الإمـام عـلي (ع) رائـد الإصلاح
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
تتعدَّد أنماط قراءة الشخصيات التي أخذت مساحة واسعة من تفكير الأجيال المعاصرة واللاحقة لحياتهم بما ورَّثوه من نظريات ومبادئ أو خروج منطوق تلك النظريات إلى حيِّز التطبيق العملي.
ولأننا نعيش ذكرى أحد عظماء الإنسانية وعمالقتها في الفكر والسلوك، ألا وهو رائد الإصلاح، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، الرائد الذي قرأه كثير من أصحاب الفكر والمعرفة، فغالى بعضٌ واستخفَّ آخر، كما توقع هو حين قال: (هَلَكَ فِيَّ رَجُلانِ مُحِبٌّ غَالٍ ومُبْغِضٌ قَالٍ)[1] .
ولكي لا نكون أحد النمطين، نحاول أن نقرأ الإمام عليًّا قراءة تقوِّم ما اعوجَّ من سلوك في واقعنا المعاصر، متجاوزين بذلك القراءة التقليدية التي تشغلنا بهموم التاريخ الماضي، ومشاكله وأحداثه، نحن بحاجة لكي نقرأ تاريخ الإسلام، وتاريخ أئمته، قراءة جديدة تساعدنا على معالجة قضايانا، وترفع من مستوى أوضاعنا المترديَّة، ولسنا بحاجة إلى قراءة ترفع من وتيرة البغض والكراهية بيننا، بالانغماس في مشكلات الماضي وأحداثه، إلا بمقدار ما ينفعنا من دروس وعِبَر، لذلك نبسط الحديث عن سيرة الإمام علي في الإصلاح.
تحتاج المجتمعات البشرية إلى مراجعة دائمة, وإلى تفحُّص مستمر لواقعها وأوضاعها, من أجل معالجة نقاط الخلل والنقص، لأن كل مجتمع بشري لا يخلو من نقاط ضعف تحتاج إلى تقوية، أو ثغرات تحتاج إلى سدٍّ، كي يصل ذلك المجتمع إلى مصافِّ المجتمعات المتحضِّرة.
إن الخلل الذي لا يسلم منه أيُّ مجتمع بشري، له أسباب عدَّة، نسرد منها ثلاثة أسباب:
فلا أحد يستطيع ادعاء العصمة والكمال إلا المعصومون الذين عصمهم الله، أما المجتمعات، والقيادات، والفئات، فوارد أن تقع في الخطأ، فـ: (كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطّاءين التوابون) كما ورد عنه [2] .
فقد تتخذ أمة من الأمم مسارًا خطأً، وقد تسلك قيادة من القيادات نهجًا غير صحيح، وقد يبدي عالم من العلماء أو مجموعة من العلماء آراء وأفكاراً بعيدة عن الصواب، هذا أمر وارد، لا أحد يستطيع أن ينفيه، ومادام هذا الخطأ واردًا في حياة المجتمعات، فعلى المجتمع في كل مرحلة، وفي كل وقت، أنْ يتفحَّص ثم يسأل: أليس هناك خطأ في توجُّهاتنا؟ أليس هناك خطأ في آرائنا؟
لا يختلف اثنان على أن الناس في المجتمعات البشرية ليسوا ملائكة، وليسوا أطهارًا لا يحصل منهم الانحراف، فقد يحصل الانحراف من المواقع المتقدمة في الأمة، أو لدى عامة الناس، أو من قبل الجهات الوسيطة بين قيادات الأمة وجمهورها.
هذا الانحراف، سواء كان مقصودًا أو غير مقصود، فهو قد يحصل في طرح الآراء، وفي تطبيق البرامج والخطط، فعلى المجتمع أن يتأكد من صحة مسيرته وعدم تعرضها للانحراف. يقول تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[3] .
