القلق من الآخر
الشيخ الصفار يناقش حالة القلق من الآخر الحضاري والمذهبي
أكد سماحة الشيخ حسن الصفار أن القلق من الآخر حالة يجب مناقشتها بموضوعية، سواءً كان الآخر في إطار الأمم والحضارات، أو المذاهب، أو التيارات الاجتماعية. مشيرًا أن الإسلام يُعالج هذه الحالة من خلال ثلاث قواعد: التعرف إلى الآخر، التنافس الإيجابي، والتعايش مع الآخر والعلاقة السليمة معه. وأكد أنه بدأت تظهر في الآونة الأخيرة أجواء قلق متبادل بين السنة والشيعة، مبينًا أن المطلوب لتجاوز هذه الحالة: الخطاب المعتدل، الانفتاح للتعارف، والتواصل والتداخل، فالقطيعة لا مبرر لها. وأكد أن من أبرز أسباب القلق بين التيارات الاجتماعية: انخفاض مستوى الوعي، وسيطرة الأصوات المتطرفة، محمّلًا العلماء المسؤولية الكبرى لمعالجة هذه الحالة بالتوعية وتطبيق حالة الانفتاح والتداخل فيما بينهم.
أشار الشيخ الصفار في بداية محاضرة الليلة الثامنة من المحرم 1429ﻫ إلى أن القلق تعبيرٌ عن خوف الإنسان من شيء ما يُشكّل خطرًا على وجوده ومصالحه، والخوف ميلٌ فطري وحاجة طبيعية يندفع بواسطته الإنسان لحماية ذاته ودرء الخطر عنها، لذلك ورد عن الإمام علي قوله: «من خاف أمن»[1] .
مضيفًا: هذا الخوف والقلق الذي يحصل عند الإنسان قد يُعبّر عن وضعٍ طبيعي وحالة صحيحة، لوجود احتمالات مقبولة للخطر. وقد يُعبّر عن حالة مرضية، وهو ما يُعبّر عنه علماء النفس بـ (الرهاب) أو (الفوبيا) بأن يخاف الإنسان من أشياء وهمية، ومن نماذج ذلك: أن يخاف الإنسان من الظلام، أو ركوب الطائرة، وغيرها.
وحول القلق من الآخر، يقول الشيخ الصفار: قد يخاف الإنسان من أخيه الإنسان، سواءً على المستوى الفردي، أو على مستوى المجتمعات. مؤكدًا أن هذا القلق قد يكون مبرّرًا لاحتمال أن يكون الآخر يُشكّل خطرًا حقيقيًا، وقد يكون وهميًا. وقد يكون القلق من المنافسة وليس من العدوان.
وأضاف: إن الإسلام وضع قواعد أساس للتعامل مع الآخر عند وجود حالة من القلق لأي سبب من الأسباب، وأهم تلك القواعد:
أولًا: الاندفاع نحو التعرف إلى الآخر، يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، فالتعارف مهمٌ جدًا لأن عبره يُمكن تقييم حقيقة الآخر، والتأكد من حجم خطره إن كان يشكل خطرًا، لكي يتم تحديد أسلوب التعامل السليم معه.
ثانيًا: التنافس الإيجابي، وآيات القرآن الكريم تُقرر حق التنافس لكل الناس، بل تؤكد أن خيرات الكون مسخّرة للجميع، ومن يسبق إليها يحصل عليها، يقول تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾، ويقول تعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾، ويقول تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
ثالثًا: التعايش مع الآخر والعلاقة السلمية معه، والقرآن الكريم يوجّه البشرية لأن تكون حياتهم باتجاه السلم، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. ويُشير الشيخ الصفّار إلى أنه في كثيرٍ من الأحيان يكون في المجتمع جهات تؤجج حالة القلق والخوف من الآخر، والقرآن يُعالج هذه الحالة في قوله تعالى: ﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّه هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾. مؤكدًا أن التزام القيم الدينية، والاهتمام بالبناء الداخلي للمجتمع يمنحه القوة والقدرة على مواجهة أي احتمالات سلبية، وتُعطيه القوة باتجاه كسر الحواجز التي تصنع القلق في العلاقة مع الآخر.
أكد الشيخ الصفار أن هناك قلقًا ينتاب المسلمين تجاه الحضارة الغربية، والغرب يعيشون القلق ذاته تجاه الحضارة الإسلامية. مشيرًا إلى أن هذا القلق له جذور تاريخية، حيث إن الفتوحات الإسلامية التي أدّت إلى انتشار الإسلام في أوربا، شابها حصول إساءات. وكذلك بالنسبة للغرب، حيث التبشير بالديانة المسيحية، والحملات الصليبية، وعهود الاستعمار لبلاد المسلمين. كل ذلك أوجد هذه الحالة من القلق بين الحضارتين.
وأضاف: إن الانحياز المعلن من الغرب تجاه إسرائيل زاد من حالة القلق والغضب عند المسلمين، وكردِّ فعل حصلت اعتداءات إرهابية ضد الغرب، مع التأكيد على أن هذه الاعتداءات لا تُمثّل الروح الإسلامية، وهي اعتداءات إجرامية ومدانة. إضافة لذلك، توجّه الخطاب الإسلامي في غالبه إلى التعبئة المضادة للغرب، بلغة تعميمية وطرح متشنج.
وأكد الشيخ الصفار أن مثل هذه الحالة موجودة في الغرب، حيث هناك متطرفون يُثيرون حالة القلق في المجتمع الغربي، ومن النماذج: النداء الذي وجّهته دوائر المحافظين واليمين الأمريكي المتشدد في الشهر الماضي لأعداد كبيرة من المحافظين الأمريكيين لشراء كتاب يُحذّر من تنامي أعداد المسلمين في أوروبا، مدّعيًا أن القارة الأوروبية سوف تختفي في ظل المدّ الإسلامي. والكتاب اسمه: (أمريكا وحدها: نهاية العالم كما نعرف)، لمؤلفه مايك ستاين، وهو من أشهر الكتاب المحافظين.
