الإمام علـي (ع) ووحدة الأمـة
في قراءتنا لشخصية الإمام علي بن أبي طالب يجب علينا أن نجتهد في إعادة فهمنا له، وذلك انطلاقًا من وحي عصرنا وظروفنا، فعلي بن أبي طالب كتاب عميق المضامين، يتجدد في كل عصر وفي كل ظرف، ويستطيع كل جيل من الأجيال أن يقرأ من هذا الكتاب ويأخذ منه ما ينفعه لواقعه، ولإصلاح شؤونه. وفي قراءتنا علينا ألاَّ نكون أسارى لقراءات السابقين، فكل جيل يقرأ عليًّا من وحي فهمه وبيئته، فهناك من قرأ عليًّا كحالة إعجازية غيبية، كسائر الأولياء الذين يعطيهم الله سبحانه وتعالى مجالاً لخرق العادة وتجاوز المألوف، حينما تقتضي حكمته تعالى وإرادته ذلك، ولكنها حاله استثنائية؛ لأن الأصل في علي وبقية الأئمة والأنبياء ـ عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام ـ أنهم بشر، يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾[1] ، فالأصل في حياتهم الحالة البشرية الطبيعية، ولا تكون المعجزة أو الكرامة إلا حين تتطلبها حاجه الرسالة والدعوة.
إن بعضنا يريد أن يبرِّر لنفسه عدم الاقتداء بالأنبياء والأئمة , فيصورهم كحالة غير بشرية، حتى يكون معذورًا أمام نفسه وأمام الآخرين في حال لم يقتدِ بهم، إذ لا يمكن الاقتداء والتطابق بين حالة بشرية وأخرى غير بشرية.
هذا بالإضافة إلى ما توارثناه من تصور عن الإنسان البطل، حيث نرسم له صورة في أذهاننا وكأنه رجل خارق للعادة، وهو تصور بشري عام، فنرى مسلسلات الرسوم المتحرّكة الموجّهة للأطفال, تُظهر البطل دائمًا على شكل إنسان خارق، وصاحب قوّة جسدية عظمى، ولديه قدرات غير طبيعية.
وإذا كنا لا ننكر أصل حدوث المعجزات والكرامات للأنبياء والأولياء، بإذن الله تعالى، وليس بقدرة ذاتية منهم، كما تحدث القران الكريم عن معجزات الأنبياء كنبي الله عيسى في قوله تعالى: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾[2] ، وكما ورد في القران الكريم من كرامة للسيدة مريم بنت عمران ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾[3] .
إضافة إلى ما يرويه المسلمون من معجزات رسول الله ، وما ترويه مختلف طوائف الأمة من كرامات لبعض الصحابة والأئمة والأولياء.
لكن معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، إنما يأذن الله تعالى بتحققها على أيديهم في حالات استثنائية، تقتضيها حكمته وإرادته، وليست حالاً دائماً، ولا بيد النبي أو الولي، لذلك ردّ النبي محمد طلبات المشركين منه فعل الخوارق، كأن يفجر عين ماء جارية من الأرض، أو يسقط عليهم كسفاً من السماء، أو يصنع بيتاً من ذهب...فأجابهم كما يقول تعالى: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً﴾[4] .
إلا أنَّ هناك شيئاً من المبالغة والغلو في تراث الطوائف والمذاهب, حول حصول المعجزات والكرامات للأنبياء والأئمة والأولياء، ولا يصح أن نقبل منها إلا ما جاء بسند معتبر، ولم يخالف شيئاً من ثوابت الكتاب والسنة.
وهناك قسم من المحبِّين قرأ عليًّا كحالة مأساة، وهذه جنبة واقعية في حياة الإمام علي ، فقد تعرض لظُلامات كثيرة في حياته، وحتى بعد مماته، ولكن فاعلية جهده وجهاده أكبر من أن تُحَجَّم في زاوية المأساة والظلامة.
إن بعضنا يصف ما يقرب النصف من حياة أمير المؤمنين بأنها فترة انطواء وانعزال، وأنه لم يقم بأي عمل عام بعد وفاة رسول الله إلى أن تولى الخلافة، أي طوال خمس وعشرين سنة (ربع قرن من الزمن) لم يصنع شيئًا ولم يقم بأي دور!.
