الشيخ الصفار يتفاءل ببشائر حراك ثقافي ويدعو إلى دعمه وترشيده في المجتمع
تفاءل سماحة الشيخ حسن الصفار ببشائر حراك ثقافي متقدّم في المجتمع، حيث باتت حركة التأليف والمنتديات، والمجلات، والنشاطات الثقافية المختلفة من الأدب والمسرح والفن التشكيلي والتمثيل، جليّة واضحة في المجتمع. مؤكدًا على ضرورة دعم وتشجيع هذا الحراك الثقافي، وترشيد توجّهاته، ليأخذ موقعيته الوطنية التي تليق به. وانتقد سماحته الوضع المخجل للأمة العربية في بعدها الثقافي والمعرفي مقارنةً بالدول الأخرى، مدعّمًا حديثه بمجموعة من الإحصائيات العالمية. وأشار في محاضرته إلى أهمية ودور العلم والمعرفة في حياة الفرد والمجتمع، مؤكدًا أن الثقافة والعلم والمعرفة ينبغي أن تكون همًّا ذاتيًا لكل إنسان. وأولوية في حياة الأمة.
وأشار سماحة الشيخ الصفار في بداية محاضرة الليلة الخامسة من المحرم 1429ﻫ إلى أن المعرفة قيمة دينية عليا في الإسلام، ولا يُوجد دينٌ من الأديان أعطى للعلم والمعرفة مستوى القيمة والاهتمام التي أولاها الإسلام، ويكفي أن أول ما بدأت به رسالة الإسلام أمرٌ بالمعرفة والعلم، إذ باتفاق جميع علماء المسلمين أن أول آية نزلت في القرآن، قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، والآيات القرآنية التي تتحدث عن العلم والمعرفة وتدعو لها، بل وتُرجع الإنسان للاحتكام إليها، أكثر من أن تُعد، لذا فإن اللّه تعالى يؤكد ذلك باستفهامٍ تقريري في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾.
تحدث الشيخ الصفار عن المكانة الرفيعة للعلم والمعرفة في الإسلام من خلال عدة أمور:
■ اللّه تعالى يعتبر ميزة الإنسان على سائر المخلوقات، وحتى على الملائكة، باستعداده للعلم والمعرفة، يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، وحول هذه الآية: سئل الإمام الصادق عن قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾، ماذا علّمه؟ قال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية»[1] .
■ الإسلام يعتبر المعرفة أهم من أي شيءٍ آخر، حتى من العبادة، فقد ورد عن رسول اللّه أنه قال: «فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة»[2] ، وقال الإمام علي : «العلم أصل كل خير»[3] . وأضاف سماحته: الإسلام يعتبر العلم أفضل من أعلى درجات الجهاد، وهي الشهادة، فعن الرسول الأعظم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة يوزن دم الشهداء بمداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء»[4] .
■ عند الحديث عن العلم والعلماء يتبادر للأذهان ـ في الغالب ـ العلوم الدينية وطلبتها، وهذا الأمر ليس صحيحًا، فالعلم ليس منحصرًا فيها فقط، وقد أفتى الفقهاء: كما أن طلب العلوم الدينية لتحصيل الاجتهاد فيها واجب كفائي في كل عصر وجيل، فكذلك الحال بالنسبة لعلوم الطبيعة والحياة وفق حاجة الأمة. مشيرًا إلى أن الآيات التي تتحدث عن العلماء ـ في غالبها ـ جاءت بعد الحديث عن علوم الطبيعة والحياة، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾. مؤكدًا أن حاجة المجتمع الآن للعلماء في علوم الطبيعة والحياة لا تقل عن حاجتها للعلوم الدينية مع أهميتها ومكانتها.
وأكد سماحة الشيخ الصفار أن التحدي الذي تواجهه الأمة اليوم هو تحدي العلم والمعرفة في مجال علوم الطبيعة والحياة، فالمجتمعات المتقدمة لم تتقدم على الأمة في مجالات العلوم الدينية. مجيبًا عن السؤال الأهم: لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ بتأكيده على الحقية التي لا يُمكن إنكارها، وهي: الآخرون حينما اهتموا بالعلم والمعرفة في علوم الطبيعة والحياة تقدّموا، في حين بقي المسلمون منشغلين في مجالات العلوم الدينية والأدبية.
وأشار الشيخ الصفار إلى أن البعض قد يُبرر هذا التراجع بسبب الواقع السياسي الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية، أو للنفوذ الأجنبي، مؤكدًا أن ذلك له تأثيره بالفعل، إلا أنه ينبغي أن لا يكون حائلًا دون المضي قدمًا في طلب العلم والمعرفة. فالروس والصينيون تقدموا علميًا مع استبداد نظامهم السياسي، واليابانيون تقدموا مع النفوذ الأجنبي بعد الحرب العالمية.
وشدّد على ضرورة أن يكون العلم والمعرفة همًّا عامًا في مجتمعاتنا على مستوى الحكومات، والقطاع الخاص، والعوائل، والأفراد، فذلك يدفع باتجاه التقدم في هذا الجانب.
