الارتقاء باهتمامات المرأة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
جاء في عدد من المصادر الإسلامية من كتب الأحاديث والسِّيَر أن رسول الله عند عودته من إحدى المعارك ذهب إلى المسجد أولاً، ثم ثنّى ببيت فاطمة ـ كما كان يصنع دائماً، تقول الرواية: كان رسول الله إذا أراد السفر سلَّم على من أراد التسليم عليه من أهله ثم يكون آخر من يسلِّم عليه فاطمة فيكون وجهه إلى سفره من بيتها، وإذا رجع بدأ بها.
فسافر مرة وقد أصاب علي شيئاً من الغنيمة فدفعه إلى فاطمة فخرج فأخذت سوارين من فضة وعلَّقت على بابها ستراً، فلما قدم رسول الله دخل المسجد فتوجه نحو بيت فاطمة كما كان يصنع، فقامت فرحة إلى أبيها صبابة وشوقاً إليه فنظر فإذا في يدها سواران من فضة وإذا على بابها ستر، فقعد رسول الله حيث ينظر إليها، فبكت فاطمة وحزنت وقالت : ما صنع هذا بي قبلها.فدعت ابنيها فنزعت الستر من بابها وخلعت السوارين من يديها، ثم دفعت السوارين إلى أحدهما والستر إلى الاخر ثم قالت لهما : انطلقا إلى أبي فاقرئاه السلام وقولا له : ما أحدثنا بعدك غير هذا فشأنك به، فجاءاه فأبلغاه ذلك عن أمهما فقبَّلهما رسول الله والتزمهما وأقعد كل واحد منهما على فخذه، ثم أمر بذينك السوارين فكسـرا فجعلهما قطعاً ثم دعا أهل الصفة [ وهم ] قوم من المهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال، فقسمه بينهم قطعاً [1] .
وروى ابن شاهين في ( مناقب فاطمة) عن أبي هريرة وثوبان أن رسول الله قال: فعلت فداها أبوها - ثلاث مرات - ما لآل محمد وللدنيا؟ فإنهم خلقوا للآخرة وخلقت الدنيا لهم[2] .
هذا النص التاريخي المروي في كتب السير والأحاديث يمكننا أن نستشف منه درسًا ونحن نعيش في ذكرى ميلاد سيدتنا فاطمة الزهراء .
إن الزهراء في هذه القصة لم تفعل حراماً، وإنما فعلت خلاف الأولى، فكان رسول الله يرى أن من الأولى لفاطمة أن تصـرف هذا المال على الفقراء والمحتاجين، لا أن تأخذ به ستارا للزينة أو سوارين تتزيّن بهما.
وبتوجيه آخر: ما كان رسول الله يريد من ابنته فاطمة أن تصـرف اهتماماتها في أمور الزينة، إنما أرادها أن تكون أنموذجَ المرأة المسلمة فيما تصرف فيه جهدها وتفكيرها واهتماماتها.
اهتمامات الإنسان هي التي تحدّد سلوكه وتوجّهه، وما يسعى إلى تحقيقه هو ما يصوغ شخصيته ونفسيته، ويحدد مواقفه.
لذلك فإنه متى ما كانت الاهتمامات كبيرة وعظيمة سَمَتْ بنفس صاحبها، فكان كبيرًا عظيمًا.
ومن هذا المنطلق يركّز الدين الإسلامي في توجيهاته وتعاليمه على مسألة صرف اهتمام الإنسان ـ رجلاً كان أو امرأة ـ فيما من شأنه الارتقاء بالإنسان وكماله في شتى المجالات.
فالمرأة حينما تحمل اهتمامات كبيرة فإن نفسها ستكون كبيرة، وعلى العكس من ذلك حينما تحمل اهتمامات سطحية وهامشية فمن الطبيعي أن يصبح دورها في الحياة جانبيًّا وهامشيًّا ونظرتها للأمور يشوبها شيء من السطحية.
ولو نظرنا الآن في مجتمعاتنا وفي المجتمعات البشرية عمومًا، وحاولنا أن نرصد اهتمامات المرأة، سنجد أن هناك من يوجّه المرأة عبر الوسائل المختلفة الإعلامية منها والثقافية وعبر التقاليد والعادات نحو اهتمامات معينة ومحدّدة، ومن أهم هذه الاهتمامات التي نراها ونلحظها:
فالمرأة غالبًا ـ وبخاصّة في هذا العصر ـ يحكمها هذا الهمّ، فتتفنّن كيف تظهر أنوثتها وجمالها ومفاتنها، وهذه ثقافة سائدة، تعمل مؤسسات عالمية على نشرها، وتُوَجِّه المرأة بهذا الاتجاه، لما في ذلك من مكاسب مادّية وشهوانية، وهي تعبّر عن توجّه ذكوري، لا يراعي كرامة المرأة وإنسانيتها، فالرجل يريد من المرأة أن تتفنّن في إظهار مفاتنها له، حتى يأنس ويشبع رغبته وشهوته.
