التنمية الإنسانية في عهد الإمام علي (ع)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
حين نقرأ سيرة أمير المؤمنين علي أثناء توليه للخلافة والحكم، ونتأمل رسائله للولاة والموظفين، وخطابه لجمهور الناس، نجد أنه كان مهموماً بتطوير حياة أبناء الأمة، وتنميتها في مختلف المجالات، وحسب مصطلح اليوم كان مهتماً بالتنمية البشرية، ولم يكن مجرد زعيم ديني يعنيه نشر العقيدة وتطبيق الشريعة فحسب، ولا مجرد حاكم سياسي يهمه توطيد سلطته وحكمه، بل كان صاحب مشروع حضاري يستهدف إسعاد الإنسان وتفجير طاقاته وكفاءاته، ليتمتع بحياة كريمة، ويتجه إلى الفاعلية والإنتاج، وذلك هو المقصد الأساس للعقيدة والشريعة.
ففي مجال التنمية السياسية، يشجع الإمام علي الناس على الجهر بآرائهم السياسية، وأن لا يترددوا في الاعتراض على الخطأ أمام الحاكم، وأن لا يتعاملوا مع الحاكم بمنطق التملق والتزلف. يقول :(فَلا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، ولا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ-أي عند أهل الغضب- ولا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ -أي بالمجاملة- ولا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي ولا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ ولا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي)[1] .
وقد أعلن الإمام أمام الناس ضمانه لحقوق المعارضة، وعدم مضايقتهم اجتماعياً، والضغط عليهم اقتصادياً، ولا استخدام العنف ضدهم، ما دامت معارضتهم سلمية لم يشهروا فيها السلاح.
جاء في دعائم الإسلام أنه خطب بالكوفة فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا لله، فسكت علي، ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا عليه قال : (كلمة حق يراد بها باطل، لكم عندنا ثلاث خصال: لا نمنعكم من مساجد الله أن تصلوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به)[2] .
وفي مجال التنمية الاقتصادية، وتوفير حاجات المواطنين، نجد نصاً منقولاً في أكثر من مصدر تاريخي، أن علياً خاطب أهل الكوفة قائلاً: (ما أصبح في الكوفة أحد إلا ناعماً-أي مرفَّهاً-، وإن أدناهم منزلة ليأكل من البر، ويجلس في الظل -له مسكن-، ويشرب من ماء الفرات)[3] .، والكوفة في ذلك الوقت، كانت مصراً عظيماً، ذات كثافة سكانية، وتنوع في الأعراق، يقطنه أناس من مختلف الأمصار، ومن مختلف البقاع، فيها عرب من مختلف قبائلهم، وفيها موالي أي عجم، وفيها عسكريون، وفيها مدنيون، وفيها أنواع من الناس بتوجهاتهم الفكرية المختلفة، فيها من كان يحب الإمام ، وفيها من كان يناوئه.
قال السيد حسين البراقي (ت 1322هـ) في كتابه تاريخ الكوفة: كانت الكوفة واسعة كبيرة تتصل قراها وجبّاناتها إلى الفرات الأصلي وقرى العذار فهي تبلغ ستة عشر ميلا وثلثي الميل، قال ياقوت في المعجم: ذكر أن فيها من الدور خمسين ألف دار للعرب من ربيعة ومضر، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب، وستة آلاف دار لليمن[4] .
مع هذا التنوع يقول : (ما أصبح بالكوفة أحدٌ إلا ناعماً)، أي يعيش النعمة، يتمتع بالنعم، أو من النعومة بمعنى: الرخاء، وهذا يعني أن كل ساكني الكوفة، سواء من أهلها أو الآتين إليها، لم يعد فيهم أحدٌ إلا وهو يتمتع بالنعم، ثم يقول : (إنّ أدناهم مرتبة) الحد الأدنى في حياة أهل الكوفة (ليأكل من البرّ) وهذا يعني أنه لا يوجد جائع في الكوفة، أقل الناس رتبة في وضعه الاجتماعي والاقتصادي يتوفر له الطعام الكافي، (ويجلس في الظل) يمتلك مسكنا يأوي إليه.
فالطعام والسكن متوفر لكل أحد، وكذا الماء (ويشرب من ماء الفرات).
ولهذا النص تأكيدات جاءت في نصوص أخرى منها أنه مرَّ شيخٌ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين ما هذا؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني!.
فقال أمير المؤمنين : استعملتموه، حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال[5] .
لا يوجد فرق عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، بين أن يكون هذا الإنسان مسلماً أو نصرانياً، يجب أن تتوفر لكل أحد سبل الحياة الكريمة، وحاجاته الأساس.