قد يكون الرأي صوابًا، والاتجاه صحيحًا، ضمن زمن معيَّن، وواقع معيَّن، وحينما تتغير الأوضاع, وتتطور الحياة، فإن ذلك القرار قد يحتاج إلى تغيير وتطوير، فإذا لم تحصل متابعة في التغيير والتطوير يحدث هناك خلل, وهذا الخلل ليس ناتجًا من الرأي ذاته، وليس من وجود انحراف، وإنما هو ناتج من عدم المواكبة للتطورات. ولهذا فإن المجتمعات المتحضِّرة والمتقدِّمة تدرك الحاجة إلى المراجعة الدائمة والتغيير والإصلاح، إذْ بنظرة عَجْلَى في كل دساتير تلك الدول، نجد في كلِّ دستور مادة تعالج إمكانية التغيير في مواد الدستور، رغم أن الدستور يُعَدُّ أقدس شيء في كل أمة من الأمم، لأن الدستور يوضع بعد دراسة وبحث واستفتاء شعبي، وترافقه إجراءات وضمانات عديدة، ولكن ـ لأن الظروف تتبدَّل، ولأن الخطأ وارد - يوجد في كل دستور من دساتير دول العالم مادة تعالج كيفية التغيير والتبديل في الدستور.
هل أن البرلمان بأغلبيته يصوِّت على التغيير؟ أو أن الحاجة تستدعي الاستفتاء الشعبي على كل تغيير؟
إنَّ وجود مادة تعالج موضوع التغيير في الدستور, يحمل دلالة على الوعي بأهمية التطوير حتى في الدستور، وهو أثبت وأقدس شيء في كل أمة من الأمم.
من ناحية أخرى، تجد أن المجتمعات المتقدمة لديها مؤسسات تُعْنَى بمتابعة المراجعة والتغيير، برلماناتها، ومؤسساتها الدستورية، والسياسية، والعلمية، كلُّها مَعْنِية بالمتابعة والمراجعة، وهناك مراكز أبحاث ودراسات تدرس مختلف الظواهر الاجتماعية والثقافية والأوضاع السياسية، وتقترح تغييرًا، أو معالجة، وتبرز نقاط الضعف فيها، وثالثاً هناك رصد للرأي العام، استبانات واستفتاءات.
ففي كل حدث أو منعطف، يكون هناك رصد للرأي العام في أداء الإدارة السياسية، وفي الأوضاع الاجتماعية.
هذه الروافد الثلاثة الموجودة في المجتمعات المتقدمة: المؤسسات الرسمية، ومراكز الدراسات والأبحاث، واستطلاعات الرأي العام، هي أطُرٌ ومناهج تُعْنَى بالمراجعة من أجل التغيير والإصلاح.
في مجتمعاتنا العربية والإسلامية نجد هذه الروافد قليلة محدودة، وفي بعض جوانبها منعدمة، ولذلك لا تعيش مجتمعاتنا حالة المراجعة والتفحُّص والإصلاح الدائم.
المجتمعات الأخرى تنجز إصلاحًا وتطويرًا عند مراجعتها لأوضاعها، بينما في مجتمعاتنا تكون المراجعة أمرًا صعبًا، والتغيير والتطوير متعذرٌ في كثير من الأحيان، ولذلك تبقى الأوضاع على ما فيها من أخطاء، وانحرافات، ومع ما فيها من تخلف عن مواكبة تطور الحياة والمجتمع، تبقى في حالة استرسال، واستصحاب، وكأننا نتمثل ما ينقل عن (جحا) عندما سئل ذات مرة: كم عمرك ؟
قال: أربعون سنة.
وبعد عشرين سنة سئل: كم عمرك؟
قال: أربعون سنة.
قيل له في ذلك.
قال: كلمة الرجل واحدة لا تتغير.
ما دمنا نسير على رأي معين ووضع معين فينبغي أن نستمر عليه ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾[4] .
في أغلب المجتمعات العربية والإسلامية، المراجعة أمر صعب، في المجال السياسي والفكري، وفي العادات والتقاليد، بل حتى في بعض الآليات والوسائل الخارجية نجد التغيير صعبًا.
قرأت في جريدة المدينة ملحق الرسالة بتاريخ 30 شوال 1426هـ حديثًا لرئيس مجلس الشورى في المملكة الشيخ صالح بن حميد وهو إمام المسجد الحرام، كان يتحدث به في احتفال تكريمي أقيم في جامعة أم القرى لوالده الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد(1329- 1402هـ)، وحكى فيه كيف تمكن والده في السبعينيات الهجرية من كسب معركة بناء الجامع الكبير في بريدة بالاسمنت المسلح، بعد أن لقي معارضة شديدة من أهالي المدينة، الذين اعترضوا بشدة وطالبوه بأن يكون البناء بالطين وسعف النخيل، على ما درج عليه أجدادهم معتبرين ذلك معركة حياة أو موت.
