الشيخ الصفار يُدين مظاهر الإرهاب الفكري ويدعو لفتح باب النقاش في القضايا الدينية
أدان سماحة الشيخ حسن الصفار الإرهاب الفكري بكل مظاهره وأشكاله، مؤكدًا أن التعاليم الدينية تفتح الأفق أمام الفكر للانطلاق وأن لا يقف عند حدود ثابتة، وآيات القرآن وروايات أهل البيت تصدح بذلك بكل جلاء. وأكد أن الفكر الديني ليس خارج دائرة التفكير، إنما هو في عمقها، لفتح باب الاجتهاد ولثقة الدين بعقل الإنسان. وأشار إلى العوائق التي تجعل الإنسان لا يستخدم عقله، فمنها ما هو ذاتي، ومنها ما هو خارجي. مركّزًا حديثه على بعض المظاهر التي يبرز فيها الإرهاب الفكري، وتُعاني منها مجتمعاتنا الإسلامية.
أكد الشيخ الصفار أن للفكر موقعية ومركزية في الخطاب القرآني، فهو يُطالب الإنسان بالعودة إلى عقله، وإعماله للوصول إلى جادة الحق والصواب، مشيرًا أن معتقدات الإنسان يجب أن تمر من قناة التفكير. والآيات القرآنية في هذا الإطار كثيرةٌ جدًا، يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿أفَلا تَتَفَكَّرُونَ﴾.
واستعرض عددًا من الروايات الواردة عن أهل البيت في هذا الصدد وهي أكثر من أن تُحصى، فعن الإمام علي أنه قال: «الفكر جلاء العقل»[1] ، وقال : «بالفكر تنجلي غياهب الأمور»[2] ، وقال : «لا تخل نفسك من فكرة تزيدك حكمة»[3] ، وقال : «من أكثر الفكر فيما تعلّم أتقن علمه وفهم ما لم يكن يفهم»[4] ، وقال الإمام الحسن : «أوصيكم بتقوى اللّه وإدامة التفكر، فإن التفكر أبو كل خيرٍ وأمه»[5] ، وقال الإمام الصادق : «تفكر ساعة خيرٌ من عبادة سنة»[6] .
وأضاف: من خلال هذه الدعوة الصريحة من القرآن الكريم، والروايات الشريفة يجدر بالإنسان أن يُعمل فكره وعقله، وأن لا يقف في حدود الظواهر والمعلومات السطحية، مشيرًا أن من أبرز الإشكاليات التي تُطرح الآن على مناهج التعليم في الدول النامية أن تُقدّم للطلاب معارف مقولبة، بعكس الدول المتقدمة التي تُثير فكر الطالب، وتُساعده على إعمال عقله.
وأشار إلى أن التفكير ميزة للإنسان على سائر المخلوقات، وحتى تلك الحيوانات التي لديها جانب من الإدراك البسيط، إلا أنها لا تتمكن من تطويره، وتلك الحيوانات التي تتعرض للأخطار المتكررة، إلا أنها لا تدرك حجم الأخطار، فضلًا عن أنها تستطيع إدراك كيف تتجاوز هذه الأخطار، ومثاله الواضح الأسماك وتعرضها للصيد المتكرر من بداية الخليقة ولليوم والمستقبل.
مضيفًا: إن التقدم العلمي الذي يشهده العالم اليوم إنما هو نتيجة لتفكير الإنسان.
وتساءل سماحته: ماذا عن الفكر الديني، هل هناك مجالٌ للتطوير والتجديد؟ أم أن الفكر الديني ثابت لا يتغير؟ وفي إجابته عن ذلك قال: عندما نقرأ الفكر الديني نجد أنه متطور، فالمعارف الدينية في العصر الإسلامي الأول كانت محدودة، وعندما انفتح المسلمون على بقية الأقطار عبر الفتوحات الإسلامية، تطور الفكر الديني. فالفكر الديني ليس خارج دائرة التفكير، إنما هو في عمقها.