وروي أنه: دخل الناس على أمير المؤمنين قبل أن يستشهد بيوم، فشهدوا جميعاً أنّه قد وفّر لهم فيئهم، وظَلَف عن دنياهم، ولم يرتش في إجراء أحكامهم، ولم يتناول من بيت مال المسلمين ما يساوي عقالاً، ولم يأكل من مال نفسه إلا قدر البُلغة، وشهدوا جميعاً أن أبعد الناس منهم بمنزلة أقربهم منه[6] .
وكان الإمام علي يحمل قلقاً وهمًّا لاحتمال وجود حالة فقر في المناطق البعيدة عن مقرّ خلافته، يقول (ولَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، ولُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، ونَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، ولَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، ويَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأطْعِمَةِ ولَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، ولا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ)[7] .
ويمكننا أن نلحظ أن توجهات الإمام في تحقيق التنمية الإنسانية في أبعادها المختلفة، كانت تعتمد ثلاثة مناهج:
الأول: استنهاض الإنسان ليمارس دوره الفاعل في الحياة، وليفجر طاقاته الكامنة، وليتسلح بالطموح وعلو الهمة.. وفي ما نقل من كلام علي في نهج البلاغة وغيره من المصادر ثروة هائلة عظيمة على هذا الصعيد.
الثاني: دعوة الناس للتعاون فيما بينهم، والتطوع لخدمة بعضهم بعضاً، والاهتمام بمناطق الضعف والحاجة في المجتمع، بما نطلق عليه الآن العمل الأهلي التطوعي، كقوله في وصيته للحسنين: (أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ، وأَلا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وإِنْ بَغَتْكُمَا، ولا تَأْسَفَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا، وقُولا بِالْحَقِّ، واعْمَلا لِلأجْر،ِ وكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، ولِلْمَظْلُومِ عَوْناً. أُوصِيكُمَا وجَمِيعَ وَلَدِي وأَهْلِي ومَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ، ونَظْمِ أَمْرِكُمْ، وصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا يَقُولُ (صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ والصِّيَامِ). اللَّهَ اللَّهَ فِي الأيْتَامِ، فَلا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، ولا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ)[8] .
الثالث: وضع سياسة الدولة في خدمة التنمية، وهذا ما تؤكده سيرة الإمام مع الشعب، وتوجيهاته للولاة والموظفين، ومن أبرزها واشملها عهده لمالك الأشتر حين ولاه مصر.
حيث يؤكد الإمام في فقرات هذا العهد على تطبيق العدل والمساواة بين المواطنين، وحفظ حقوقهم المادية والمعنوية، وإن اختلفت أديانهم وتوجهاتهم، يقول : (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ، ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ).
ويلفت الإمام نظر والِيه إلى أن مهمته لا تقتصر على أخذ الضرائب من الناس، وهو ما يطلق عليه جباية الخراج، بل إنه معني باستصلاح أمور أهل البلد في مختلف جوانبها الدينية والدنيوية، وعمارة البلاد، ومواجهة أي عدوان عليها. يقول : (هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وجِهَادَ عَدُوِّهَا واسْتِصْلاحَ أَهْلِهَا وعِمَارَةَ بِلادِهَا) ويؤكد الإمام على أولوية التنمية وزيادة الإنتاج قائلاً: (ولْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الْخَرَاجِ).
ويتحدث الإمام في هذا العهد حول دور كل طبقة من طبقات المجتمع، كالعسكريين والقضاة والموظفين والصناعيين والمزارعين والتجار، في صناعة التنمية، وتحقيق التقدم، محدداً واجبات الدولة في دعمهم والتعامل معهم.
يقول :(واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلا بِبَعْضٍ ولا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ).
ويؤكد على اختيار موظفي الدولة بناءً على الكفاءة والخبرة، وليس بدافع المحسوبية والاستئثار الفئوي. ثم متابعة الإشراف والرقابة عليهم، حتى لا يقصروا في مهامهم، ولا يسيئوا استخدام مواقعهم.
يقول :(ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً ولا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً ... ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأمَانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ).
كما يوجّه الإمام الدولة إلى الاهتمام بالفقراء والمحتاجين وذوي الأمراض المزمنة، وأن عليها أن تبحث عن مواقع الضعف والحاجة في المجتمع، وأن تعتمد في رعايتهم على ذوي الثقة وحسن التعامل. يقول :(ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى... وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ-أي تستصغره- وتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ فَفَرِّغْ، لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ).
