الشيخ الصفار يُراهن على الوعي الاجتماعي للوقاية من ظاهرة الصنمية
يُراهن سماحة الشيخ حسن الصفار على الوعي الاجتماعي للوقاية من ظاهرة الصنمية التي تتمثل في إضفاء نوع من القداسة على أشخاص يصبحون أصنامًا تُعبد، مضيفًا: إن ذلك قد يكون على مستوى القيادات السياسية أو الدينية وحتى الاجتماعية. مؤكدًا أن الصنمية منتج اجتماعي، وأشار إلى أهم أسبابها: نزعة الطغيان والاستبداد، جهل الناس وجبنهم، والنخبة المتملّقة. ودعا للوقاية منها قبل الوقوع فيها، وذلك من خلال مجموعة من الأساليب والوسائل، ومن أهمها: أن الإسلام يتعهّد القيادات الدينية بالتربية الروحية وتزكية النفس، تعدد القوى وعدم تمركزها، والوعي الاجتماعي الذي يُعززه الإسلام بتأكيده على مبدأ النصيحة والنقد، والنهي عن الغلو، وتأكيد حاكمية القيم على الذوات.
أوضح سماحة الشيخ الصفار في بداية المحاضرة السابعة من المحرم 1429ﻫ أن الصنمية مشتقّة من الصنم، وهو ما كانت تتخذه بعض المجتمعات الجاهلية إلهًا يُعبد من دون اللّه، وهي صنعٌ بشري من الحجر أو الخشب، وغيرها.
مؤكدًا أن هذه الحالة التي كانت تُمارس مع الأشياء والجمادات انتقلت إلى الأشخاص، حيث تصبغ بعض المجتمعات قداسة وخضوعًا لأشخاص بلا حدود، وهي ما تُسمّى بظاهرة الصنمية.
مشيرًا أن الناس بأنفسهم يصنعون هذه الحالة، فيجعلون من أشخاص في المجتمع أصنامًا تُعبد، مضيفًا: هؤلاء الأشخاص قد يكونون قيادات سياسية، كما كان فرعون، يقول تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، وقد يكونون قياديات دينية، يقول تعالى: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾، وقد تكون زعامات اجتماعية، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾.
وذكر نماذج من التاريخ الماضي والمعاصر لهذه الظاهرة الخطيرة، ومنها هيمنة ستالين، أيام الحكم الماركسي في الاتحاد السوفيتي، الذي يقول عنه المؤرّخ الماركسي (ميديفيف): «عمل ستالين على خلق دين اشتراكي جديد، أما إله ذلك الدين الجديد فكان ستالين نفسه». وقد كُتب عن ستالين (600) كتاب وزّع منها (20) مليون نسخة بين عام 1946 و 1952م. وكذلك (ماو تسي تونغ) في الصين، حتى جاء في اجتماعات القيادة الصينية: لقد عبدنا في السابق كوان لينج الذي قيل أنه كلّي القدرة، أين قدرته الآن؟ من يجب أن نعبد؟ يجب أن نعبد الرئيس ماو. وفي بلاد المسلمين كان هناك صدام حسين، وأيضًا رئيس تركمانستان، صابر مراد نيازوف، وغيرهما ممن تقمص هذا الدور.
لقد تقلد نيازوف الحكم في بلاده تركمانستان الغنية بالبترول سنة 1985م وأصبح رئيسًا مدى الحياة سنة 1990م، وأعاد تسمية شهور السنة باسمه واسم أبيه وأمه، وغير أسماء أيام الأسبوع، وألف كتابًا (روح نامة) فرض تدريسه في المدارس والجامعات (مات سنة 2006م).
أكّد سماحة الشيخ الصفار أنه ليس هناك أشخاص يجري في عروقهم دمٌ إلهي أزرق، فيدّعون الإلوهية ويُمارسون الاستبداد، إنما الناس هم الذين يصنعون هذه الحالة لهم.
وأشار إلى ثلاثة أسباب لهذه الظاهرة:
أولًا: نزعة الطغيان والاستبداد. وهي من بين الميول المكنونة في الإنسان، فإذا وجدت لدى أحد الأشخاص ميزة وتفوّق، وكان ضمن مجتمع ضعيف، فقد تتحرك عنده هذه النزعة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾.
وعلّق سماحته على موضوع الأنبياء والأئمة بقول: بالنسبة للأنبياء والأئمة فهم محصّنون بحصانة إلهية ضدّ هذه الحالة، وهي ما نسمّيه العصمة. يقول تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾.
وأضاف سماحته: وقد تكون حالة النزعة والطغيان في حدود ضيقة، كأن تكون في الإطار العائلي فقط، ومع ذلك فإن رسول اللّه يُحذّر من ذلك، فيقول: «إن الرجل ليُكتب جبّارًا وما يملك إلا أهله»[1] .