هذا أنموذج لرفض التغيير والتطوير حتى في الوسائل والآليات، ومثل ذلك نجده في مختلف مجتمعاتنا، فالشيخ الدكتور أحمد الوائلي (1347-1424هـ) يتحدث في كتابه (تجاربي مع المنبر) عن مشروع تبنَّاه هو وعدد من العلماء الواعين في النجف الأشرف للمساعدة في تطوير مستوى الخطابة والخطباء، واستأجروا مكاناً كمقر له تحت عنوان (منتدى النشر), يقول: وتحرك أصحاب المصالح وفي طليعتهم مجموعة ممن يمتهن الخطابة، وانتشرت شائعات تقول: إن منتدى النشر يريد تغيير صورة الأمويين في أعين الناس، والقضاء على الشعائر الحسينية، وتزوير التاريخ، إلى آخر ما هنالك من افتراءات أدت إلى صدور تصريحات من الزعامات الدينية تدين منتدى النشر، وانتهى الأمر بالهجوم على المؤسسة المعدة للتدريس، وعلى منتدى النشر هي الأخرى، فكُسّرت الكراسي، وحُطّم ما في البنايات من أدوات، وهرب القائمون على العمل واختبأوا عن الأعين.
وكان أحد التصريحات من بعض المراكز الدينية أن الحسين قتل مرتين مرة يوم الطف وأخرى في حركة منتدى النشر[5] .
يبدو لي أن هناك سببين رئيسين لصعوبة المراجعة والتطوير في مجتمعاتنا:
1/ ثقافة الممانعة للتغيير، التي تقوم على أساس تقديس الواقع القائم، والتشبث به، إذ ليس في الإمكان أبدع مما كان، وتروّج هذه الثقافة لنظرية المؤامرة من قِبل الأعداء، فمشكلات الأمة هي مؤامرات اليهود والنصارى، وخطط الاستكبار العالمي.
بالطبع, لا أحد ينفي أن للقوى الأجنبية مطامعها ومصالحها، وأنها تسعى للهيمنة علينا وعلى المستوى العالمي، لكن ضعفنا هو الذي يغريهم بنا، وثغرات واقعنا هي التي تمكن لهم النجاح في خططهم ومشاريعهم ضدنا.
نحن بحاجة إلى الإصلاح الديني، ثقافتنا الدينية تحتاج إلى إصلاح، الدين حق، لكن ما نفهمه من الدين يحتاج إلى مراجعة، فالكثير يخلط بين الدين في حقيقته وبين فهم الناس للدين، لا يدَّعي العلماء أنهم في آرائهم مصيبون قطعًا مئة في المئة، وإنما يقولون إنهم مجتهدون، والمجتهد قد يصيب وقد يخطئ، ومعنى ذلك أن باب الاجتهاد يجب أن يكون مفتوحاً. لماذا يستعصى علينا التطوير والإصلاح في الكثير من الآراء والأفكار، حتى جزئيات المسائل نعدُّها من الضروريات وثوابت العقيدة والدين، ومن الصعوبة بمكان أن يُعاد النظر فيها؟ لفتَ نظري بحث كتبه أحد الفقهاء الكبار في النجف الأشرف, الشيخ محمد إسحاق الفياض، تحت عنوان (أحكام الاجتهاد) يشير فيه إلى أن صنف الأحكام الشرعية الذي يتمتع بطابع الضروري، ولا يوجد فيها خلاف بين الفقهاء والمجتهدين، لا تتجاوز نسبته إلى مجموع الأحكام الشرعية عن ستة في المائة، بنسبة تقريبية. وما عداها, أي بنسبة 94% تقريباً من الأحكام الشرعية فهو من الأحكام التي يتمتع بطابع نظري يتوقف إثباته على عملية الاجتهاد والاستنباط، ويكون مورداً للبحث والخلاف بين الفقهاء والمجتهدين[6] .