إن عهد الإمام علي لمالك الأشتر يشكل وثيقة سياسية تربوية رائعة، ولا ينبغي أن نقرأه باعتباره برنامجاً للحاكم فقط، بل علينا أن نستلهم منه الرؤية لدور المجتمع في انجاز التنمية الشاملة.
تفاوت كبير وبون شاسع بين ما توفره البلاد المتقدمة لمواطنيها من ظروف الحياة الكريمة، وفرص التعليم والعمل والإنتاج، والرعاية الصحية، وأجواء الحرية والديمقراطية، وبين واقع البلدان النامية، حيث الواقع المتخلف، وافتقاد قطاع كبير من المواطنين للحد المعقول من الحياة الكريمة، بسبب الفقر، وتفشي الأمية، وانعدام فرص التعليم والعمل، إلى جانب افتقاد أبسط مقومات الحرية، وغلبة القمع الفكري والسياسي.
وقد دفع هذا التفاوت الملايين من شباب البلاد النامية، أو العالم ثالثية، إلى البحث بكل السبل عن أي فرصة للهجرة، والعمل في البلاد المتقدمة، ويكفي مثلاً على ذلك ما نراه من الحوادث المميتة والمتكررة التي يتعرض لها آلاف الشباب من إفريقيا والمنطقة العربية، بمخاطرتهم بأرواحهم وأموالهم بالهجرة غير الشرعية، عبر البحار في ظروف غير آمنة، وغير مضمونة، للبلدان المتقدمة في أوروبا الغربية واستراليا، لينتهي الحال ببعضهم طعماً لأسماك البحر. عدا الصفوف الطويلة من طالبي تأشيرات الهجرة والعمل أمام السفارات الأجنبية في بلادنا العربية.
ونجد على سبيل المثال بأن الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة إذا أرادوا الاستثمار المضمون ذا المردود الجيد، فإنهم يستثمرون أموالهم هناك، ولهذا تأخذ مليارات الدولارات العربية طريقها نحو الاستثمار في البلاد الأوروبية والأمريكية، لماذا؟ لأن تلك البلاد تتمتع بظروف أنسب للاستثمار الاقتصادي والإنتاج، وظروف العمل المناسبة، وسلامة القوانين. من هنا برزت هذه الهوة الكبيرة, والفارق الشاسع, بين تلك البلاد وبلدان العالم الثالث.
وإدراكاً من المؤسسات الدولية العالمية بخطورة هذا الأمر أنشأت الأمم المتحدة قسماً تحت عنوان «البرنامج الإنمائي» يهتم بقضايا التنمية البشرية، ويصدر عنه سنوياً تقارير دولية عن التنمية البشرية في مختلف دول العالم، وصدر عن هذا البرنامج حتى الآن أربعة تقارير خاصة بالمنطقة العربية تحت عنوان تقرير التنمية الإنسانية العربية.
وتجاوباً مع هذا المسار أصدرت بعض الدول العربية تقاريرها المحلية الخاصة بالتنمية، ففي المملكة العربية السعودية منذ العام 2003 أخذت تصدر وزارة الاقتصاد والتخطيط تقريراً سنوياً يرصد وضع التنمية في البلاد.
ويعرف الخبراء التنمية الإنسانية،-كما جاء في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 1990م-: بأنها عبارة عن عملية توسيع نطاق الخيارات المتاحة للناس، وقد تكون تلك الخيارات متغيرة مع الزمن وغير نهائية، إلا أنه في كافة مستويات التنمية، فالخيارات الثلاثة الضرورية التي يجدر توفرها هي: التمتع بحياة صحية وطويلة، واكتساب المعرفة، وتحصيل الموارد اللازمة لتحقيق العيش الكريم.
الأول: هو تكوين القدرات البشرية، مثل تحسين المستوى الصحي والمعرفي وتطوير المهارات.
والثاني: هو استفادة الناس من هذه القدرات المكتسبة في العمل المنتج، والحركة الاجتماعية والسياسية، والنشاط الثقافي والترفيه.