إن من يُصِرُّ على أن عليًّا كان جليس داره، منطويًا على نفسه، يشعر بالأسى والحسرة على نزع الخلافة منه، ولا يشعر بأي مسؤولية تجاه واقع الأمة، فهو غافل عن أن هذا لا يتناسب مع فكر الإمام علي ونهجه وتوجيهاته , ولا يتفق مع ما سجله التاريخ عن دوره ومواقفه في تلك المرحلة.
لقد كان الإمام علي يقول للناس: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي عِبَادِهِ وبِلادِهِ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ والْبَهَائِمِ»[5] ، إن الخلافة ـ عند الإمام علي ـ لم تكن قضيه أساس، بحيث يجمّد حياته إن لم يحصل عليها، لأن التطلع للمناصب يمكن أن يخالج نفوسنا نحن، فإذا لم نحصل على ذلك المنصب أو الموقع نشعر وكأننا فقدنا دورنا في هذه الحياة، لذلك تجد بعضنا ينكفئ على نفسه, ويشعر بالأسى لفقدانه منصبًا كان يتطلع إليه, أو موقعًا كان يحتلّه، لكن علي بن أبي طالب لم يكن هكذا، لأن الخلافة لم تكن في يومٍ من الأيام غاية مطمحه. يقول عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، فَقَالَ لِي: «مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟» فَقُلْتُ: «لا قِيمَةَ لَهَا»، فَقَالَ A: «واللهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً»[6] .
إننا عندما نعرف نظرة الإمام علي لقيمة هذه المناصب, لا يمكننا أن نحصر حياته بين وفاة الرسول وتسلّمه الخلافة بأنها عبارة عن حياة عزلة وألم، ولكن لأن بعض الأجيال كانت تعيش الانطواء والانكفاء، حاولوا أن يبرِّروا لأنفسهم ما كانوا يعيشونه من حال، ولكن الحقيقة عندما ندرسها بموضوعيه نجد أن علي بن أبي طالب لم يتخلَّ عن وظيفته الرسالية يومًا واحدًا, بل كان يتحمل المسؤولية دوماً تجاه الرسالة والأمة.
وفي هذه النقطة علينا أن نكون منصفين بحق واقعنا وتاريخنا، ذلك أن الشيعة في حقب تاريخية عديدة مورست عليهم ضغوط كثيرة، أجبرت الكثير منهم على الانعزال والانكفاء، وربما تكون هذه الحالة الاجتماعية التي وصلوا إليها بفعل بعض الظروف التي كان لها دور في تبرير واقعهم، وعدم انفتاحهم على بقية أوساط المسلمين، ولذلك قد تجد كثيرًا من هذه الطروحات والخطابات تركّز على جانب المأساة في حياة الإمام علي ، وباقي الأئمة انسجامًا مع الحالة العامّة التي كان يعيشها غالب الشيعة.
إن القراءة التقليدية لحياة الإمام علي تحصر دوره بعد وفاة الرسول في الجانب المأساوي، وتركز على دوره في حياة الرسول وحين استلامه الخلافة فقط, وهذه القراءة لا تعطينا صورة واقعية عن الدور الذي مارسه الإمام، وبخاصّة بعد وفاة الرسول .
إن الدور الذي قام به الإمام علي بعد وفاة رسول الله هو من أهمَّ تجليات إخلاصه لمصلحة الدين والأمة، وسمو نفسه عن تأثير العواطف والمصالح الشخصية الذاتية.
لقد حفظ الإمام وحدة الأمة في ذلك الظرف الخطير، ورعى مصلحة الكيان الإسلامي الذي كان بحاجة إلى آرائه الصائبة، ومعرفته العميقة بمفاهيم الدين وتطبيقات أحكامه.
إن مفهوم الوحدة قد يلتبس في أذهان بعض الناس، وكأن الوحدة إلغاء لخصوصيات طرف لحساب طرف، أو ذوبان جهة في أخرى، أو أنها تعني تنازل هذه الفئة عن شيء من قناعاتها من أجل الفئة الأخرى. وهذا الفهم الخطأ للوحدة هو الذي جعلها سرابًا لا يمكن تحقيقه في واقع المسلمين؛ لأن البعض يتصور الوحدة تطابقًا تامًّا على كل تفاصيل العقيدة والتشريع، وفي الآراء والتوجهات، وهذا يخالف طبيعة البشر، فما دامت لهم آراء ومصالح متعدّدة فالاختلاف وارد حتى ضمن العائلة الواحدة والمجتمع الواحد.