إذًا نحن بحاجة إلى الإصلاح الشامل على مختلف الصعد. ولكن العائق وجود هذه الثقافة التي تقدّس الواقع، ولا تعطي الفرصة لأي رأي، ولا لأي نقد في المجال الديني، وكأن أيَّ نقدٍ هو نقد للدين، فمما لا شك فيه أن النقد بضوابطه العلمية الموضوعية ليس نقدًا للدين، الدين قوي عميق لا يُخشى عليه، والنقد يقوِّي الدين، والمراجعة تُظهر عمق الدين، وتُظهر صلاحيته. ثمَّة من يعاني من الضعف في رأيه، وفي أدلته، فيخشى من إظهار ضعفه هو، وليس الدين، النقد يوصل لما هو أفضل في المجال الديني. وفي المجال السياسي أيضًا، يجب أن يكون هناك إصلاح يستهدف توسيع رقعة المشاركة الشعبية، ووضع الضمانات لاتخاذ القرارات الأصوب، ولوضع آليات التطبيق والتنفيذ بعيداً عن الفساد والمحسوبيات، وبوجود رقابة نظامية، وحرية سياسية إعلامية تمكنّ من فضح أي تلاعب أو فساد.
وهكذا الحال في المجال الاجتماعي، لا بد من إتاحة الفرصة للنقد, وقيام مختلف المؤسسات الأهلية الفاعلة.
2/ وجود مراكز قوى تستفيد من الواقع القائم، وتخشى من التطوير والتغيير أن يكون على حساب مصالحها ومكاسبها، ولذلك تعارض المراجعة والتجديد والإصلاح، حتى تبقى الأمور كما هي، لأنها تستفيد من ذلك بحفظ مصالحها ومكاسبها.
من أجل أن تحصل نهضة الإصلاح والتغير في أي مجال من مجالات حياة الأمة، لا بد من توفر ثلاثة عوامل:
القيادات الدينية والسياسية في الأمة يجب أن تبادر، وأن تتصدى للإصلاح والتغيير، وإلاَّ فالوضع ينذر بخطر كبير، العالم لن يسمح لنا أن نبقى على ما نحن فيه، أضرار هذا الواقع المتخلف الذي نعيشه ما عادت تقتصر علينا، أصبح العالم يعاني من إفرازاتها ونتائجها، لا يقبل العالم أن تبقى هذه الأمة عائقًا أمام حركة التطوير العالمي، كما أن هناك أطماعًا واستهدافات عدائية، وتوجهات ضد الأمة ومصالحها، تستثمر هذا الواقع المتخلف لشنّ حملاتها على الأمة، للهيمنة على إرادتها وثرواتها. وهناك تململ وغضب في أوساط جماهير الأمة، وإذا لم تنطلق مبادرات لإصلاح هذا الواقع تحصل انفجارات وكوارث.
وما هذه التوجهات الإرهابية العنفية إلا من إفرازات المآزق والأزمات التي تعيشها الأمة، وما هو قادم أخطر إن لم تكن هناك مبادرة من قيادات الأمة للإصلاح والتطوير، من هنا نثمِّن المبادرة التي أقدم عليها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز, حينما دعا قيادات الأمة وعلماءها للاجتماع في مكة المكرمة قبل سنتين لوضع خطة للإصلاح. ثم انعقد مؤتمر قمة استثنائية لزعماء الدول الإسلامية بتاريخ 5و6 ذو القعدة 1426هـ، لمناقشة التوصيات التي قدَّمها العلماء والمفكرون، وتم إقرارها والموافقة عليها، ولكن ماذا عن التطبيق العملي لتلك التوصيات من قبل الدول والأنظمة السياسية؟
هذا ما يجب أن يتفعَّل في كل دول الأمة ومجتمعاتها، وليس مجرد طرح نظري. فالأمة على مفترق طرق، وتواجه أخطاراً وكوارث كبيرة.
نحتاج إلى المبادرات الجريئة الشجاعة، لأن أيّ قيادة سياسية تريد الإصلاح لن تجد الطريق مفروشًا أمامها بالورود والرياحين، فهناك معوقات ومراكز قوى ضاغطة، وأيّ قيادة دينية تريد الإصلاح لن تواجه بإلقاء التحية والاحترام، ستكون هناك تعبئة ضدها، وستتهم في دينها، ولكن الأمر بحاجة إلى تضحية وإخلاص لله سبحانه كما يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾[7] .
أيّ قيادة تريد الإصلاح ينبغي أن تفكر في إنتاج الثقافة الداعمة لتوجهات الإصلاح، لأنه لا يمكن أن يحصل الإصلاح في بيئة ثقافية متخلفة. لا بد من تشجيع ثقافة الانفتاح، والوعي بمتطلبات الزمن، وإتاحة الفرصة لحرية الرأي والتعبير عن الرأي، على المستوى السياسي والديني والاجتماعي.