وأضاف سماحته: إن لفتح باب الاجتهاد، وثقة الدين بعقل الإنسان دورًا كبيرًا في توجه الإنسان المسلم للتفكير، والبحث في القضايا الدينية، حتى حصل هذا التطور الذي هو نتيجة تراكم قرون من الزمن. مشيرًا إلى أن النص القرآني وإن كان محدودًا في إطار الآيات القرآنية، إلا أن فهم الآيات وتفسيرها لا يقف عند حدود معينة، فلا الزمان يُقيّدها ولا المكان، وقد سأل رجلٌ الإمام الصادق : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فأجابه الإمام : «لأن اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قومٍ غض، إلى يوم القيامة»[7] . وروي عن ابن عباس أنه قال: «لا تُفسّروا القرآن فإن الدهر يُفسّره».
وأشار إلى أن باب الاجتهاد على المستوى الفقهي والفكري مفتوح، مما يُثري الساحة الفكرية للدين، وللتحديات والإشكاليات التي تُطرح بين فترةٍ وأخرى دور في إثراء الفكر الديني، لأن ذلك يدفع العلماء للبحث عن إجابات للتساؤلات والإشكاليات مما يُثير الفكر من جهة، ويزيد في صلابته وقوته.
أكد الشيخ الصفار أن هناك مجموعة من العوائق تجعل الإنسان لا يستخدم عقله، بل إنها تُجمّد حالة التفكير عند الإنسان، فيتوقف عن الإبداع والتطوير والتجديد، مضيفًا: إن هذه العوائق. فيما يرتبط بالعلوم الطبيعية والقضايا الدينية أيضًا.
وأشار إلى أن العوائق على نوعين:
الأول: عوائق ذاتية، تشمل ضعف الثقة بالنفس، والانبهار بالآخرين.
مبينًا أن الإسلام يُعالج هذه الحالة بتوجيه الإنسان إلى عقله، وأن لا يقبل آراء الآخرين دون تفكير.
الثاني: عوائق خارجية، ويأتي الإرهاب الفكري على رأس هذه العوائق، لأنه يقوم على تجريم الرأي الآخر، فلا يحق لأحد أن يُفكّر خارج سياق الرأي السائد، فيعيش الناس في أجواء قامعة للإبداع والتطوير والتجديد.
وأشار أن الحاكم قد يكون طرفًا في موضوع الإرهاب الفكري، وهذا ما حصل في عصر الدولة العباسية حيث إن السلطة تتبنى رأيًا عقائديًا وتُجرّم بل وتُعاقب كل من يُخالف ذلك الرأي، ومن أبرز القضايا (قضية خلق القرآن) حيث تم التنكيل بعدد كبير من العلماء، ومن جملتهم الإمام أحمد بن حنبل.
وأضاف: أحيانًا يأخذ الصراع بين العلماء في القضايا التفصيلية منحى سلبيًا، فيلجأ البعض للتجريح الشخصي، وهذا خطأ، فالأسلوب المناسب هو الاحتكام للنقاش العلمي الموضوعي، والقرآن الكريم يُربي المسلمين على ذلك، يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾. إضافةً إلى أن القرآن يستنكر الإكراه في الدين، يقول تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾.
وأكد الشيخ الصفار أن الإرهاب الفكري إضافة لكونه يُعطّل حركة الفكر والإبداع، فإنه يُوسّع مساحة الثغرات، ويُخالف منهج القرآن الكريم وأهل البيت .
وركّز في حديثه على عدة نقاط فيما يتعلّق بالإرهاب الفكري:
أكد الشيخ الصفار أن دائرة المسلّمات والثوابت إذا كانت ضخمة وكبيرة، فإنها تشل حركة التفكير، ويصعب تجاوزها، وهي عنوان من عناوين الإرهاب الفكري.
وأشار إلى أن الفقهاء يؤكدون أنه في المسائل الفقهية هناك (6%) فقط من المسائل تُعتبر من الضروريات، أما الباقي فباب الاجتهاد فيها مفتوح، وتخضع للدراسة والبحث.
