سماحة الشيخ الصفار يدعو للأخذ بأخلاق الإمام علي (ع) في إدارة الاختلاف
دعا سماحة الشيخ حسن الصفار للأخذ بأخلاق الإمام علي في إدارة الاختلاف، مؤكدًا أن التنوع المذهبي والعقدي أمرٌ واقع ولا يُمكن تجاوزه، والتعامل الإيجابي أن يبقى الخلاف في إطاره الطبيعي، وضمن دوائره المحدودة، لا أن تنشغل الأمة بهذه الخلافات لتؤثر على نظام حياتها على حساب مصالحها الأساس. مسلّطًا الضوء على تسامي الإمام علي على الخلاف حول قيادة الأمة بعد رسول اللّه رغم إيمانه بأحقيته في ذلك. وأشار إلى نماذج مشرقة من مواقف الإمام علي في إدارته للصراع والخلاف السياسي الذي أصاب الأمة منذ اللحظات الأولى لرحيل رسول اللّه .
وأكد سماحة الشيخ الصفار في بداية محاضرة الليلة الثالثة من محرم الحرام 1429ﻫ، أن أجيال الأمة ورثت التنوع والتعدد الذي حصل في مواقف الجيل الأول من المسلمين، إذ بدأ الخلاف في المواقف السياسية، وبنهاية القرن الأول الهجري بدأت الخلافات العقدية، وفي أواخر القرن الثاني الهجري بدأ تكون المذاهب الفقهية. فالخلافات تفجّرت في الأمة منذ وقتٍ مبكر، وورثتها أجيال الأمة حتى وقتنا المعاصر.
مضيفًا: إن التنوع والتعدد أمرٌ قائم، ولا يُمكن إزالته. وتوحد الأمة على رأي واحد طموح مثالي، لا يُمكن تحقيقه على أرض الواقع، ذلك لأن المسألة ليست في حدود المنطق والإقناع، وإنما تتعداها لعوامل وظروف مختلفة يصعب تجاوزها غالبًا.
مشيرًا إلى أن هذا التنوع لا تنفرد به الساحة الإسلامية فقط، وإنما هو موجود في مختلف الديانات اليهودية والمسيحية، وحتى السيخ، هذه الديانة الحديثة التي بدأت منذ القرن الخامس عشر الميلادي، ولا يتجاوز عدد أتباعها (13) مليون، فيها خمسة مذاهب متنوعة.
ويُجيب سماحة الشيخ عن سؤالٍ يطرح نفسه: كيف تتعامل الأمة في ظل هذا التنوع المذهبي والعقدي الذي يفرض نفسه كواقع معيش؟ بقوله: تختلف الأمم في إدارتها للخلاف، فالمجتمعات المتحضّرة تُبقي الخلاف في إطاره الطبيعي، وضمن دوائره المحدودة. أما الأمم المتخلفة فإن الخلاف يؤثر على نظام حياتهم، وأشار إلى عدة نقاط ينبغي تجاوزها في إدارة الخلافات المذهبية:
■ الانشغال بالخلافات على حساب مصالح الأمة، وهمومها المعاصرة، وبنائها الداخلي، وتقدمها العلمي.
■ اضطراب نظام الحياة في الأمة، فتعيش بعض المجتمعات حالة من التمييز الطائفي، وأخرى تعيش حالة من الظلم والجور. وقد يتصاعد الاختلاف إلى حروب دموية في بعض المجتمعات.
ويستفهم سماحة الشيخ: ما ذنب الأجيال المعاصرة التي وجدت نفسها ضمن هذا التنوع أن تعيش حياةً مضطربة تفتقر للأمان والاستقرار؟ مؤكدًا ضرورة أن تتجاوز الأمة هذه المرحلة، وأن تبقى الخلافات المذهبية في حدودها الضيقة.