وعي جمهور الأمة، واستجابتهم لبرامج الإصلاح والتغيير، هو الذي يؤذن بانطلاق نهضة الاصلاح، أما الاكتفاء باجترار الشعارات، وتمنيات التغيير، دون رفع مستوى الفاعلية والإنتاج، والالتفاف حول القيادات المخلصة، والبرامج الصالحة، فانه لن يغيّر من واقع الأمة شيئاً.
ولنقترب من سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، حيث يمكن القول بحق إنه رائد الإصلاح في وقت مبكر من تاريخ الأمة الإسلامية، إذْ تبنَّى نهجًا إصلاحيًاً جريئًا.
فقد وصل إلى الخلافة بمبايعة شعبية جماهيرية، تختلف عن طريقة مبايعة الخلفاء السابقين، حيث وصل الخليفة أبو بكر إلى الخلافة عن طريق المبايعة في سقيفة بني ساعدة، والخليفة عمر وصل إلى الحكم عن طريق ترشيح من الخليفة أبي بكر، والخليفة عثمان وصل إلى الحكم عن طريق مبايعة ستة من الصحابة عيَّنهم الخليفة عمر ضمن قصة الشورى المعروفة، ولكنَّ الإمام عليًّا وصل بطريقة أخرى، ذلك أن جماهير الأمة ازدحمت عليه وطلبت منه تولي الخلافة كما قال فيما روي عنه: (فَمَا رَاعَنِي إلا والنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وشُقَّ عِطْفَايَ)[8] .
وامتنع الإمام علي عن قبول البيعة أياماً كما تشير بعض مصادر التاريخ، إلّا أنه استجاب إنقاذاً للموقف، وتحملاً للمسؤولية، وصارح الجمهور منذ البدء بأنه سيعتمد سياسة الإصلاح والتغيير، وفق ما يراه من تحقيق لقيم الإسلام ومبادئ تعاليمه.
جاء في تاريخ الطبري: (عن أبي بشير العابدي قال: كنت بالمدينة حين قتل عثمان ، واجتمع المهاجرون والأنصار، فيهم طلحة والزبير، فأتوا علياً، فقالوا: يا أبا حسن هلّم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك. قال فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان مراراً...)[9] .
وذكر الطبري أكثر من رواية تؤكد هذا المضمون، وأن علياً كان يذكر لهم أنه إن تولى الخلافة، فسيطبق منهجه في الإصلاح، كقوله : (واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ)[10] .
ومن المعروف تاريخيًا أنه في عهد الخليفة عثمان بن عفان، حصلت أوضاع لم يكن أكثر الصحابة يحبذونها ويرضون عنها، وكانت جماهير الأمة منزعجة منها، لأن بطانة قد التفت حول الخليفة من أقربائه، الذين كانوا محل ثقته، وهؤلاء أساؤوا استغلال ثقة الخليفة بهم، ولسنا الآن في وارد الاسترسال في التفاصيل فهي موجودة في كتب التاريخ، ومن البحوث الجميلة الموضوعية، البحث الذي كتبه الشيخ أبو الأعلى المودودي، العالم المعروف مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان, والحائز على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 1979م, وكتابه تحت عنوان (الخلافة والمُلك)[11] وهو مطبوع أكثر من طبعة، تناول فيه التغيُّرات التي حصلت في واقع الأمة في عهد الخليفة عثمان، إذْ حصل ابتعاد عن نهج النبوة ونهج الخلافة الراشدة، فأصبح هناك تلاعب بالثروات من قبل هذه البطانة، مما سبَّب حالة من الغضب في أوساط جماهير من الأمة، انتهى بالهجوم على دار الخليفة وقتله بصورة بشعة، مما كرَّس حالة العنف السياسي في تاريخ الأمة.