إننا حينما نربط بين الوحدة وبين التوافق والاتفاق على كل شيء، فإننا بذلك نبحث عن سراب الوحدة التي لا تتحقق، أما حينما ننظر إلى الوحدة على أساس التمحور حول القواسم المشتركة، والمصالح العامة، والانضواء تحت إطار يستوعب الجميع، ويحترم حقوق الجميع، ويعطي مجال التعبير عن الرأي, فإن هذه الوحدة يمكن أن تتحقق.
وقد حققتها الشعوب الأخرى، فها هم الأمريكيون والأوربيون واليابانيون والماليزيون والهنود والأمم الأخرى، قد حققوا درجات متقدمة من الوحدة, من دون أن يلغوا خصوصيات بعضهم بعضًا، أو أن يكون هناك حيف أو جور من جهة على أخرى، أو وصاية من طرف على آخر. وهذا هو الأمر الطبيعي الذي ينبغي أن يكون، ونحن عندما نتحدث عن الوحدة نتحدث عنها بهذا المفهوم.
وحينما نقرأ سيرة الإمام علي بعد رحيل الرسول نرى أن الخلاف قد حصل حول تسلم موقع الخلافة وقيادة الأمة، وكان الإمام يرى نفسه صاحب هذا الحق، وأنه الأولى بهذا الموقع, لكنه لم يجعل ذلك سبباً للصراع والصدام، بل احتفظ برأيه، دون قطيعة مع مخالفيه، ولم يبخل عليهم بنصيحته، ولم يتوان عن بذل جهده في خدمة الدولة والأمة.
هذا الموقف الرسالي للإمام علي لم يستوعبه البعض من السنة والشيعة، حيث فسّر فريق بيعة الإمام علي للخلفاء وتعاونه معهم بأنه دلالة على تخلي الإمام علي عن رأيه في أحقيته بالخلافة، بينما أنكر الفريق الآخر أي علاقة ايجابية بين الإمام علي والخلفاء، وكلا الرأيين يفتقد الموضوعية والإنصاف، فالإمام علي مع احتفاظه برأيه، إلا أنه قدم المصلحة العامة للأمة، بالحفاظ على وحدتها وتسديد مواقف زعامتها.
واستلهاماً من سيرة أمير المؤمنين ، واقتباساً من رؤيته الواعية, يمكننا أن نفصل الحديث عن الوحدة في ثلاثة مسارات:
نحن كمجتمع نعيش في منطقة واحدة, ضمن إطار مدرسه أهل البيت ، نمثل حالة اجتماعية، تجمعنا ثقافة واحدة متقاربة، ونعيش همومًا وطموحات واحدة، وننتمي لهوية دينية واحدة، ولحفظ هذه الهوية ووصولاً إلى تنمية مجتمعاتنا وتطويرها, يجب أن يكون هناك تعاون بين قوى هذا المجتمع وفعالياته، وهذا لا يعني التوافق في جميع الآراء والأفكار، كما يصور ذلك بعضنا، فيفهم أن لازم ذلك أن يقلّد أبناء المجتمع مرجعًا واحدًا –مثلا-، وكأن الدعوة إلى الوحدة ضدّ واقع تعدد المراجع، أو أن تكون ممارساتنا لبعض الشعائر واحدة, وعلى نمط وأسلوب واحد، فتكون الوحدة وكأنها دعوة إلى مخالفة الطبيعة الإنسانية، نحن حينما ندعو إلى الوحدة الاجتماعية, إنما ندعو إلى توحيد المواقف العامّة فيما من شأنه أن يؤثّر على المجتمع ككل، مع احترام حرية الرأي, لأن تعدد الآراء والتوجهات أمر طبيعي, وحالة صحّية في أي مجتمع، فهو يعبّر عن حالة من الثراء وحرية الرأي والفكر.
وفي مقابل هذا التعدد في الآراء والأفكار هناك مصالح مشتركه تجمعنا, وسقف واحد يظلنا جميعًا، وهذا ما يجب أن نبحث عنه وأن نجتمع عليه.
