من أبناء المجتمع تجاوزه، وقد تحصل بعض الإشكاليات في البداية، وهو أمر طبيعي أمام أي توجُّه جديد، وأي تطوير وتغيير، ويمكن التعاون بين العلماء وأئمة الجماعة في كل منطقة ليتفقوا على نظام بينهم للتناوب على إمامة الجمعة.
كما يجب أن نراهن على وعي المجتمع بأهمية صلاة الجمعة، وإدراكه لمنافعها وبركاتها، ومن تلك المنافع دفع التساؤلات التي تثار على أتباع أهل البيت لعدم إقامتهم صلاة الجمعة.