جاء بعد ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للحكم، فطرح نهجه الإصلاحي، ولا ننسى أن الإمام عُرض عليه أن يصبح هو الخليفة بعد مقتل الخليفة عمر, ولكن بشرط تصادر فيه حريته في الإصلاح والتغيير، تحت عنوان الالتزام بسيرة الشيخين، فرفض الإمام الخلافة بهذا الشرط، وقبلها عثمان. وهذا ما دوَّنته كتب التاريخ، حيث اجتمع الستة أصحاب الشورى الذين عيَّنهم الخليفة عمر بعد إصابته، طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وكانت إدارة الاجتماع لعبد الرحمن بن عوف, الذي التفت إلى علي بن أبي طالب، قائلاً: هل أنت يا علي مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، وفق ما ذكره الطبري[12] . وذكر ابن الأثير: أن عبد الرحمن بن عوف دعا عليّاً وقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال علي: أرجو أن أفعل فاعمل بمبلغ علمي وطاقتي[13] . فاتجه ابن عوف لمبايعة عثمان بن عفان الذي قبل بهذا الشرط ولم يتحفّظ عليه.
وقد علق على هذا الموقف الدكتور إسماعيل الشطي من رواد الحركة الإسلامية في الكويت، مشيراً إلى نقطة مهمة، حيث قال ضمن مقال له: (ولقد كاد الجيل الأول من المسلمين رضوان الله عليهم، أن يجعل من تجربته السياسية والتنظيمية في إدارة الدولة جزءاً من الشريعة، لولا تصدي الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، لمثل هذه المحاولة، وكلفه هذا التصدي التضحية بمنصب الخلافة، في أول عرض لتوليها، عندما رفض الالتزام بتجربة الشيخين بعد كتاب الله وسنة نبيه، إذ كان تقييمه لهذه التجربة لا يعدو كونها اجتهاداً بشرياً، يسع من بعدهم، ويتسع لآفاق المستقبل السحيق. وبتضحيته هذه، أوقف الإمام -كرّم الله وجهه- زحف الثابت من الدين إلى حدود تلك المساحات)[14] .
حين تسلم الإمام علي الخلافة بدأ في تطبيق منهجه الإصلاحي، رغم علمه بالعوائق الضخمة والعراقيل الهائلة التي ستواجهه، كما قال في تبريره لامتناعه عن قبول الخلافة: (دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي، فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ، لا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، ولا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُول،ُ وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ)[15] .
ونجد هنا توفر أول عنصر لعملية الإصلاح، وهو المبادرة والتصدي، فكثيرون قد يحملون شعارات الإصلاح، ويطرحونها نظرياً، وهناك الغالبية من الناس يتطلعون إلى الإصلاح لتغيير أوضاعهم إلى الأفضل، لكن الانطلاق لن يكون إلا بالمبادرة والتصدي، والقيادات الدينية والسياسية هي من تتحمل هذه المسؤولية بالدرجة الأولى، وهي الأقدر على تحقيقها، بما تمتلك من أزمّة الأمور، ومواقع التأثير والنفوذ.
إن أي عملية إصلاح تستلزم تضحيات وخسائر، وتواجهها صعوبات وعوائق، لكن تصدي القيادات يجعل المهمة أقل صعوبة وأقرب للنجاح.
أما لو تركت الأمور لتفاعل النقمة والغضب في نفوس الناس، فقد تنفجر الأوضاع، وتخرج عن السيطرة، ويتصدى غير الكفوئين والمخلصين، ويجد أعداء الأمة فرصتهم للإفساد والتخريب.
وفي سيرة الإمام علي وسيرة الخليفة عمر بن عبدالعزيز، منابع للاستلهام، ودروس للاقتداء، مع ما بين الشخصيتين والتجربتين من فروقات لا تخفى، من حيث المكانة والصفات والظروف والأوضاع.
إن الخيار الأمثل أمام شعوب الأمة الإسلامية اليوم، للخروج من المأزق، وتجاوز واقع التخلف، هو المبادرة الجريئة من القيادات السياسية الحاكمة، للتوجه نحو الإصلاح، بالانفتاح على شعوبها، وتوسيع المشاركة السياسية، واعتماد نهج الحق والعدل.
كما أن على القيادات والمرجعيات الدينية أن تجهر بمواقف الحق، وألَّا تداهن التوجهات المسيئة للإسلام، والمخالفة لمبادئه وقيمه، وأن تبادر للإصلاح على المستوى الفكري والثقافي.
لقد بادر الإمام عليّ من بداية حكمه لتنفيذ برامج الإصلاح، فعزل الولاة غير الصالحين للولاية، الذين أخذوا مواقعهم ضمن معادلة المحسوبيات، واستأثروا بالامتيازات وثروات الأمة.