فحينما نجد أن هناك تخلفاً، وأن هناك موارد نقص في ظروف الحياة التي يجب أن تتوفر لنا كبشر وكمواطنين، فإن علينا أن نهتم بالتفكير في تحسين أوضاعنا وظروفنا، والسؤال هنا؛ من المسؤول عن انجاز وتحقيق التنمية البشرية؟
يعتقد كثير من الناس أن المسؤولية تقع حصراً على عاتق الحكومات التي بيدها مقاليد التحكم في الثروات الوطنية، فهي المعنية مباشرة بالتنمية البشرية للمجتمعات.. وهذا صحيح إلى حد بعيد, فالحكومات تتحمل الدور الأساس والرئيس في هذه المسألة، لكن لا يمكن بحال إغفال دور المجتمعات والشعوب في حض الحكومات من أجل وضع السياسات التنموية الصحيحة، ومن أجل التطبيق الصحيح لهذه السياسات، وللشعوب دور أساس في تحقيق التنمية والرقي من خلال فاعليتها ونشاطها وعطائها، ولذلك أشارت مختلف التقارير إلى أهميه دور منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية في هذا الاتجاه.
من هنا لا يصح إلقاء اللائمة على الحكومات وحسب، واعتبار أنفسنا في معزل عن تحمل المسؤولية، والاكتفاء بندب الحال بدعوى أن الحكومة لم تتحرك لفعل الشيء المطلوب.
والسؤال المهم هو أين دور المواطنين؟ وللإجابة عن هذا التساؤل, هناك ثلاث مهام يجب أن نفكر فيها وأن نهتم بها من أجل أن نساعد أنفسنا ونحسِّن أوضاعنا ونرتقي من خلالها بمستوى مجتمعنا:
فكما أن للتنمية ثقافتها كذلك للتواكل والخمول ثقافته، ولعل مشكلتنا تكمن في انتشار النوع الثاني من الثقافة في أجوائنا. نحن بحاجة إلى ثقافة حيّة تدفع كلاًّ منا لكي يفجر طاقته، ويعمل ما بوسعه من أجل تحسين وضعه الشخصي، والمساعدة في تحسين أوضاع الآخرين.
ولعلها إحدى المشكلات الغريبة جداً حين نجد أن بعضنا لا يهمه السعي نحو تحمل المسؤولية تجاه ذاته، فضلاً عن سعيه نحو تحمل المسؤولية تجاه غيره من الناس، فتجد الواحد من هؤلاء يعيش الفقر ويستسلم له، ويعيش البطالة ويخضع لها، ويعيش الجهل ولا يسعى لمواصله التعليم وكسب المعرفة.
والأسوأ في ثقافة الخمول هو تجيير بعض جوانب الثقافة الدينية من خلال الطرح المجانب للصواب ليكون الدين بالنهاية في خدمة حالة الخمول والتقاعس، وذلك من خلال تزهيد الناس في الحياة الدنيا، غافلين عن أن هذه الدنيا هي مزرعة الآخرة وأن من كان عاجزاً في دنياه فهو عن آخرته أعجز. وأن من لا معاش له لا معاد له، كما هو نصّ ومفاد روايات كثيرة. وضمن أجواء هذه الثقافة الخاملة نجد صنفاً من الناس لا همَّ لهم إلا تثبيط العزائم، فهم يشعرونك بعدم جدوائية أي عمل تريد الإقدام عليه، فإذا أردت أن تعمل مشروعاً اقتصادياً خوّفوك من الخسارة، وإذا فكرت بالذهاب للعمل في أي منطقه أخرى بعيداً عن بلدك زرعوا فيك القلق من الغربة، وإذا أردت أن تشترك مع آخرين في مشروع حذّروك من سوء الشراكة مع الآخرين.. وهكذا دواليك من ألوان الثقافة السلبية والتثبيطية.
من هنا نحن بحاجة إلى الثقافة التي تفتح أمام الناس آفاق الطموح والتطلع في هذه الحياة، والتي تزيح من أمامهم الحواجز المانعة من الانطلاق والعمل.
وينبغي على الخطباء الدينيين والمؤسسات الدينية والإعلامية التشديد على زرع ثقافة التنمية والطموح والرغبة في التقدم والفاعلية والعمل عند الناس.
تركز التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية والأمم المتحدة على أهمية دور منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية. ذلك أن وجود المؤسسات الاجتماعية الأهلية يعطي مؤشراً على تقدم مستوى الوعي لدى الناس، كما يعني تحمل الناس لمسؤولية أنفسهم، ونجاحهم في خلق حالة من التعاون فيما بينهم، وهذا أمر في غاية الأهمية لرقي أي مجتمع.
الدول المتقدمة تعج بالمؤسسات والمنظمات الأهلية التي لا تكاد تجد شأناً من الشؤون الحياتية إلا وله منظمة أهلية تهتم به، أو مؤسسه اجتماعية تتابع شأنه.