وقد بدأ مجتمعنا ـ بحمد الله ـ تجاوز الكثير من الإشكالات التي كانت موجودة في بعض الأوقات، فكان اختلاف المدارس الفقهية والفكرية داخل المجتمع الشيعي الواحد سببًا للنزاع في بعض الأحيان، وللقطيعة في أحيان أخرى، فيما بين: الأصولي والإخباري والشيخي، ولكن حالياً ما عاد هذا التنوع في المدارس سببًا للنزاع أو الاختلاف، إلا ضمن رواسب وبقايا قليلة غير مؤثّرة.
وفي وقت من الأوقات كانت هناك صراعات مرجعية، فجماعة تتعصَّب لمرجع، وأخرى لمرجع آخر، ولا تُجَوِّز تقليد مرجع الجماعة الأخرى، لتأتي فتوى من هنا تؤيّد مرجعًا، ويقابلها فتوى ضد ذلك المرجع، في حالة من الصراع والاحتراب الكلامي الاجتماعي
كما أنه في بعض المراحل كان هناك تباين واضح في التوجهات والآراء السياسية, أدّى في بعض أشكاله إلى نوع من الصراع والنزاع بين أتباع كل توجّه، ولكننا الآن نعيش تقاربًا في التوجهات السياسية، ولم يعد هناك تباين كبير، ولم يبقَ منها إلا حالة التنافس الطبيعي بين التوجهات والتيارات والأشخاص، وهذه حالة طبيعية، ما دامت محكومة بالأخلاقيات، فما حدث خلال عملية الانتخابات البلدية في المنطقة سنة 1426هـ من تنافس بين مرشح وآخر، أو بين قائمة وأخرى هو حالة طبيعية تحصل في كل المجتمعات.
وما دمنا قد تخلّصنا من النزاعات على أساس الانتماء المدرسي (أصولي وإخباري وشيخي)، وكذلك على أساس الانتماء المرجعي، ولم تبقَ عندنا نزاعات حادّة على أساس تباين الآراء والتوجهات السياسية, فهذه مرحلة متقدمة في سبيل تحقيق الوحدة الاجتماعية، إذ لم يبقَ أمامنا إلا موضوع التنافس بين التيارات والمجموعات أو بين الأشخاص، وهذا أمر مشروع لا يمكن ـ ولا ينبغي ـ إلغاؤه.
هنا علينا أن نذكّر بأهمية أخلاقيات التنافس، وأن نرشِّد هذه الحالة من التنافس، فلا يكون فيها إسقاط أو تعدٍّ على الآخرين ليبقى التنافس في إطاره وموضوعه.
وفي مسألة الوحدة الاجتماعية ينبغي الإشارة إلى ثلاث نقاط، هي:
علينا أن تتسع صدورنا للاختلافات الجانبية، فالتطابق في الآراء ليس مطلوبًا، بل علينا أن نقبل الرأي والرأي الآخر؛ لأن بعضنا ينزعج من مسألة الاختلاف، حتى في بعض المسائل الفرعية، كثبوت هلال الشهر في هذا اليوم أو سواه، أو توقيت هذه المناسبة الدينية في هذه الليلة أو سواها، وصحيح أن اتفاق الرأي فيها يحفظ مظاهر الوحدة الاجتماعية، لكن هذا الاتفاق لا يمكن أن يكون قسرياً مع اختلاف القناعات, في موضوع يرتبط بجانب عبادي كالصوم مثلاً، فليعمل كل بما يراه تكليفه الشرعي, والاختلاف في مثل هذه الأمور يجب أن تتسع له صدورنا، وأن لا يتضخم في نفوسنا، ولكن ما يؤسف له أن بعضنا لا يزال يعيش ضيقًا في الأفق، فيقضي أوقاته يتحدّث عن تلك الجماعة التي فطرت هذا اليوم وتلك التي صامت .. ينبغي أن نتجاوز هذه الحالة, نحن ضدّ من يمارسون في مجتمعنا دور الوصاية على الآخرين, فإما أن يُؤخذ برأيهم وطريقتهم وإلا فإنهم يكيلون التهم ويخرجون من يخالفهم من الدين والمذهب.