كما استرد أموال بيت المال من أيدي الحائزين عليها بطرق غير مشروعة، ولم يقبل التغاضي في ذلك، بل أجاب المعترضين بقوله: (وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، ومُلِكَ بِهِ الإمَاءُ لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً، ومَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ)[16] .
ووضع الرقابة على الولاة والعمال، واستخدم الحزم مع أي انحراف أو مخالفة من قِبَل أحد منهم.
وكان من أهم برامج الإصلاح تطبيق العدالة والمساواة بين الناس في العطاء، بعدما عانى الناس من التمييز بينهم، مما عمَّق الطبقية، وراكم الثروات عند طبقة، وزاد الفقر عند باقي الطبقات.
وقد واجهته ضغوط كبيرة، لكنه ثبت أمامها، وأصرّ على نهج العدل والمساواة، صارخاً في وجوه المعترضين: (أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟ واللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ ومَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً، لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّه)[17] .
لكي تشق برامج الإصلاح طريقها في ساحة الأمة، لا بُدَّ من ثقافة داعمة، تشجع الناس على تجاوز ما ألفوه من عادات سيئة، وأفكار غير صحيحة، وتحصّنهم من تأثيرات مراكز القوى المضادة لعملية الإصلاح، وتخلق بيئة مناسبة للتغيير.
وهذا ما توجَّه إليه أمير المؤمنين علي في مسيرة حكمه، حيث أردف قراراته الإصلاحية بهجوم ثقافي، لإحياء قيم العدل والصلاح في نفوس الناس، ولمواجهة تيارات الفساد والانحراف. فهو يقوم بمهمتيه كخليفة حاكم وكإمام مرشد في الوقت نفسه.
لذلك كان التراث الفكري والمعرفي لعلي متميزاً في الكم والكيف عن بقية الخلفاء، حيث نقلت عنه المصادر عدداً كبيراً من الخطب التي ألقاها على جماهير الناس، والرسائل التي وجهها لولاته وموظفيه، والوصايا التي خاطب بها أصحابه ومن حوله.
وقد جمع الشريف الرضي رحمه الله مختارات من كلام أمير المؤمنين عليٍّ ، في كتابه المشهور نهج البلاغة، ضم 239 خطبة، و 79 رسالة، إضافة إلى عدد ضخم من قصار الكلمات، لكنها لا تمثل إلا جزءاً من تراث الإمام. وقد انبرى أحد العلماء المحققين المعاصرين هو الشيخ محمد باقر المحمودي (1341-1427هـ)، لجمع سائر خطب الإمام ورسائله ووصاياه، فكانت أضعاف ما تضمنه نهج البلاغة، وطبع هذه الموسوعة في ثمانية أجزاء تحت عنوان: (نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة)، واشتملت هذه الموسوعة على 409خطبة، و185 رسالة، و65 وصية، و105 دعاء.
ومما يشير إلى هذا الجهد المعرفي الثقافي الذي بذله الإمام علي مدة خلافته -على قصرها- ما ذكره المؤرخ المسعودي (توفي 346هـ) في مروج الذهب حيث قال: (والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة ونيف وثمانون خطبة)[18] .
وقد نقل مثل ذلك أحمد ابن إسحاق اليعقوبي (من علماء القرن الثالث الهجري) في كتابه (مشاكلة الناس لزمانهم) قال: (وحفظ الناس عنه الخطب، فإنه خطب بأربع مئة خطبة حفظت عنه، وهي التي تدور بين الناس ويستعملونها في خطبهم وكلامهم)[19] .
هذه رؤوس أقلام سريعة عن تجربة علي وسيرته في الإصلاح والتغيير، تلك التجربة التي حمّلته أشد العناء، حيث خاض ثلاثة حروب قاسية، حرب الجمل وصفين والنهروان، وما كان لأحد غير علي أن يصمد أمام تلك الضغوط الهائلة، ليقدم للأمة وللأجيال البشرية خير تجربة في ممارسة الإصلاح وإقامة الحكم العادل الرشيد، كما قال : (أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ ولَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا واشْتَدَّ كَلَبُهَا)[20] وقدم حياته ثمناً لهذا النهج الإصلاحي، حيث قضى شهيداً في محراب صلاته، فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيًّا.