البطانة من الاستئثار إلى التضليل

مع أن الاستئثار سمة للخواص والحواشي «غالباً» بسبب ما يتيحه القرب من الاطلاع على الشارد والوارد من الأمور، وبسبب الإحساس المفرط بالأمان وغياب السؤال والمحاسبة، يستوي في ذلك البطانة التابعة للزعيم على حد سواء، والأمر كما أسلفت غالبي خوفاً من المحاسبة على التعميم الذي يحرج ادعاؤه، ويوقع من يتبناه في الخطأ.

بيد أني لن أتجه للحديث عن تلك السمة مع أهميتها، وسأحاول تسليطً الضوء على بعض التصرفات والسلبيات الأخرى، وهي فيما أظن عظيمة الخطر، ممتدة التأثير، مزاحَمة غالباً بحضور الحديث عن الاستئثار الذي يطغى دائماً فيخفي ما سواه، ولا يفوتني بين قوسين أن أشير إلى أن مقالي هذا مرتبط بالمقال الذي سبقه يوم السبت الماضي.

أتصور أن قلب الصورة هي الخطيئة الكبرى التي ترتكبها البطانة القريبة من قرار الزعيم، سياسياً كان أم دينياً، أنه العمل الموحش الذي لا استئناس فيه، لأنه يؤدي إلى تصعيد خطير، يزداد شرّه كلما انعدم الضمير في نفوس البطانة، وكلما فقدت إنسانيتها وقيمها، وسرعان ما تتحول الصورة المقلوبة «لشخص أو لجماعة أو لمجتمع» إلى مواقف سياسية حادة، أو دينية مقيتة، يحار الإنسان في التماس العذر لها، أو حتى القدرة على تبريرها، ومع أن السكوت عنها غير مبرر، لكن الخوف من الزعيم السياسي يمنع من الكلام، وهالة الزعيم الديني وألقابه تحدث رهبة في قلوب الناس، وهذا ما يسبب غالباً أن تصول البطانة وتجول باسم هذا وهالة ذاك، ولهذا حديث آخر، لكن ما يتحرك القلم باتجاهه الآن هو كيف تُقلب الصورة؟ كيف يتغير شكلها؟ وكيف ينظر إليها من الزاوية الخطأ؟

تقوم الحاشية بعمل إخراجي ضخم ومتواصل يبدأ أولاً بتصيد الزلات والأخطاء والعمل على أرشفتها ومراكمتها ودحرجتها لتكبر، تماماً ككرة الثلج، ثم إبراز هذه الزلات باعتبارها كل الصورة وتمام المشهد، بحيث تبدو سوداوية قاتمة، وخطراً فعلياً قائماً، غاية الأمر أن تصوير الخطر للزعيم السياسي يكون على أساس حفظ الأمن والوطن والمصالح، أما الزعيم الديني فيختلف السياق معه ليكون على أساس حفظ الدين والقيم والمبادئ.

ان الكثير من الأمور التي قد تعتبر زلّات أو أخطاء «والأمر محل تثبت» يمكن أن تغفر ويتجاوز عنها وتمضي وكأنها عدم لم تنل شرف الوجود، لكن التجميع المتعمد والممنهج لها يحولها من أخطاء بسيطة إلى أخطاء مخيفة، قد توغر الصدور وتؤجج العداوة والبغضاء في القلوب.

ويمكننا أن نمثل بسياق قريب ومجاور لما نحن فيه إذ ينصح علماء التربية الآباء أن لا يحسنوا الاستماع إلى الطفل المشتكي دائماً على إخوته، بل يوجهونهم إلى مبادرته بالعلاج للإقلاع عن هذه العادة الضارة بأجواء العائلة وبصفاء قلب الوالدين تجاه الأبناء جميعاً.

وتأتي الخطوة الثانية في عمل الخواص بتحوير الكلمات والمواقف، لتؤدي إلى استنتاجات معاكسة ومناقضة لقصد الجهة أو الشخص القائم بها ، فتنتقى الكلمات بعناية وتقطع بفن يتقنه خبراء الطباعة على أجهزة الحاسوب «قص» و «لصق»، وهو بالمناسبة ما تعمد له بعض مواقع الانترنت الصفراء.

يتم في عملية اللصق هذه إدراج الكلمات والمواقف في سياقات بعيدة عن صاحبها، لكنها تندرج ضمن الإخراج المطلوب والموجه الذي سيصل إلى صاحب القرار والرأي «الزعيم»، وإذا استعصت الكلمات والمواقف على الاندماج في السياقات المفتعلة فيتم التعامل معها بآلية التأويل والاستنطاق وهي آلية قديمة تعود لتاريخ وجود الإنسان على هذه المعمورة.

ومن الأساليب التي تعمدها بعض البطانات تضخيم الأمور والقضايا وإظهارها أكثر حجما من واقعها وحقيقتها، ولذلك شبيه في الإعلام الموجه، إذ يركز على أحداث بسيطة، يستدعيها للحضور ويوليها كل الاهتمام، ويصنع بصياغته لها من الحبة قبة كما يقولون، بينما يتعمد تجاهل القضايا المهمة لإماتتها وإبعادها عن اهتمامات الناس.

هذا التضخيم المتعمد خداع خفي، وكذب ملبس، ليس المراد منه سوى حشر صاحب القرار في موقع التصادم مع خصوم مفتعلين وليسوا حقيقيين، والإيقاع بالآخرين من حيث لا يشعرون في مواجهات ومنازعات أهونها أن يُستهلكوا وهم يدافعون عن أنفسهم ويبررون أعمالهم خوفاً ورهبة مما تحمله الأيام لو قبل الزعيم بتسرب أقوالهم إلى نفسه دون فحص وتمحيص.

إن الغرض لهذه الحواشي هو دفع المؤثرين باتجاهات لا علاقة لها بالأمن ولا بالوطن، كما لا علاقة لها بالدين ولا بالقيم، إنه السعي المتواصل لهذه الحواشي كي تحافظ على موقعيتها ومكانتها، وتشعر الآخرين بأهميتها حين تنعدم إبداعاتها ونشاطاتها الحقيقية، فتستعيض عنها بجر الساحات والمجتمعات إلى التطاحن والتحارب تحت مختلف التسميات، لأنها لا تستطيع أن تكون كما هي مستأثرة مسيطرة إلا بهذا النحو من العبث والكذب والتضليل.

msaffar45@hotmail.com

السبت 14/07/1428هـ - 28/07/2007م