الشيخ الصفار: تحويل التجربة العملية للمؤسسات الدينية في المنطقة إلى تجربة مكتوبة
استضافت جماعة الهدى للتعليم بالقديح سماحة الشيخ حسن الصفّار في زيارة تفقدية لمواقع التعليم للجماعة، في مسجدي السدرة والإمام علي ، وذلك مساء يوم الأحد 30/ 06/ 1428 هـ ـ 15/ 07/ 2007 م، حيث ألقى سماحته كلمة تشجيعية على أعضاء الجماعة من هيئة تدريس وكادر إداري وتنفيذي بالجماعة.
وقد ركّز سماحة الشيخ الصفّار في كلمته على ثلاث نقاط، تحدث في أولاها عن «أهمية التعليم الديني كعمل عبادي» له من الأجر والثواب الشأن العظيم.
وفي النقطة الثانية أشار سماحته إلى «المردود الشخصي من هذه الأعمال»، والتي تتمثل في الخبرة في مجال العمل والإدارة وتطوير الذات، التي يكتسبها العامل في الشأن الاجتماعي والثقافي من خلال تراكم هذه التجربة والخبرة. وفي النقطة الأخيرة تحدث سماحته عن أهمية تطوير العمل والذات مع الاستمرار في هذه الأنشطة.
فَبَيَّنَ ما ينقص مجتمعنا من وجود قيادات فاعلة في المجتمع، وذلك بسبب عدم تطوير الذات في العمل الوظيفي والاجتماعي، داعيًا في هذه النقطة إلى كتابة هذه التجربة الميدانية لجماعة الهدى وتوثيقها وتنميتها من خلال المقترحات والخطط التي يقدّمها أفراد الجماعة، ما يمهّد الطريق لأن تستفيد باقي الجماعات الأخرى من هذه التجربة الغنية.
جدير بالذكر أن جماعة الهدى للتعليم تأسست عام 1415 هـ كتطوّر لجماعة تعليمية تهتم بتعليم أحكام الصلاة وبعض الأحكام العبادية الأخرى، تمتدّ لأكثر من 25 سنة، ويتشكل معظم الكادر التعليمي والإداري لهذه الجماعة من خريجي هذه الدورات التعليمية.
وتعد الجماعة من أنشط وأوسع الجماعات التعليمية في المنطقة، حيث تستقبل سنويًّا أكثر من أربع مئة طالب، وفي هذا العام بلغ عدد الطلبة المستفيدين من برنامجها الصيفي 495 طالبًا، للأعمار من السابعة وحتى الخامسة عشرة، وبلغ عدد الكادر التعليمي والإداري أكثر من 80 شخصًا.
ويتضمن البرنامج الصيفي للجماعة: تعليم الفقه والأخلاق والعقيدة والسيرة والتفسير، بالإضافة إلى العديد من الأنشطة الطلاّبية، في مجالات: الخط والرسم والإنشاد والمسرح والرحلات الترفيهية والدوري الرياضي.
نص الكلمة:
في البداية أعرب عن سروري وتقديري لهذا الجهد المبارك الذي تبذلونه في احتواء أبناء المجتمع وتعليمهم وإرشادهم، فهذا العمل الذي تقومون به من خلال هذه الحلقات والدورات يعد من أفضل الأعمال من حيث الثواب والأجر عند الله سبحانه، وهذا قول ليس للمجاملة أو المبالغة، وإنما هو ما تؤكِّد عليه كثير من الروايات التي تعجّ بها مصادرنا الحديثية حول فضل التعليم والإرشاد وهداية الناس.
وبخاصّة أن هذا العمل ليس له عائد شخصي مصلحي على الإنسان، وإنما عائده أخروي ديني اجتماعي، وانطلاقًا من هذه الزاوية يُغْبَط الإنسان الذي تكون لديه مثل هذه الفرص التي سنحت لكم، وخسرها كثيرون، أسأله تعالى أن يوفقكم وأن يديم البركة في أعمالكم وأرزاقكم ونشاطكم.
يقول الله تعالى: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[1] .
تفيد هذه الآية الكريمة، بأن الإنسان الذي يبذل جهده في أعمال الخير، وخدمة المصلحة العامّة، سيكون انعكاس ذلك عليه بالدرجة الأولى، ولا تنحصر فائدة عطائه على الآخرين فقط، إنما هو في الأصل عطاء للذات.
ويمكن تصور كيف يكون ذلك عائدًا على الذات من نواحٍ ثلاث:
الجهد الذي يبذله الإنسان من أجل المصلحة العامّة وخدمة الآخرين له ثواب وجزاء عظيم عند الله، وهذا ما تواترت حوله النصوص الدينية المتضافرة.
وفيما يخص التعليم الديني، لدينا روايات ونصوص كثيرة وردت تبين ما له من الفضل والثواب، ومن ذلك ما روي عن الإمام الحسن العسكري أن امرأة حضرت عند الصديقة فاطمة الزهراء فقالت: إن لي والدة ضعيفة و قد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، و قد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة عن ذلك فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى أن عشّرت فأجابت ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول الله، قالت فاطمة: هاتي و سلي عما بدا لك أرأيت من اكتري يومًا يصعد إلى سطح بحمل ثقيل و كراه مئة ألف دينار يثقل عليه؟، فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا فأحرى أن لا يثقل علي[2] .
فإذا كانت سيدتنا الزهراء تطمع في ثواب التعليم والهداية، فكيف لا يكون بقية الناس العاديين حريصين على ثواب الهداية والتعليم؟!
وروي عن أبي عبد الله الإمام الصادق قال : معلم الخير تستغفر له دواب الأرض ، وحيتان البحر وكل صغيرة وكبيرة في أرض الله وسمائه[3] .
ولذلك يُنْقَل أن الشهيد المطهري كان يوجّه المعلمين في إيران بأن يتوضؤوا قبل الذهاب إلى التعليم، وأن ينوي كل معلم في وضوئه بأنه يذهب إلى عبادة الله.
ذلك لأن الاهتمام بالتعليم وأداءه على طهارة وتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى يعد من أفضل الأعمال العبادية التي يُتقرَّب بها إليه سبحانه.
وعندما يقوم الإخوة المعلمون في جماعة الهدى بهداية وتعليم هؤلاء الصبية طوال هذه السنوات، لهو من أفضل الأعمال الخيرة الطيبة المباركة.
وأنتم بذلك تربون جيلاً كاملاً على الانتماء والاستقاء من نمير الإسلام، وهذا له من الأجر والثواب ما لا يعدّ ولا يحصى.
الإنسان تتبلور طاقته وقدراته من خلال العطاء، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين : «والْعِلْمُ يَزْكُوا عَلَى الإنْفَاقِ»[4] .
اكتساب الإنسان للقدرات الذهنية والفكرية والمهارات الإدارية في التوجيه والتنسيق أمر يحتاج إلى تدريب ومران، ومن أجل ذلك تعقد الدورات لدى كبريات المعاهد ومراكز التدريب على مستوى العالم.
لذلك تكون الفترة التي يقضيها المتطوع، ويتعامل فيها مع مختلف الشرائح، فرصة جيدة تكسبه كثيرًا من هذه القدرات والمهارات، ومن خلالها يصقل نفسه وينميها، ويكتشف ما لديه من مواهب وطاقات.
إن الإنسان المتطوّع لعمل الخير في الشأن الاجتماعي والثقافي إذا توجّه بفكره إلى هذه الأعمال يستفيد منها بشكل كبير جدًّا، وبذلك يكون مصداقًا عمليًّا للآية الكريمة: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾.
في ثقافتنا الإسلامية، يستفيد الإنسان من أي عمل بمقدار ما يقبل على هذا العمل، فالصلاة يستفيد منها الإنسان بمقدار ما بتوجه بقلبه إليها، أما في حال كانت مجرّد طقوس روتينية يمارسها دون توجّه فعلي، فإنه لا يحصل منها على التأثير المطلوب.
وكذلك الأعمال الخيرة التي تقومون بها، إنكم تستفيدون منها بمقدار إقبالكم عليها.
ولذلك فليعلم الإخوة الذين يعلّمون في هذه الحلقات، أنهم في حال توجهوا للاستفادة من ممارستهم للتعليم، فإنهم يقدمون لأنفسهم فرصة للرقي والتقدّم، ولنمو الطاقات والمواهب في ذواتهم.
وفي هذه النقطة أودّ الإلفات إلى أمر مهم، وهو ما نشعر به من الحاجة الماسّة إلى الكفاءات والقدرات القيادية، وهو أمر لا يعود لنقص في أبناء المجتمع، وإنما لأن الغالبية منهم لا يعطون لأنفسهم الفرصة في تبلور طاقاتهم وقدراتهم، ولهذا تصبح العناصر القيادية محدودة في مثل هذه المجتمعات.
الإنسان يحتاج إلى خبرة وتجربة، ولذلك تهتمّ الشركات والمؤسسات بخبرة الإنسان العملية، ويحسبون لها حسابًا.
وأنتم بانتمائكم إلى هذا العمل الخير تكتسبون خبرات اجتماعية وتنظيمية من المفترض أن تستفيدوا منها في واقعكم العملي، وأرجو ألاَّ تتحوَّل هذه الحلقات والدور الذي تمارسونه إلى حالة روتينية وعمل اعتيادي، بل ينبغي أن يكون هناك تفكير لتطوير أدائكم وقدراتكم وطاقاتكم.
وهذا هو الفارق الكبير بين الناس الناجحين المتقدمين، وبين أولئك العاديين.
لدينا في المنطقة موظفون ومتخصصون في شتى المجالات، فهناك المعلم والمهندس والطبيب والعامل والفني، وغيرها من التخصصات والمهن.
ومما يؤسف له ان معظمهم يقضي سنواتٍ طوال في عمله، إلى أن يحال على التقاعد، دون أن يكتب وريقات حول تجربته وخبرته في مجال تخصّصه، فكم من معلمي اللغة العربية في منطقتنا ألف كتابًا حول تجربته في مجال تدريس هذه المادّة، وكم طبيبٍ تقاعد وأفاد من يأتي بعده ببحث حول تجربته في الطبابة، وكم من مزارع كتب حول الزراعة، وصفات بعض منتجات المنطقة؟
ولذلك أدعوكم فيما يخص نشاطكم التربوي ونطاق عملكم إلى أن يفكر كل فرد من أفراد كادر جماعة الهدى ـ من خلال احتكاكه بالأبناء وتدريسه لهذه الأفكار ـ ان يكتب عن هذه التجربة.
وأنا أنتظر ـ ولو من بعضكم ـ أن يظهر هذه التجربة على شكل دراسة حول تعليم المواد الدينية، ويشير إلى ما لديه من أفكار وتجارب ومقترحات مفيدة، أرجو أن تبادروا وتكتبوا في هذا المجال، لأنكم بذلك ستكونون السبّاقين.
وهذه ليست من الأمور الصعبة، لأنَّ أيًّا منكم إذا اعتصر ذهنه، وركّز فكره، يصل إلى أفكار جديدة، فالذين وصلوا هم بشر أمثالكم، ولكنهم حاولوا أن يحولوا تجربتهم إلى مادّة مكتوبة يستفيد منها من يأتي بعدهم، فبعضهم قد نجح، والآخر يكفي أنه قد بادر وحاول، لذلك أرجو أن يكون لديكم الثقة بأنفسكم، فهذه المبادرات ستكون من المبادرات الجديدة، التي ستصبح مراجع تعتمد في هذه المجالات.
وأنا أَعُدُّ نفسي من المهتمّين بهذه النوعية من الدراسات، وأحس بفخر واعتزاز كبيرين عندما تظهر عندنا دراسات جادّة في هذه المجالات، وأن تكون هذه الدراسات من هذه المنطقة.
ركزوا وفكروا جيدًا وستطورون من أسلوب عملكم وممارستكم، يجب أن تحولوا هذه الممارسة إلى فكرة وتجربة مكتوبة، وهو أمر لا أقترح أن تقوموا به هنا فقط، بل في كل مكان تتواجدون فيه، وبخاصّة في مجال عملكم وتخصصاتكم.
ومن الجيد أن تكون لديكم دراسات ميدانية تمس عملكم الأساس، وهو الاعتناء بإعداد جيل صالح.
بحيث تكون لديكم أرقام واضحة حول أعداد الطلاب الذين التحقوا بهذه الدورات، ومن الذي تخرج منها، ومعلومات تفصيلية عن هؤلاء الطلاب حول مراحلهم الدراسية وتخصصاتهم العلمية، وتوجهاتهم في العمل الخيري، وهذا يتم عادة بالتواصل مع هذه الشريحة التي كانت في يوم من الأيام ضمن أفراد هذه الحلقات، ولذلك عليكم في البدء أن تهتموا بمسألة التواصل الدائم معهم، لتكون وسيلة جيدة لمعرفة مدى نجاح وتحقيق أهداف هذه الدورات، والأفكار التي تحاولون غرسها في نفوسهم.
فتكون لديكم إحصاءات عن عدد المتفوقين دراسيًا منهم، أو من التحق منهم بدراسة العلوم الدينية، وكذلك من التحق بالعمل الاجتماعي والخيري، ومَنْ مِنْهم له سيرة حسنة في المجتمع.
وهذا أمر تطبّقه أكثر الجامعات الراقية في العالم، حيث يقومون بعمل ما يشبه الرابطة للطلاب المتخرجين.
إن آثار بذل الجهد التي تتحدّث عنها الآية الكريمة لا تأتي إلا بعد إقبال واعٍ على هذه الأعمال، ونيّة جادّة لتطوير الذات من خلال تراكم الخبرات والتجارب في مثل هذه الأعمال.
أسأل الله تعالى لكم مزيدًا من التطوير والتجديد والتوفيق وجزيل الثواب، إنه تعالى ولي كل ذلك، وهو أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.