واستفهم الشيخ الصفار: إلى متى ستستمر هذه الحالة؟ مؤكدًا في إجابته على أن الغرب لديه تقدّم لا يُنكر، ولا يُستغنى عنه. وعند المسلمين ثروة من القيم الروحية والمبادئ الأخلاقية التي لا يُمكن للغرب الاستغناء عنها. مشيرًا إلى إحصائية حديثة تقول: إن عدد المواليد غير الشرعيين في فرنسا عام 2006م زاد على المواليد الشرعيين، فنسبة المواليد غير الشرعيين: 50.5%.
وأكّد سماحته أن المطلوب هو خطاب يوجّه الأمة لبناء ذاتها، وينفتح على الشعوب الأخرى، وأن يُقدّم الإسلام للغرب بأسلوب متميز، وأن تتجسّد مبادئ الإسلام وقيمه في نفوس الواعين الحاملين لرسالة الإسلام.
أكد الشيخ الصفار أنه بدأت تظهر في الآونة الأخيرة أجواء قلق متبادل بين السنة والشيعة، وكأن السنة أصبحوا خطرًا على الشيعة، أو أن الشيعة أصبحوا خطرًا على السنة. وبدأت المسألة تصل إلى حدّ الفرز الديمغرافي في الوطن الواحد.
وأشار إلى أن هذا القلق نتيجة صراعات تاريخية سابقة، وما يحفل به التراث المذهبي للسنة والشيعة من طروحات مسيئة، إضافة إلى وجود توظيف أجنبي. معلّقًا على زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة، وأنها مقتصرة على هدفين: موضوع المفاوضات والسلم مع إسرائيل. واحتواء الخطر الإيراني. مؤكدًا أن اللعبة الأمريكية أصبحت واضحة لدى القيادات العربية والإسلامية.
وأما عن المطلوب تجاه حالة القلق من الآخر المذهبي، أورد الشيخ الصفار
ثلاث نقاط:
أولًا: الخطاب المعتدل، مع العلم أن غالبية الناس يتّجهون نحو الخطابات المتطرفة، وهذا بحد ذاته أمرٌ خطير. مؤكدًا أن على الأصوات الواعية أن لا تنهزم، بل عليها مضافرة الجهود باتجاه الوحدة والتقارب والانفتاح. وحذر من دور بعض مواقع الانترنت التي تحرّض على الطائفية، وتفتعل الأخبار، وتلفّق الأقوال، وتضخم الأشياء البسيطة بهدف إثارة الفتنة.
ثانيًا: الانفتاح للتعارف، فالاعتماد على صور نمطية مشوّهة تزيد من حالة القلق. وينقل الدكتور القصيبي: كل غربي قابلته بلا استثناء يعتقد أن من واجب الضيف حين يدعوه مضيف عربي إلى الطعام أن يأكل عين الخروف، ويتصوّر أن المضيف يشعر بالإهانة لرفض الضيف هذا التكريم. هذه أسطورة بلا أي أساس، العرب أنفسهم يأنفون من أكل عين الخروف، وهي حرام شرعًا، فضلًا عن تقديمها لضيف يودون إكرامه. واستشهد الشيخ الصفار بما يروجه البعض عن الشيعة من أقوال كاذبة حول ممارسات في ليلة عاشوراء مع أن مجالسهم في عاشوراء مفتوحة وعلنية وعلى مرأى من أجهزة الدولة، وتبثها الفضائيات وتغطيها الصحافة ووسائل الإعلام.
ثالثًا: التواصل والتداخل، فالقطيعة لا مبرر لها ولا أساس. وأشار الشيخ الصفار أن الآباء والأجداد عاشوا في الماضي في أجواء التعايش والتواصل، بعكس الحالة الموجودة الآن. مؤكدًا أن الفرز المناطقي على أساس المذاهب من أكبر المخاطر على الوحدة الوطنية.
أشار الشيخ الصفار إلى أن وجود تيارات وتوجّهات اجتماعية متعددة أمرٌ طبيعي، فلا يُتوقّع في مجتمعٍ كبير أن يتفق أبناؤه على توجّه واحد، وفكرٍ واحد، ومرجعية واحدة. وبسبب هذا التعدد قد يحصل قلق بين الأطراف، مؤكدًا أن هذا القلق في الغالب وهمي، ومعالجته تتم بالاندفاع نحو التعارف والتنافس الإيجابي.
وبيّن الشيخ الصفّار أن فشل محاولات التغلب على حالة القلق عند البعض، تكمن في أمرين:
الأول: انخفاض مستوى الوعي.
الثاني: سيطرة الأصوات المتطرفة.
وأكّد الشيخ الصفار في ختام محاضرته أن المسؤولية الكبرى تقع على العلماء والخطباء، إذ بإمكانهم توجيه الناس للتعاون، والانفتاح، والتنافس الإيجابي. مضيفًا: إن مبادرة العلماء لخلق هذا الجو من الانفتاح والتعاون فيما بينهم يجعل لتوجيهاتهم مصداقية أكبر.
وأنهى حديثه بالتأكيد على أن الجميع تقلهم سفينة أبي عبد اللّه الحسين، فلتكن المبادرة لتأكيد روح التعاون المشترك. وهذا مصداقٌ من مصاديق ما ورد عن الإمام الصادق : «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم»[2] .
والحمد للّه ربِّ العالمين.