ثانيًا: جهل الناس وجبنهم. وهي مفتاح وصول الأشخاص إلى حالة الصنمية، يقول تعالى عن فرعون: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾، أما إذا كان المجتمع واعيًا فإنه يكون محصّنًا من حصول هذه الظاهرة. وهذا ما تتمتع به المجتمعات المتقدمة حيث يندر وجود هذه الحالة هناك، وقد كان المجتمع الإسلامي في عهوده الأولى يتمتع بالحصانة، وحينما دخلت الأمة في خندق الحكم الأموي والعباسي تغيرت المعادلة كلها.
ثالثًا: النخبة المتملّقة. حيث تُحاط بعض القيادات، سواءً السياسية منها أو الدينية أو الاجتماعية، بحاشية متملّقة تصنع حالة الصنمية عند هؤلاء القيادات، حتى وإن كانت تلك القيادات ليست مندفعة في البداية بهذا التوجّه. لقد وقف ابن هاني أمام المعز الفاطمي ليقول له:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار | فاحكم فأنت الواحد القهار |
ومن النماذج المعاصرة شاعر صدام، شفيق كمال، الذي يقول في تملّقه لصدّام:
لو لاك ما سقط لـو لاك ما بـزغ القمر |
المطرلو لاك ما طلع لو لاك يا صدام ما خلق البشر | الشجر
وكذلك بالنسبة للقيادات الدينية، حيث تُمنح بعض الألقاب الدينية التي يظهر منها وجود مثل هذه الحالة غير الإيجابية.
أكّد سماحة الشيخ الصفار أن هناك أساليب ووسائل من شأنها أن تُحدث وقاية للمجتمع حصول ظاهرة الصنمية، وإذا ما حصلت فإنها وسائل للعلاج أيضًا.
وذكر ثلاثةً منها:
فتعاليم الإسلام والنصوص الواردة عن أهل البيت، تنضح بثروة روحية هائلة تُغذي القيادات ليكونوا محصّنين من نزعة الصنمية، ومن النماذج الرائعة، دعاء مكارم الأخلاق، للإمام زين العابدين ، ومن فقراته: «ولا ترفعني في الناس درجةً إلا وحططتني عند نفسي مثلها، ولا تُحدث لي عزًّا ظاهرًا إلا أحدثت لي ذلةً باطنةً عند نفسي بقدرها». ورسول اللّه وهو الأسوة، كان يُصلّي للّه حتى تورّمت قدماه، فحينما سئل عن ذلك، قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»[2] .
فذلك يمنع من حالة الطغيان والاستبداد، وهذا ينطبق على مختلف الصعد السياسية والدينية والاجتماعية. يقول تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾. مشيرًا أن من ميزات المجتمع الشيعي تعدد المراجع الذي من شأنه أن يحدّ من حالة الصنمية في جانبها الديني.
فكلما كان المجتمع واعيًا، وكانت هناك ثقافة ترفض الصنمية، استطاع المجتمع بهذا الوعي أن يمنع حدوث ظاهرة الصنمية. والإسلام يُعزز حالة الوعي بتأكيده على مبدأ النصيحة والنقد، والنهي عن الغلو، وتأكيد حاكمية القيم على الذوات. ورسول اللّه ربّى أمته على ذلك بتوجيهه الرصين للأمة، يقول: «ألا لا يمنعنّ رجلًا هيبة أحدٍ أن يقول بحق إذا علمه»[3] . وكذلك توجيهات الأئمة تؤكد ذلك أيضًا، فالإمام
علي يقول: «اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه»[4] . ومن النماذج في هذا الجانب كتب الدكتور خالص جلبي عن تجربة قام بها: نسبت فكرة لمالك بن نبي على أنها لسيد قطب لشاب متحمّس من الأخوان المسلمين فاستحسن الفكرة وأطنب في مدحها، وكيف أنها من درر الحكم. ثم قمت بالعكس فعرضت فكرة لسيد قطب على أنها لرجل شيوعي فاستاء منها وعابها، فلما أرجعت كل فكرةٍ لصاحبها أصيب بصدمة. إننا نضحك من ذلك لكننا نقع في نفس المطب.
وأشار سماحة الشيخ الصفار في ختام محاضرته إلى أن الإسلام يُعطي للوعي مصطلحًا آخر وهو (البصيرة في الدين)، مؤكدًا أن الأمة أحوج ما تحتاج إليه في هذا العصر هو البصيرة في الدين، فحالة التقديس إنما تكون للمعصومين، أما سائر الناس من العلماء والزعامات فيصدق عليهم الاحترام والتوقير، وليس التقديس. فالتقديس يعني أن يكون فوق النقد والاعتراض، بينما الاحترام لا ينافي النقد والاعتراض. ويُضيف الشيخ الصّفار: إن الإمام الصادق يؤكد على أهمية البصيرة في الدين، فيثني على عمه العباس بن علي بقوله: «كان عمّنا العباس نافذ البصيرة صُلب الإيمان»[5] .
والحمد للّه ربِّ العالمين.