وأكد الشيخ الصفّار أن الإمام عليًّا كان مؤمنًا بحقه وبأولويته في إمامة الأمة وقيادتها بعد رسول اللّه ، وهذا ما يعتقد به أتباع مدرسة أهل البيت ، وقد صرّح الإمام علي بذلك في مواقف كثيرةً، وكان مما قال: «لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي »[1] .
وعن الأسباب التي ينبثق منها الإيمان بأحقيته بالإمامة، أشار سماحته إلى عدة نقاط:
1. النصوص المتواترة الواردة عن رسول اللّه في حقه، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: ما ورد في أحدٍ من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما ورد في علي بن أبي طالب.
2. كفاءة الإمام علي وملكاته التي تميّزه عمن سواه من الصحابة.
3. صلة الإمام علي وقربه من رسول اللّه ، وهو يقول عن ذلك: «وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ»[2] .
وأضاف الشيخ الصفار: الإمام علي مع إيمانه بأحقيته في الخلافة إلا أنه تسامى على الصراع، لأن هاجس الإمام كان مصلحة الدين الأمة، وقد قال الإمام علي : «فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسْلامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلامَ وأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْمًا أَوْ هَدْمًا تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلائِلَ»[3] .
وأكّد الشيخ الصفار أن هذا المحور هو الأهم، لأنه يُلامس واقعنا ويضع أمامنا الطريق الأمثل لإدارة قضايانا المعاصرة، من خلال دراسة سيرة أئمتنا والاقتداء بهم، ولا يصح المزايدة على الأئمة في مواجهة الخلافات والصراعات.
وأشار الشيخ الصفار إلى عدة نقاط، تُبلور أخلاقيات الإمام علي في إدارة الصراع والخلاف الذي حدث بعد رسول اللّه :
■ مراعاة مصلحة الأمة والتوجه لخدمتها، فوقف إلى جانب الخلفاء وكان يُسعفهم برأيه ومشورته. وعلّق الشيخ الصفار هنا بقوله: وهكذا ينبغي أن يكون العاقل الواعي الذي يُبقي الخلاف في مكانه، ويتّجه للقضايا المصيرية للأمة، ويشارك في خدمة وطنه ومجتمعه.
■ عدم انشغال الإمام بالخلاف وإشغال الأمة به، حتى إن رجلًا من بني أسد سأل الإمام: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فأجابه الإمام: «يَا أَخَا بَنِي أَسَدٍ إِنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ ولَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ وحَقُّ الْمَسْأَلَةِ وقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ أَمَّا الاسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ ونَحْنُ الأعْلَوْنَ نَسَبًا والأشَدُّونَ بِالرَّسُولِ نَوْطًا فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ والْحَكَمُ اللَّهُ والْمَعْوَدُ إِلَيْهِ الْقِيَامَةُ، وَدَعْ عَنْكَ نَهْبًا صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ ولَكِنْ حَدِيثًا مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ، وَهَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ»[4] .
وأكّد الشيخ الصفار أن ذلك لا يعني أن لا يُعبّر أتباع أهل البيت عن معتقداتهم في الإمامة والخلافة، فهذا حقٌّ مضمون ولا يُمكن التنكّر له، وإنما ينبغي أن لا يكون على حساب إشغال الأمة عن قضاياها المعاصرة.
■ عدم الانزلاق إلى سوء الأدب، وقد نال بعض أصحاب الإمام في صفين من أهل الشام، أي معاوية وأصحابه، بالسب والشتم، إلا أن الإمام نهاهم عن ذلك، وقال لهم: «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ، وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ»[5] . فأسلوب السب والشتم ليست من صفات المنهج العلوي، بل على العكس من ذلك، إذ إن المنهج العلوي يتمثل قول اللّه تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
إن السب واللعن منهج أموي، مارسه الأمويون على المنابر وفي خطب الجمعة ضد الإمام علي حتى رفعه الخليفة عمر بن عبد العزيز.
والحمد للّه ربِّ العالمين.