العقلانية وإدارة الحياة
الشيخ الصفار يُحذر من انتشار الخرافات التي تُكبّل دور العقل في إدارة الحياة
حذّر سماحة الشيخ حسن الصفار من انتشار الخرافات التي تُكبّل دور العقل في إدارة الحياة، مؤكدًا أن من أبرزها السحر والشعوذة، إذ بدا واضحًا تأثر المجتمع بشكلٍ كبير وبالخصوص النساء. وأكد أن الدين يأمر باتخاذ العقل مرجعًا في إدارة الحياة، يقول رسول اللّه : «دين المرء عقله، ومن لا عقل له لا دين له»[1] . مشيرًا إلى أن بعض الأوساط الدينية تُساهم على ذلك بنقلها صورةً مشوّهة للدين خارج العقل. وتُعرض سير الأنبياء والأئمة وكأنها قطعة من المعاجز والكرامات. وأكد أن الكون يسير وفق سنن طبيعية، والسير وراء الخرافات يُبعد الإنسان عن تلك السنن.
أكد الشيخ الصفار في بداية المحاضرة التاسعة من المحرم 1429ﻫ أن النظام الذي يحكم الكون والحياة هو من أعظم وأوضح الأدلة والبراهين التي تدل على وجود الخالق سبحانه وتعالى. فليس في الحياة عبث ولا فوضى، يقول تعالى:﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾، ويقول تعالى: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا﴾. والقرآن الكريم يُوجّه الإنسان للتفكّر في هذا الكون الذي يسير وفق نظام دقيق، كما يقول تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾. ويؤكد الشيخ الصفار أن السبب في تأكيد آيات القرآن إلى النظر للكون والتفكّر فيه، هو: لكي يعرف الإنسان أن الأمور في هذه الحياة لها أسبابها وسبلها الطبيعية، وعلى الإنسان أن يسلك تلك السبل للوصول إليها، ليس على مستوى الأمور الكونية الطبيعية فقط، وانما على مستوى الواقع الاجتماعي أيضًا، فتقدم مجتمع أو تأخره، ونهوض حضارة أو سقوطها يتم ضمن معادلة ونظام عادل. يقول تعالى:﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾.
فالسنن الطبيعية في الحياة كما أنها حاكمة على حياة الفرد، فإنها حاكمة على المجتمعات أيضًا، فأي مجتمع يسعى للتقدم والرقي عليه أن يتخذ من السنن الطبيعية طريقًا لذلك، فليس عبثًا أن تقوم حضارة وتسقط أخرى، وليس عبثًا أن يتقدم مجتمع ويتخلف آخر.
وحول جانب الإيمان بالغيب الذي تعتبره آيات القرآن الكريم أول صفات المؤمنين، يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾، يؤكد الشيخ الصفّار أن ذلك لا يعني تجاهل السنن الطبيعية التي تُسيّر الحياة، إنما يُعطي التوازن في حياة الإنسان بين إيمانه بالغيب ومراعاته للنظام السائد في الحياة. فالإيمان بالغيب هو لتفسير ما يجري في عالم الشهود، وأن خلفه إرادة حكيمة، وقدرة عادلة.
وأشار إلى أن البعض يعتقد أن الإيمان بالغيب يعني تجاوز السنن الطبيعية، فيطلبون من اللّه تحقيق آمالهم خارج نطاق السنن، وهذا خلاف نظام الكون والحياة. حيث إن البعض يكتفي بالدعاء إلى اللّه تعالى لبلوغ ما يُريد، وهذا خلاف ما تدعو إليه تعاليم الإسلام، يقول الرسول الأعظم : «الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر»[2] . كما أن المجتمعات التي تتطلع للتقدم والانتصار عليها أن تسلك السبل الطبيعية، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾. لقد نهر رسول اللّه بعض أصحابه الذين امتنعوا عن العمل وقعدوا في بيوتهم اعتمادًا على قوله تعالى: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يحتسب﴾. كما قال لصاحب الدابة: «أعقلها وتوكل»[3] .