وهنا لا بدَّ من التأكيد على أنه ليس من السيئ أن تهتمّ المرأة بأنوثتها وجمالها في المكان الصحيح، بأن تظهر ذلك أمام زوجها.
وما نحذّر منه هو مسألة المبالغة في صرف اهتمام المرأة في هذه الأمور، كما هو مشاهد اليوم، وكما تروّج له شركات الدعاية العالمية، لدرجة أصبحت أنوثة المرأة سلعة في وسائل الإعلام، ومورداً للتجارة والربح، فتجرى من أجل ذلك مسابقات لاختيار ملكة جمال العالم، وتنتج الأفلام وما فيها من مشاهد الإثارة والإغراء، من أجل التسويق، على حساب إنسانية المرأة.
ومن جانب آخر، إن انتشار هذه الثقافة الغرائزية، وما تقوم به المرأة من دور في تعزيز هذه الثقافة يودي بالمجتمع إلى مهاوي الرذيلة والفُحش، وهو بالدرجة الأولى يقع على المرأة، فتكون هي الضحية. وهذا ما تؤكّده التقارير العالمية، فالمجتمعات التي تنتشر فيها هذه الإغراءات تكثر فيها جرائم الاعتداء الجنسي والاغتصاب، ولا تأمن فيه المرأة من الخروج في بعض الأحياء وحيدة، وهذا بفعل تأثير ما تنشره هذه الثقافة من تهييج لغريزة الإنسان وشهوانيته.
ومن جانب ثالث تكون المبالغة في مسألة التزيّن وإظهار الجمال والمفاتن سببًا لكثير من المشاكل والخلافات العائلية، وذلك بسبب ما تتطلبه من أموال باهظة، وبخاصّة في مناسبات الزواج والحفلات العامّة، حيث تريد كل فتاة وزوجة أن تبدو أمام الأخريات بأحلى زينة وأبهى حُلَّة.
وهذا ما تؤكّده بعض التقارير التي تتحدّث عن طريقة توزيع مصـروفات الراتب الشهري للرجل الذي يصـرفه غالبًا ـ حسب هذه التقارير ـ في: إيجار الشقّة، وتسديد فواتير المنزل الاستهلاكية، ومصروف أبنائه ومنزله ومستلزمات السيارة، بينما يستهلك راتب المرأة في فساتين المناسبات والمكياج وتصفيف الشعر والعطورات وغير ذلك من الاهتمامات النسائية الصرفة.
ولنا بعد ذلك أن نتساءل: هل تدرك المرأة أن هذه المبالغة في هذا التوجّه هو انتقاص من إنسانيتها ودورها، وكأن قيمتها تتمثل في هذا الجانب في الجمال والمفاتن؟
لماذا ترضى المرأة لنفسها هذا الوضع؟
عندما نأخذ جولة على ما تقتنيه بعض النساء من كتب، فإننا سنرى أن النصيب الأكبر هو لكتب الطبخ وصنوف الطعام. وهذا ما يؤكّده مسؤولو أقسام التسويق في بعض دور النشر، حيث يلاحظون إقبال النساء على زوايا وأركان كتب الطبخ أكثر بكثير من إقبالهنَّ على كتب التربية والعناية بالطفل ومعالجة مشاكل الأبناء.
جاء في تقرير نشرته جريدة الحياة بتاريخ 19/7/2007م في ملحقها الرمضاني: أن كتب الطبخ تشكل 10% من إجمالي الكتب المتخصصة في المكتبات في الرياض، وأن دور النشر تصدر كل عام ما يقارب 300 كتاب طبخ، يطبع من كل نوع ما لا يقل عن 40 ألف نسخة. وتقدر قيمة كتب الطبخ الشرقي المتوافرة في مكتبات الرياض بنحو 10 ملايين ريال، بينما تقدر قيمة بقية كتب الطبخ بمختلف تخصصاتها بنحو 30 مليون ريال.
وأشار أحد أصحاب المكتبات إلى ارتفاع الطلب على كتب الطبخ الصادرة باللغة الانجليزية، والذي تبيع منه مكتبته فقط نحو 100 كتاب يومياً في شهر رمضان.
مما يؤسف له أن تكثر بين النساء ظاهرة المزايدات، فيُعجب الفتاة ـ ضمن مجموعتها ـ أن تتحدث عن تسوُّقها وما صرفته فيه، وعن ملابسها وقيمتها، وربما عن جهازها النقّال وصفاته، وغير ذلك من المظاهر الخادعة، وهذه الحالة المبالغ فيها تدل على قشرية الاهتمامات عند المرأة، وما ذلك إلا بسبب الثقافة السائدة والبيئة والأجواء الغالبة.