إننا في الوقت الذي نستنكر على الآخرين أن يمارسوا الوصاية علينا، كيف نقبل أن نمارس الوصاية على بعضنا بعضًا؟!, إننا يجب أن نكرِّس حالة التنافس الإيجابي، وألاَّ نسمح لأي جهة من الجهات أن تدعي لنفسها أنها ـ وحدها ـ تمثل الدين والشرعية والوصاية, فلا أحد يحتكر الشرعية, فهذه الجهة عندها رأي والجهة الأخرى لها رأيها المخالف, ولا أحد يستطيع ادعاء أنه يمثّل الأصل فيما غيره فروع, أو أنه يمثّل الدين الحق وغيره خارج عن الدين, لقد تجاوزنا عقلية الوصاية، وانتهت هذه الممارسات، وهذا النوع من التعامل مع الآخرين, فالجمهور الآن يعي دوره ويثق بنفسه, ولذلك علينا أن نكرس هذه الحالة، وأن تتسع صدورنا لبعض الاختلافات الداخلية، وألا تتضخم في نفوسنا, وألا نسمح للبعض أن يصنع منها قضية يفرق بها بين الناس.
يتحمّل قادة المجتمع ونخبه مسؤولية كبيرة في نشر ثقافة التسامح الداخلي بين التيارات والتوجهات المختلفة، ووضع حد لحالات التعبئة والتعبئة المضادّة، لأننا في هذه المرحلة علينا أن نؤكد على ما يجمعنا كأتباع لأهل البيت ، ومنتمين إلى خطهم ومدرستهم، وراجين لشفاعتهم، وأن يجمعنا الله تعالى يوم القيامة معهم.
وفي هذه النقطة ترد رواية جميلة عن الإمام الصادق يخاطب فيها بعض أصحابه، فيقول: «ما أنتم والبراءة يَبْرَأُ بعضكم من بعض؟ إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصيرة من بعض وهي الدرجات[7] .
إن تفاوت الآراء ودرجات الإيمان ومستويات التفكير لا يعني القطيعة, ولا المبالغة في مسألة المعاتبة، علينا أن نرفض ثقافة التعبئة الداخلية، وأن نقف أمام من يروّج لها، وعلى الجمهور أن يصل إلى الدرجة التي يقف فيها أمام أي جهة دينية أو اجتماعية تمارس هذه الأساليب الملتوية.
نحن الآن نعيش في عصر نحتاج فيه إلى الأعمال المؤسساتية، التي تقوم على بناء المجتمع ثقافيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا، وهي ما تسمّى «مؤسسات المجتمع المدني»، وذلك من قبيل: الجمعيات الخيرية، والأندية الرياضية، وصناديق الزواج الخيري، وكافل اليتيم، ومهرجان الزواج الجماعي، ومراكز تعليم القران، والمنتديات، بل علينا أن نحوّل جميع أنشطتنا إلى مؤسسات.
فالمسجد يجب أن تديره إدارة جماعية مُرضية من أهالي الحي، وبخاصّة أننا نرى بعض الأحياء وقد شكّلت لها مجلسًا للحي منتخباً من قبل أبناء الحيّ، ونتمنى أن يتبنّى كل حيّ ومنطقة هذه الفكرة الايجابية، فهذه الحالة المؤسساتية هي التي تساعدنا على التلاحم والتعاون على حفظ وحدتنا وخدمة مجتمعنا.
وتجربة مجالس الأحياء تجربة جديدة رائدة، ومن المفيد أن يطبّق فيها مسألة التنافس الإيجابي على أساس الكفاءة والفاعلية.
وهذا أمر يسري إلى جميع مؤسساتنا الاجتماعية، حيث من المفترض أن تعمّها حالة من تجديد الإدارات والمسؤولين، ويجب أن يختار المرشّح الأكفأ، والأكثر فاعلية ونشاطاً، فيطبّق هذا في الجمعيات الخيرية، والنادي الرياضي، والانتخابات البلدية، وانتخابات غرفة التجارة وغيرها.
وفيما يخص إمام الجماعة، فمن الناحية العملية يقوم كل فرد منّا بالذهاب إلى إمام المسجد الذي يرغب في الصلاة خلفه، فيصلي خلف مَنْ يثق بتقواه وورعه ويشعر أنه يستفيد من توجيهاته، بغض النظر من أيِّ منطقة كان، وأيِّ مرجع يقلد, وإلى أيِّ عائلة ينتمي، فيكون المقياس عنده هو مقياس الكفاءة، وهذا هو المقياس الذي ينمي ويطور المتجمع.
هذه النقاط الثلاث هي التي تساعدنا على حفظ وحدتنا الاجتماعية.