أكد الشيخ الصفّار أن أعظم منحة منحها اللّه تعالى الإنسان هي العقل، وليس هناك ما هو أعظم منه. ويكفي في عظمته أنه أول ما خلق اللّه تعالى، يقول رسول اللّه : «أول ما خلق اللّه العقل، فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر فأدبر. فقال اللّه عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت أعظم منك، بك أثيب وبك أعاقب»[4] .
وفي جوابه عن سؤال: لماذا منح اللّه تعالى الإنسان العقل؟ يقول: لكي يُدرك به نظام الكون، وأسرار الحياة، ولكي يستطيع أن يُعمّر الحياة، يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾. مضيفًا: إن تسخير الكون والحياة لا يكون عبر القوة الجسمية، وإلا فهناك من الحيوانات ما هو أقوى من الإنسان، لذا فإن العقل هو الذي يحكم مسيرة الحياة، ولذا جاء التأكيد في القرآن الكريم على الرجوع للعقل وتحكيمه، يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُون﴾، ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون﴾، ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُون﴾، وقد جاء تكرار هذه الآيات في كثير من مواضع القرآن الكريم، وفيها دلالة واضحة على حاكمية العقل ومرجعيته.
ويُضيف الشيخ الصفار: بمقدار ما يُستثمر العقل يكون هناك تقدم ونجاح في استثمار خيرات الكون، واكتشاف أسرار الحياة، وبمقدار ما يكون هناك تراجع في التعامل مع العقل، يبدأ الإنسان أو المجتمع في الانحدار، وقد يصل به المطاف ليكون مثل البهائم، إن لم يكن أضل. يقول تعالى:﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.
وأشار الشيخ الصفّار إلى أنك تتعجب من الإنسان الذي لا يستخدم بصره في حين أنه يُبصر، أو لا يستخدم سمعه في حين أنه يسمع، مؤكدًا أن عليك أن تكون أكثر تعجّبًا من الذي لا يستخدم عقله، ولا يُعمل فكره.
مضيفًا: إن الأمم المتقدمة إنما وصلت لهذا التقدم التكنولوجي المذهل لما استخدموا عقولهم، بيد أن المجتمعات المتخلفة تخلّفت عندما تخلّت عن استخدام العقل.
وأكد أن الإسلام يولي للعقل أهمية كبيرة، ويأمر باتخاذه مرجعًا في إدارة الحياة، يقول رسول اللّه : «العقل أصل ديني»[5] ، ويقول: «دين المرء عقله، ومن لا عقل له لا دين له»[6] ، ويقول الإمام علي : «العقل رسول الحق»[7] ، ويقول: «ولا يُستعان على الدهر إلا بالعقل»[8] . ومرةً امتدح بعض الأصحاب رجلًا أمام رسول اللّه في عبادته، فسألهم الرسول : كيف عقله؟ فتعجّب الأصحاب، وقالوا: يا رسول اللّه، نخبرك عن عبادته وتسألنا عن عقله، فقال: «إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدًا في الدرجات على قدر عقولهم»[9] .
وأعرب سماحته عن انزعاجه للممارسات الحمقاء التي تقوم بها بعض الفئات من الإرهابيين، مؤكدًا أن الأمة قد ابتليت بهؤلاء على الرغم من أنهم يتظاهرون بالتدين، ويتحدثون بالإسلام، إلا أنهم بحماقتهم ينقلون للعالم صورةً مشوّهة عن الإسلام.
وأشار إلى أن بعض الأوساط الدينية أصبحت تستخدم الدين لتجميد العقل، وأكّد أن ذلك أكبر إساءة للدين، وتطرق في حديثه إلى بعض الملاحظات:
أولًا: شحوب الفهم الديني، فيقدم البعض للدين صورة خارج العقل. وتُعرض سير الأنبياء والأئمة وكأنها قطعة من المعاجز والكرامات. بيد أن حياة الأنبياء والأئمة كانت تسير وفق السنن الطبيعية، ودور المعجزة أو الكرامة كان في حدود اقتضاء مصلحة الرسالة، إلا أن هناك من يتعامل مع بعض الروايات الضعيفة ويُعطيها حجمًا أكبر مما يستحق الأمر.