وأضاف: إن من الإشكاليات التي تُطرح على المدرسة السلفية هي المساحة الواسعة للثوابت حتى في المسائل الجزئية البسيطة، إضافةً لاتهامهم المخالف لها بالابتداع والشرك.
أشار الشيخ الصفار إلى حقيقة مهمة لا يُمكن إنكارها، وهي أن معظم الناس الآن متعلّمون، ولديهم القدرة للوصول للمعارف واكتسابها، بعكس ما كان عليه الناس في الماضي، حيث تشيع الأمية في أوساطهم. وأكد أن الفكر الديني نتيجة هذا التقدم الإنساني ينبغي أن لا يقتصر على مجموعة معينة، لأنه بالإمكان الاستفادة من الطاقات والتخصصات المتعددة. وأكد أن رفض توسيع دائرة النقاش في القضايا الدينية يُعد مظهرًا من مظاهر الإرهاب الفكري.
أشار الشيخ الصفار إلى أنه في بعض الأحيان يصل الأمر بين العلماء والمفكّرين حين يكون بينهم اختلاف في الرأي إلى تعبئة الجمهور ضدّ بعضهم بعضًا، فكلٌّ يجرّ النار إلى قرصه. وأدان سماحته بشدة هذه التصرفات، مؤكدًا أنها من أسوأ مظاهر الإرهاب الفكري، إضافةً لكونها تخالف تعاليم الدين.
وذكر سماحته نماذج من التراث الإسلامي السني والشيعي، يتّضح فيها معاناة العلماء الذين كان لهم آراء تُخالف الرأي السائد، فوُجّهت نحوهم سهام الاتهام، وجُيّش عليهم الجمهور، ذلك لأنهم كانوا يعيشون في مجتمع يسوده الإرهاب الفكري. ومن تلك النماذج:
الحافظ بن القيم الذي حُمِل على جمل، وطيف به بين الناس للتشهير به، لا لشيء سوى أنه كان يتبنى رأيًا فقهيًا مخالفًا للرأي السني السائد، حيث كان يرى بعدم وقوع الطلاق ثلاثًا في مجلس واحد، وهو الرأي الذي تتبناه مدرسة أهل البيت .
محمد بن جرير الطبري، الفقيه والمحدّث المعروف، دُفن ليلًا خوفًا من العامة، حيث اتهم بالتشيُع، ورُجمت داره بالحجارة.
الفيض المولى محسن الكاشاني، اتّهم في دينه؛ لأنه كان يتبنى آراءً تُخالف السائد في الفلسفة والفقه، إلا أن متهمه، وهو العالم محمد طاهر القمي اعتذر له عن اتهامه له، وجاء إلى منزله من قم إلى كاشان ماشيًا ووقف على بابه مناديًا: يا محسن قد أتاك المسيء.
السيد محسن الأميني الذي أعطى رأيًا حول بعض الجزئيات في الشعائر الحسينية، إلا أنه استهدف في شخصيته بإساءات كبيرة.
وأشار الشيخ الصفار أن الساحة العلمية إذا كانت في مستوى متقدّم فإنها تعتبر الخلافات الفكرية من دعائم التقدم العلمي، لا كما هو الواقع حيث الإرهاب الفكري يكتسح الساحة الإسلامية.
وأكد الشيخ الصفار على دعوته إلى أن تكون مواجهة الأفكار التي يُعتقد بخطئها عن طريق البحث العلمي وطرح الرأي الذي يُعتقد صوابه. ففي الحديث: (إذا ظهرت البدع وانتشرت الفتن فعلى العالم أن يُظهر علمه)، ولم يقل الحديث أن يظهر شتمه، مؤكدًا أن الدعوة في حدود المناقشة ودحض الحجة بالحجة، وليس عن طريق الشتم والتجريح، والتعدي على حقوق الآخرين، فذلك ما لا يقبله الدين بل ويُحرّمه.
والحمد للّه ربِّ العالمين.