الوحدة الوطنية موضوع حسَّاس خطير، وبخاصة في هذا الوقت الذي تمرُّ به الأمة الإسلامية, وما يتهددها من أخطار تَمَسُّ وحدة أوطانها وبلدانها، ذلك لأن الإدارة الأمريكية ترفع شعار الفوضى الخلاقة في منطقه الشرق الأوسط، فهم يريدون أن يقسموا المقسم وأن يجزئوا المجزأ، ولذلك نرى ما يحصل في العراق، لتعزيز هذه الفوضى الخلاّقة التي يراد نشرها في عموم المنطقة.
وفي فلسطين التي يجثم عليها الاحتلال الصهيوني، ويعاني الشعب الفلسطيني الآلام والويلات، في كل يوم قصف وتدمير لمنازل واغتيال لقيادات وآلام وسجون، ومع ذلك هناك تشجيع واضح من قبل الأمريكيين والإسرائيليين وحلفائهم للاحتراب الداخلي بين الفلسطينيين، والوضع ينذر بالخطر, نسأل الله أن يوفق الفلسطينيين وأن يساعدهم لتجاوز هذه المحنة. كما أن الدور الأمريكي في لبنان لمنع التوافق بين اللبنانيين ليس خفياً على أحد.
وهكذا ما يجري في الصومال ودارفور في السودان، ولا أريد هنا أن أُحَمِّل الخارج كل المسؤولية, فلولا الأرضية الخصبة, والثغرات في داخلنا، ولولا نقاط الضعف, لما وجد الأعداء فرصة لتشجيع الفرقة والفتنة في أوساطنا، ولذلك علينا أن نكون حذرين وواعين جيدًا، لأنه كلما حصل هناك تهديد للمصالح الأجنبية أثيرت الفتنة الطائفية من جديد، فعندما سقط شاه إيران الذي كان يحمي المصالح الغربية والأمريكية في المنطقة, واجهت المنطقة ضخًّا للتعبئة الطائفية, وتأجيجاً للفتنة المذهبية، وعندما حصل انتصار للمقاومة وحزب الله في لبنان صدرت فتاوى وحصل ضخ جديد لهذه الفتنة المذهبية.
هذا دليل على أن هناك من يستفيد ومن يدعم، ولكن في الأصل هناك أرضية وثغرات ونقاط ضعف علينا أن نعالجها، وإلاَّ فإن الأعداء سيستثمرونها لزرع الفتن بيننا، من هنا يجب أن نكون حريصين في تأكيد مسألة الوحدة الوطنية داخل بلداننا، فبلادنا مستهدفة، وهناك ثغرات يمكن أن ينفذ منها الأعداء، فلا بد من تصليب الوحدة الوطنية, بتعميق وتطبيق مفهوم المواطنة, ليعيش الناس متساوين في حقوقهم وواجباتهم، وألاَّ نسمح ـ على مستوى الوطن ـ بثقافة الكراهية والتحريض من هذه الفئة على فئة أخرى، ومن هذه الجهة على جهة مقابلة.
والخطاب ليس موجهًا إلى فئة دون أخرى، فمنابرنا الدينية في مساجدنا وحسينياتنا، وكذلك وسائل الإعلام, والخطب في المساجد, والفتاوى يجب أن يكون هناك حذر من أن تكون هذه الوسائل أداة لخدمة مشاريع الفتنة التي تريد إشغال المسلمين وإرباك ساحتهم.
ونحن عندما نركّز على مسألة الوحدة فذلك لأن الفتنة إذا وقعت في مجتمع فإنها لا تبقي ولا تذر، يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾[8] .