ولقد تجاوز أولئك الناس في اهتماماتهم الإنسانية حدود بلدانهم، فأسسوا المنظمات الأهلية التي تمارس عملها على مستوى الكرة الأرضية، فهناك المنظمات الحقوقية والطبية والاغاثية، فمنظمة العفو الدولية، أو أطبّاء بلا حدود، أو هيئة الإغاثة الدولية، باتت أشهر من أن تعرف.
حتى إن امرأة واحدة كالأم تريزا (1910-1997م) تنطلق من مقدونيا في قلب أوروبا لتتفرغ للعمل الإنساني ضمن توجهاتها التبشيرية في الهند وأفريقيا ولتؤسس عبر مسيرة حياتها عشرات الملاجئ والبيوت لاستيعاب آلاف الأيتام والمرضى والمنبوذين وذوي الأمراض الميؤوس من شفائها.
والمؤسف في مقابل ذلك أننا نجد بعض مجتمعاتنا لا تسعى لسد احتياجاتها المحلية في المدينة والقرية، وإن بعض الحالات التي تعيشها الجمعيات الخيرية في مناطقنا تبعث على الخجل، فنظرة إلى بعض التقارير الصادرة عن هذه الجمعيات تكشف بأن حجم التبرعات القادمة من خارج منطقتها تعادل أضعاف تلك الواردة من داخلها.
ولعل الحاجة لمثل هذه المؤسسات ليست نابعة فقط من الحاجة لمعالجة حاجات المجتمع فحسب، وإنما للمتابعة والتواصل مع الدوائر الحكومية أيضاً. من هنا تنبع أهمية الفكرة المطروحة التي تتبناها المجالس البلدية، في تأسيس ما أطلق عليه بمجالس الأحياء، وتنبع أهميتها من زاوية بعث الاهتمام لدى أهالي كل حي بضرورة الاهتمام بشؤون حيِّهم السكني من خلال انتخاب مجموعة تدير هذا المجلس، وتنصب جهودها في تلبية حاجات الحي من مختلف الخدمات عبر التواصل مع الجهات المعنية.
نحن بحاجة إلى مزيد من اللجان الأهلية بما يتجاوز تلك القائمة الآن وبحاجة إلى أكثر من لجنة تتصدى باتجاه برامج تدعم التعليم العام، وإلى جهد أهلي يواكب مدارس التعليم العام ويتفاعل معها.
وعلى المنوال نفسه، نحن في أمس الحاجة إلى لجان أهلية مساندة في قطاع الصحة، ولعل في لجنة أصدقاء المرضى التابعة للغرفة التجارية بالمنطقة الشرقية خير مثال، لماذا لا تشكّل لجنة أصدقاء المرضى في المنطقة لغرض زيارة هذه المستشفيات والتواصل مع إداراتها لسدِّ بعض النواقص وإيصال الشكاوى إلى جانب المساندة والدعم؟ فهذا بالتأكيد سيجعل من إدارة المستشفى أكثر جدِّية وحزماً في التعاطي مع مختلف الأخطاء ومواقع القصور.
العديد من المرضى في بلادنا يقصدون أهل الخير طلباً للمساعدة في متابعة العلاج أو لعجزهم عن شراء الأدوية، وهذا ما يحتِّم علينا إيجاد جهات أهلية ترعى مثل هؤلاء..
ويتكرر الأمر كذلك على صعيد التوظيف، وهنا من المهم التنويه بالجهود الطيبة لدى بعض الجمعيات الخيرية التي بادرت باستحداث أقسام للتأهيل والتوظيف ومساعدة الشباب في إيجاد فرص العمل.
ولعلنا نذكر بهذا الصدد صندوق المئوية التي نبعت فكرته الأم على يد ولي عهد بريطانيا الأمير تشالز، والتي يَنصبُّ هدفها الأساس في دفع الشباب نحو إيجاد وتأسيس مشاريع ومؤسسات صغيرة بالاعتماد على تمويل هذا الصندوق، وتقديمه الخبرة والتسهيلات، لقد شق هذا الصندوق طريقه تدريجياً إلى مناطق مختلفة عبر العالم، وبالفعل تمَّ على غرار ذلك تأسيس صندوق المئوية بالمملكة قبل نحو عامين.
وكذلك الأمر على المستوى الثقافي، نحن بحاجة لمبادرات شبابية على المستوى التقني والثقافي ترعى أعمالاً تطوعية في مختلف الاتجاهات، وعلى هذا الهدي سيكون الأمر في قمة السلوك الحضاري لو تصدى من بيننا من هم على استعداد لتبنِّي طباعة الإنتاج الثقافي لأصحاب القلم غير المقتدرين على طباعة إنتاجهم الثقافي والأدبي والديني.
والحمد لله رب العالمين.