ثانيًا: انتشار الخرافات، ومن أبرز مظاهر الخرافات والأساطير: السحر والشعوذة. ويُضيف الشيخ الصفار: مع الأسف، فإن تجاوب الناس في المجتمعات مع هذه الخرافات كبير جدًا، وبالخصوص في صفوف النساء.
وذكر أن المركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر أصدر دراسة تقول: الذين يبيعون الوهم في الوطن العربي من سحرة ومشعوذين وقرّاء الكف والفنجان يُقدّر عددهم (250) ألف إنسان، يستهلكون من الأموال خمسة مليارات دولار سنويًا. وتؤكد الدراسة أنه يوجد في العالم العربي (470) خرافة يُتعامل معها كمسلّمات، وليس لها أصل عقلي ولا منشأ صحيح.
ويؤكد الشيخ الصفار أن الأمر لا يقتصر على البلاد العربية والإسلامية، ففي دراسة نشرتها مجلة المجلة تقول: في فرنسا موطن ديكارت أبو العقلانية الحديثة يوجد ما يزيد على (50) ألف منجّم ومشعوذ، يرتادهم سنويًا أكثر من (10) ملايين شخص، ويُحققون أرباحًا خيالية تُقدّرها مصالح الضرائب بحوالي أربعة ملايين دولار سنويًا لكل
واحدٍ منهم.
وأكد الشيخ الصفار أن على الناس أن يكونوا يقظين ولا ينخدعون بهذا التضليل الذي يستخف بعقولهم، ويشغلهم بأشياء لا حقيقة لها. مشيرًا أن مظاهر الخرافات بدأت تنتشر في مجتمعنا وتؤثر على مجريات حياة الناس. وفي بعض الأحيان تتعرض الكثير من المنازل للخراب بسبب هذه الخرافات التي لا أصل لها.
وتعرّض سماحته إلى بعض النماذج التي تُكبّل دور العقل في إدارة الحياة الاجتماعية، ومن تلك النماذج ظاهرة رسائل الجوال، ومن أمثلتها: رسالة تقول: لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه. أرسلها إلى خمسة أشخاص، أمانة في عنقك إلى يوم القيامة. وأخرى تقول: لا إله إلا اللّه الهي بحق أم البنين أن تكشف كربي، أمانة إلى تسعة أشخاص فلا ترد لك حاجة. مؤكدًا أن هذه الظاهرة وأمثالها تشغل الناس وتُزيّف اهتماماتهم.
ومن النماذج: الإغراق في طلب الخيرة سواء بالقرآن أو بالسبحة، بيد أنه ليست هناك رواية صحيحة حول ذلك، والرواية الوحيدة الصحيحة حول الخيرة تفيد بأن يصلي الإنسان ركعتين ويطلب من اللّه الخير ثم يعمل بما وقر في نفسه. وبمراجعة تعليقات الشيخ المجلسي على روايات الكافي حول الخيرة يتبين ذلك. وأيضًا: قضية الكوامل التي تُعيق الكثير عن الزواج في ليالي معينة في الشهر، بينما بالبحث اتضح أنه لا أساس لها على صعيد الروايات، وغيرها من القضايا التي تُعيق حركة العقل في المجتمع.
وأكد سماحته على ضرورة تجاوز هذه الحالة وأن لا يُستهان بالعقل، فديننا يأمرنا بالرجوع للعقل. وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حينما يتحدث عن أهداف الأنبياء يقول: «ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ »[10] .
وأشار في ختام محاضرته أننا حين نقرأ سيرة الأنبياء والأئمة نجد أن حياتهم كانت تسير وفق السنن الطبيعية، ونراهم يتعاملون مع الأحداث بمنطق عقلي. وهذا سيد الشهداء الإمام الحسين في نهضته المباركة ومقاومته للظلم نراه سار وفق الظروف الطبيعية ولم تكن مسيرته المباركة خارج نطاق العقل والمنطق.
والحمد للّه ربِّ العالمين.