وفي مسألة الوحدة الوطنية يجب التركيز على نقطة مهمّة، ذلك أن كل بلد من بلدان العالم تتنوّع فيه الانتماءات والمذاهب، ومن الطبيعي أن تمارس كل مجموعة من هذه المجاميع شعائرها وممارساتها الخاصّة، ولا يمكن عدّ ممارسة الخصوصيات لأيّ طائفة من الطوائف حالة طائفية، ما دام يحافظ على خصوصيته دون المس بالآخرين، ومن غير المقبول أن نمنع الناس من ممارسة خصوصياتهم وشعائرهم المذهبية, بحجة الحفاظ على الوحدة, فالوحدة لا تعني إلغاء الخصوصيات. والمطالبة بالحقوق ليس إثارة للطائفية، ولكن ينبغي أن تكون المطالبة من خلال النهج الوطني الذي يحفظ الوحدة، فمساحة التعبير عن الرأي, والمطالبة بالحقوق, وعرض المشاكل في وسائل الإعلام, وعبر القنوات الرسمية, ومختلف السبل. ضمن سقف الوحدة الوطنية أمر مطلوب، ولا يخالف مبدأ الوحدة, لأنّه لا يعدو عن كونه تعبيرًا عن الرأي، فالوحدة الوطنية لا تعني أن يكون هناك رأي واحد سائد ولا يحق للآخر أن يطرح رأيه.
الوحدة على صعيد الأمة إنما تكون بالتأكيد على المشتركات، وعلى احترام حق الإسلام لمن قال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله »، فهو مسلم له حقوق الإسلام دون النظر لأي مذهب انتمى جاء في صحيح البخاري : (من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم)[9] .
وهذا ما ورد في مقرراتُ بيان قمّة مكة الاستثنائية سنة1426هـ، حيث أكدت التوصيات على الاعتراف بمختلف المذاهب الإسلامية، وأنهم مشمولون بعنوان الإسلام، فلا يجوز الاعتداء على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وهنا نعود لسيرة ومنهج الإمام علي , لنتعرّف الأسلوب الصحيح والمتوازن في معالجة مسألة الخلاف الإسلامي الإسلامي، ذلك أن الخلاف بين أهم فريقين من المسلمين (وهما الشيعة والسنة) ظهر بعد وفاة الرسول ، ففي حين يذهب الشيعة إلى حق الإمام علي في الخلافة، وذلك لأفضليته عندهم، ولكثرة النصوص الواردة لدى الفريقين التي يفهم منها أتباع مدرسة أهل البيت تأكيدها على حق الإمامة لعلي بن أبي طالب بعد رسول الله ، بينما يرى بقية المسلمين أنها مجرد إشادة بفضله, وتذكير بمقامه ومناقبه, لذلك فالاختلاف ينحصر في تفسير النصوص، وإلا فهي نصوص متفق على أكثرها، كحديث الغدير, وحديث الثقلين, والأحاديث الأخرى التي لسنا الآن في وارد ذكرها والتفصيل فيها.
والإمام علي عاش تلك المرحلة الحسَّاسة، ولذلك علينا أن نتلمّس طريقة الإمام علي في تعامله مع مخالفيه حينها.
أمير المؤمنين كان رجل الوحدة ورائدها، ففي الوقت الذي يرى نفسه صاحب الحق في الخلافة والإمامة، كما عبّر عن ذلك فيما بعد في إحدى خطبه المروية عنه، والمعروفة بالخطبة الشقشقية، فقال : «أَمَا واللهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلانٌ وإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ»[10] ، وقد كان بإمكانه أن ينبري للدفاع عمَّا يعتقد أنه حق له، وكان يعلم أن في توليه الخلافة مصلحة للأمة والرسالة، ولكنه وجد أن هذا التصدي وهذا الموقف يضر بالمصلحة العامّة في ذلك الظرف، ولذلك لم يطالب بحقه، حتى عندما جاء إليه أبو سفيان وصار يهتف: «إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان ؟ أين الأَذَلاَّنِ علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ؟ ثم قال لعلي : أبسط يدك أبايعك، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجلاً فزجره علي وقال : «والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة وإنك والله طالما بغيت للإسلام شرَّاً لا حاجة لنا في نصيحتك»[11] , فلم يستجب له, ولم يرحب به, ولم يقع في الفخ الذي كان يريده له أعداء الأمة، وإنما أعلن: «وَاللهِ لأسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِهِ وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِهِ»[12] .
لقد امتنع الإمام علي عن بيعة أبي بكر أياماً أو شهوراً، كما ذكرت المصادر التاريخية، لكنه حين رأى جديّة خطر الردة عن الإسلام، وإمكانية تعرض كيان الأمة للاهتزاز، بحصول أي خلاف وتنازع، انضوى تحت راية الخلافة، كما يقول فيما روي عنه: (فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ, فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسْلامِ, يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلامَ وأَهْلَهُ، أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ)[13] .