حينما تمرّ بنا ذكرى ميلاد سيدتنا الزهراء ، على كل امرأة أن تفكّر بماذا كانت تهتمّ فاطمة الزهراء ، ماذا ينبغي للمرأة المسلمة أن تهتمّ به، وهنا نذكر عدّة جوانب كانت تميّز شخصية واهتمامات السيدة فاطمة الزهراء من خلال استقرائنا لبعض مواقفها وسيرتها :
المرأة كالرجل عليها أن تفكّر في الارتقاء بنفسها روحيًّا وعقليًّا، فالتكامل في هذا الجانب هو ما ينفع الإنسان يوم القيامة، يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[3] .
لذلك فإنه على المرأة المسلمة الواعية أن تحاسب نفسها بين فترة وأخرى: ماذا قدّمت ليوم غدٍ، وهل اهتماماتها تتوافق والروح الإسلامية؟ وهل تتفق مع اهتمامات قدواتنا، التي تأتي سيدتنا الزهراء في مقدّمتهم؟ وهل سيكون لهذه الاهتمامات دور في رفع مكانتها في درجات الجنّة يوم القيامة؟
وهذا أمر كان رسول الله يشير إليه فيما افتتحنا به الحديث، حيث قال: «ما لآل محمد والدنيا، فإنهم خلقوا للآخرة وخلقت الدنيا لهم».
ومن يُحب آلَ محمد ويسير على طريقهم ينبغي أن يأخذ بهذا المنحى، إننا نقرأ في الدعاء: «وأدخلنا في كل خير أدخلتَ فيه محمدًا وآل محمد وأخرجنا من كل سوء أخرجتَ منه محمدًا وآل محمد»[4] ، ولذلك علينا أن ندخل في هذا الخير، فنرى اهتمامات الزهراء وما في ذلك من الكمال الروحي، روي في البحار[5] أن الحسن البصري قال: «ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتّى تتورّم قدماها».
والروايات الواردة في وصف عبادة الزهراء وتقرّبها إلى الله سبحانه كثيرة ومتضافرة، يقول الإمام الحسن في رواية ثانية: «في ليلة من الليالي رأيت أمي فاطمة حتى الصباح وهي تصلّي وتدعو، ولكني كنت أسمعها تدعو للناس وللمؤمنين ولم تدعُ لنفسها شيئًا، سألتها في الصباح: أماه، سمعتكِ تدعين للناس ولم تدعِ لنفسكِ شيئًا، قالت: بنيَّ، ألم تسمع أن الجار قبل الدار»[6] .
في جانب الكمال العقلي والفكري نرى كيف أن الزهراء كانت تهتمّ بحديث أبيها رسول الله وكيف كانت تهتمّ بآيات القرآن الكريم، فتسجّل ما كانت تسمعه عنه ، ثم جمعته فيما سمّي لاحقًا بِـ (مصحف فاطمة)، وهو كتاب يبلغ في حجمه ثلاثة أمثال القرآن الكريم، يقول عنه الإمام الصادق : «مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد»[7] .
أي هو ـ في محتواه ـ غير القرآن، وإنما هو تفسير وتأويل لآياته، وبجانبه أحاديث وأخبار واستشفاف للمستقبل روتها عن أبيها رسول الله .
تحت يد فاطمة الزهراء تخرَّج الإمامان الحسنان سيدا شباب أهل الجنة، وأختاهما زينب وأم كلثوم ، وهذا يكفيها فخرًا وشرفًا، وعلى المرأة المسلمة أن تقتدي بالسيدة الزهراء في هذا الاتجاه، بحيث تهتمّ بتربية أبنائها ورعايتهم وتوفير الأجواء الإيمانية الصالحة لهم في البيت وخارجه.
فاطمة الزهراء كانت طوال حياتها تعيش همّ الرسالة والدعوة منذ صغرها وهي لا زالت بنت سنيهات قليلة، فكانت ترافق أباها رسول الله وترى ما كان يتعرّض له من أذى قريش، فتخفّف عن أبيها ما كان يواجهه من أذى ومصاعب، حتى سمّاها رسول الله «أمّ أبيها»[8] ، وذلك للدور الذي كانت تمارسه في التخفيف عنه بحنانها عليه ومزيد العناية التي كانت توليها له .
هذا بالإضافة إلى خروجها في بعض غزواته ومعاركه، كما كان ذلك في غزوة أحد[9] حيث جاءت بعد المعركة وضمدت جراحات أبيها.
وبعد وفاة رسول الله وقفت إلى جانب أمير المؤمنين تدافع عن حقه في الخلافة والإمامة، فخطبت خطبتها العظيمة في مسجد الرسول .
وبالإضافة إلى مشاركتها في هموم الدعوة والرسالة لم تغفل الاهتمام بالشأن الاجتماعي، فكانت تعطف على الفقراء والمحتاجين، فنزل فيها وفي الأسرة النبوية الشـريفة قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا﴾[10] .
نسأل الله أن يثبتنا على ولايتهم والسير على طريقهم، ونسأله سبحانه أن يرزقنا شفاعتهم وأن يحشـرنا في زمرتهم.
والحمد لله رب العالمين.