وأشار إلى جانب من الإحصائيات والأرقام التي تُبرز ضعف العالم العربي في الموضوع العلمي والمعرفي، فعلى مستوى الأمية هناك (100) مليون عربي أمي، ومن حيث عدد الجامعات في العالم العربي والإسلامي كله (500) جامعة فقط، بينما في اليابان (400) جامعة، وفي أمريكا (7000) جامعة، وفي الهند (8000) جامعة. مضيفًا: أما من حيث النوعية والكفاءة فقد خلت الدول العربية من أي جامعة في قائمة أفضل (500) جامعة على مستوى العالم، بينما حصلت إسرائيل على (7) جامعات، وأمريكا (168) جامعة. وأما عن موضوع البحث العلمي ففي العالم العربي كلّه (8) آلاف باحث فقط، بينما في إسرائيل (40) ألف باحث، وفي أمريكا (400) ألف باحث.
وعلى مستوى العالم العربي حققت الأردن أعلى نسبة تعليم (91.3)، ثم البحرين، ثم قطر، ثم لبنان، ثم الكويت، وفي المرتبة السادسة السعودية بسنة (78.8). وحينما سئل وزير التعليم الأردني عن سبب تقدّم الأردن، قال: لأن التعليم في الأردن أصبح قيمة اجتماعية.
التثقيف الذاتي يعني: أن يتحمّل كل إنسان مسؤولية نفسه وبالوسائل المتاحة له في كسب العلم والمعرفة، وأن لا يرى أن المسألة ترتبط بالآخرين.
وأكّد الشيخ الصفار أن أبواب العلم والمعرفة باتت مشرعة أمام الإنسان خصوصًا مع التقدم التكنولوجي على مستوى العالم، ولا يحتاج من الإنسان سوى الدافعية والاجتهاد في تحصيل العلم والمعرفة.
وانتقد الشيخ الصفار الوضع المخجل للأمة العربية في بعدها الثقافي والمعرفي مقارنةً بالدول الأخرى، فمن حيث القراءة تقول إحدى الإحصائيات: كل ألماني يقرأ (7) كتب في السنة، بينما كل (20) عربي يقرؤون كتابًا واحدًا في السنة.
مؤكدًا أن الثقافة والمعرفة ينبغي أن تكون برنامجًا يوميًا لكل إنسان، ورسول اللّه يؤكد على ذلك في قوله: «إذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علمًا يُقرّبني إلى اللّه تعالى، فلا بُورِك لي في طلوع شمس ذلك اليوم»[5] .
أكّد سماحة الشيخ الصفار أن للحركة الثقافية في المجتمع دورًا في الدفع باتجاه العلم والمعرفة، فالإنسان الذي يعيش في بيئة تنضح بالثقافة يتّجه إلى المسار ذاته.
وتفاءل سماحته ببشائر الحراك الثقافي في المجتمع، حيث باتت حركة التأليف والمنتديات، والمجلات، والنشاطات الثقافية المختلفة من الأدب والمسرح والفن التشكيلي والتمثيل، جليّة واضحة في المجتمع. مشيدًا بمجلتي «الكلمة» و«الواحة» اللتين مضى على بدء صدورهما خمسة عشر عامًا، وأخذتا مكانة لائقة محليًا وإسلاميًا.
وأكّد أن هذا الحراك الثقافي يتطلب عدة أمور:
أولًا: دعم وتشجيع هذا الحراك الثقافي، بمختلف الوسائل: بدءًا من اقتناء النتاج المحلي، إلى الدعم المادي والمعنوي. ودعا لوجود صندوق يتكفل بدعم النشاط الثقافي في المجتمع بمختلف أبعاده وجوانبه.
ثانيًا: ترشيد التوجهات الثقافية في المجتمع، بأن تكون هناك أولويات للاهتمامات الثقافية والعلمية. مشيرًا إلى تركيز الإنتاج الثقافي في مجالات محدودة، مع إغفال الجوانب الأكثر حيوية وأهمية للمجتمع، كالمجالات العلمية والطبيعية. وضرب لذلك مثالًا بجائزة الملك فيصل العالمية التي تمنح جوائز في مخلف شؤون العلم والمعرفة، إلا أن العالم العربي تقتصر جوائزه في حدود الدراسات الإسلامية والأدبية بينما في علوم الطب وسائر العلوم الطبيعية فمنذ (29) سنة لم يستحق ولا عربي جائزة من هذه الجوائز.
وأكد سماحته أهمية الجوانب المعرفية الدينية والأدبية، لكن مع التوجه لتطوير أسلوب تقديمها للأجيال المعاصرة، لا أن يكون الأمر في حدود اجترار السابق وتكراره.
ثالثًا: أخذ الموقعية الوطنية، بأن يكون الحراك الثقافي منفتحًا على المحيط الوطني والعالمي، لتجاوز التقوقع المذهبي والمناطقي.
ودعا للأخذ بسيرة أئمة أهل البيت حيث كان عطاؤهم شاملًا الجميع، مستشهدًا بجامعة الإمام جعفر الصادق التي استوعبت ليس فقط مختلف العلوم والمعارف الدينية والحياتية والطبيعية، بل حتى مختلف الشرائح على مستوى المذاهب والتوجهات، حتى بلغ عدد طلابها أكثر من أربعة آلاف طالب.
والحمد للّه ربِّ العالمين.