إن علي بن أبي طالب تحمل مسؤوليته، فكان مع الخلفاء ومع الأمة، يحضر المسجد, ويشارك في صلاة الجماعة, يُسْتَشَار, ويشير فيعطي رأيه, وينقذ الأمة، ويساعد الخلفاء في مواقف كثيرة.
فهناك أكثر من تسعين موردًا في قضايا عسكرية واقتصادية وسياسية ودينية استشار فيها الخليفة عمر الإمام علياً وأخذ برأيه، سجلها مع ذكر مصادرها الشيخ نجم الدين العسكري في كتابه (علي والخلفاء)[14] .
ولذلك نتساءل: كيف كان يستشير عليَّ بن أبي طالب إن لم يكن يثق بعلي ويطمئن إلى رأيه؟ علي ما كان ينظر إلى الخلفاء كأعداء يكيد لهم ويسعى للانتقام منهم، وهم في المقابل كانوا ينظرون لعليٍّ كمعين ومساعد فيما هو لمصلحة الأمة والدين، وإلا لو كان عمر وأبو بكر ينظران لعليٍّ كعدو لما رجعا إليه ووثقا برأيه، والإمام علي ـ في المقابل ـ ما كان يتعامل من موقع العداوة الشخصية، وإنما كان يمحضهم النصيحة ويشير عليهم بما ينفع الأمة وكيان المسلمين آنذاك، حتى أُثِرَ عن الخليفة عمر أنه كان يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن علي[15] ، وعن يحيى بن عقيل - كما في ذخائر العقبى[16] -: قال كان عمر يقول لعلي إذا سأله ففرج عنه، لا أبقاني الله بعدك يا علي. وعن أبي سعيد الخدري، أنه سمع عمر يقول لعليٍّ وقد سأله عن شئ فأجابه : أعوذ بالله أن أعيش في يوم لست فيه يا أبا الحسن، وروى - أيضاً - عن عمر قوله: «لولا علي لهلك عمر»[17] ، ودعاؤه أيضاً «اللهم لا تنـزل بي شدة إلاَّ وأبو الحسن إلى جنبي »[18] , ونصوص كثيرة في كتب التاريخ وكتب الفريقين.
ومع أن الإمام أبدى عدم رضاه عن بعض السياسات عهد الخليفة عثمان، وبخاصة دور البطانة التي كانت حول الخليفة, إلاَّ أنه ما انفك يقدم النصيحة والرأي لعثمان، وحاول كثيرًا أن يعالج موضوع التمرد على الخليفة، فكان واسطة وسفيرًا بين المعارضين والخليفة أكثر من مرة، ولكن الأمر خرج من يده، وحينما حوصر عثمان ومُنِع عنه الماء استنجد بعليٍّ، فبعث الإمام ولديه الحسنين بِقِرَب الماء حتى يدخلوها إلى بيت عثمان[19] .
وفي نصوص تاريخية مذكورة في مختلف كتب السنة والشيعة أمر ولديه الحسنين أن يبقيا على باب عثمان حراسةً له[20] ، ولكن المعارضين تسلقوا من بيوت الجيران على دار الخليفة.
هكذا كان علي بن أبي طالب ، وهذا ما يجب أن يكون عليه نهج محبيه وأتباعه، فإلى آخر لحظة من لحظات حياته كان يهتم بوحدة الأمة، فقد كان يعلم أن قاتله الشقي ابن ملجم ينتمي إلى الخوارج، ويعرف أنهم من دفعوه إلى ارتكاب هذه الجريمة، لكنه ما أراد لمقتله أن يكون سببًا جديدًا لمشكلة في واقع الأمة، ولذلك قال في وصيته: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَلا لا تَقْتُلُنَّ بِي إِلا قَاتِلِي، انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ ولا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ»[21] .
إن سيرة علي تؤكد إخلاصه العميق للدين، وحرصه الشديد على وحدة الأمة، فهو يتعبد إلى الله تعالى بالحفاظ على الوحدة، ويتمسك بها كطريق إلى ثواب الله ورضوانه، فالوحدة مبدأ ديني، وفريضة شرعية، قبل أن تكون قضية سياسية أو مصلحة وقتية، وصدق أمير المؤمنين حينما قال: (ولَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وأُلْفَتِهَا مِنِّي، أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وكَرَمَ الْمَآبِ، وسَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي)[22] .