قراءة إجمالية لمحاضرات الشيخ الصفار لموسم المحرم 1429هـ

الصفَّار بين قضيَّتين: مجتمع ووطن

ليس من الغريب تشبيهه بالبحر، الذي تراه بين مدٍّ وجزر، فهكذا كان خلال موسم المحرم 1429هـ، إطلالاتٌ فريدةٌ من نوعها، ومحاضراتٌ تُجسّد همّاً يعيشه صاحبها بكل معانيها، وروحٌ نذرت نفسها للعطاء، ليس للمحيط حولها فحسب، إنما للوطن أجمع، فيعيش في ذاته قول الله تعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا.

قضيّتان تشغل باله فتراه يعيش في إحداهما تارة، ومع الأخرى تارةً أخرى، وربما مزج بينهما بحديث بليغ. ولا يقتصر حديثه على مفردةٍ معينة، بل إنه يسعى لكي يشمل جميع المفردات التي تهم المجتمع والوطن، فيُمثّل بذلك القائد الذي تهمه كل صغيرةٍ وكبيرة في واقع محيطه ومجتمعه. فتجده يُشيد، ويُحذّر، وينتقد، ويدعو، ويُدين، ويؤكد، ويُناقش، ويتفاءل، والمراهنة في كل ما يطرحه على وعي المجتمع والوطن.

الشيخ الصفّار من القلائل الذين تجد فيهم هذا التنوّع في العطاء، وما يُميّزه فوق هذا التنوع أسلوبه الذي يمتاز بالرزانة والمراعاة لمشاعر الآخرين، فتجده وإن بدا ناقداً جريئاً إلا أنه ينتقي من الكلمات ذات الطابع الهادئ، وليست تحمل في مضمونها تجريحاً.

وليسمح لي القارئ العزيز أن أبحر معه في عدة وقفات مع محاضرات الشيخ الصفار:

أولاً- الدعوة للانفتاح

دعوة الشيخ الصفّار للانفتاح لا تقتصر بين التوجهات الفكرية المتعددة في المجتمع، وإنما تراه يُطلق العنان لانفتاح أوسع بين شرائح الوطن المتعددة ككل، ويؤكد دائماً على أن هذا النهج سيفتح آفاقاً لتقدم المجتمع والوطن على حدٍ سواء. ويعتقد البعض أن الشيخ الصفّار بدعوته للانفتاح الوطني يتنازل عن بعض المبادئ والمعتقدات، إلا أنه وبكل جرأة وصراحة يُعلن في أكثر من موقف، أن المعتقدات أمرٌ شخصي والانفتاح لا يعني التنازل والذوبان.

ثانياً- نقدٌ جريء

لقد بدا الشيخ الصفّار هذا العام ناقداً جريئاً في كثيرٍ من محاضراته، فقد وجّه الأنظار للعديد من المعتقدات والأفكار المعوّقة سواءً على المحيط الاجتماعي، أو الوطني. وعالج الموضوع بكل جرأة، وفي ذات الوقت بأدب الحديث والخطاب، وهذه سمةٌ يتفوّق بها الشيخ الصفار على الكثير من أقرانه في الساحة الاجتماعية. وفي خطابٍ مستقل دعا إلى النقد الذاتي سياسياً وثقافياً واجتماعياً، مؤكداً أن ذلك من صميم تعاليم الإسلام. ومن نماذج نقده الجريء:

• انتقاده للتعتيم والتجاهل لمدرسة أهل البيت ، وتسليطه الضوء على مظاهر من هذا التجاهل.

• انتقاده لظاهرة الصنمية التي تتمثل في إضفاء نوع من القداسة على أشخاص يُصبحون أصناماً تُعبد.

• انتقاده لحالة القلق المذهبي المتبادل بين السنة والشيعة.

• انتقاده للمدرسة السلفية لعدم انفتاحها على مدرسة أهل البيت ، وإصرارها على فرض رأي واحد يسود الوطن، وهو الرأي الذي تتبناه.

• انتقاده لبعض المعتقدات الخاطئة حول السحر والشعوذة، وسوء الفهم لسيرة النبي وأهل بيته الطاهرين، وبعض الممارسات التي اعتبرها تكبّل دور العقل في إدارة الحياة الاجتماعية، إلا أن المجتمع يعتبرها من المسلّمات.

• انتقاده لتباطؤ المجتمع الشيعي في أخذ موقعيته الوطنية.

• انتقاده لمجموعة من الأعراف والتقاليد التي تُعيق تقدّم المجتمع، في حين أن كثيراً منها يعتبرها المجتمع من الضروريات.

• انتقاده للإرهاب الفكري بكل مظاهره وأشكاله التي تُعاني منها المجتمعات الإسلامية.

ثالثاً- التحذير من أخطار واقعية أو محتملة

لا يخلو أي مجتمعٍ من وجود ممارسات تُنبئ بأخطار محتملة، إلا أن الفرق بين المجتمعات تكمن في كيفية مواجهة هذه الممارسات، والشيخ الصفّار وضع المجهر على كثير من الممارسات التي لها انعكاسات سلبية على المجتمع والوطن، وأدلى برأيه تجاهها. ومن نماذج ذلك:

• التحذير من ضعف دور العائلة في تربية الأبناء.

• التحذير من العنف الأسري وسوء التعامل مع العمالة المنزلية.

• التحذير من الآثار السلبية للتضخم الاقتصادي.

• التحذير من مظاهر الإرهاب الفكري، وإدانته لكل مظاهره وأشكاله.

رابعاً- الدعوة للتقدم

وسط هذه الانتقادات، والتحذيرات التي يُقدّمها الشيخ الصفّار لمجتمعه ووطنه، نجده حريصاً على تقدّم هذا المجتمع والوطن، فلم يقف في حدود النقد والتحذير، بل تجاوز ذلك إلى دعوته الصريحة للمجتمع لكي يتقدم ويبني مجده، بمختلف الوسائل والسبل، مقدّماً رأيه في الموضوع، ومن نماذج ذلك:

• دعوته للانفتاح على مدرسة أهل البيت وقراءة سيرتهم العطرة بوعي وبموضوعية.

• دعوته للأخذ بأخلاق الإمام علي في إدارة الاختلافات الاجتماعية والمذهبية.

• دعوته للنقد الذاتي سياسياً وثقافياً واجتماعياً، لكي لا يبقى المجتمع والوطن مقيداً بما ورثه من التراث.

• دعوته لدعم الحراك الثقافي في المجتمع، وتركيزه على دعم الإنتاج الثقافي المحلي.

• دعوته لتجاوز ظاهرة الصنمية بتأصيل مبدأ التعددية، وتعميق الوعي الاجتماعي.

• دعوته لتجاوز القلق المذهبي عبر الانفتاح والتواصل والخطاب المعتدل.

• دعوته للمجتمع الشيعي لأخذ موقعيته المناسبة على المستوى الوطني، من خلال تعزيز قوّة المجتمع، وتفعيل المشاركات الوطنية والانفتاح العام.

• دعوته للاهتمام بالشأن العام وتوسيع المشاركة فيه.

• دعوته لحسن التصرف في إدارة الشأن المعيشي لتجاوز آثار التضخم الاقتصادي.

• دعوته لفتح باب النقاش في القضايا الدينية، لتجاوز ظاهرة الإرهاب الفكري.

خامساً- الإشادة بمواقف العطاء

يقف الشيخ الصفّار موقف القيادة وهو يُشيد بمواقف العطاء في المجتمع، سواء على المستوى الثقافي والفكري، أو على مستوى العطاء المادي. إذ يجد نفسه معنياً بتقديم الشكر لكل جهدٍ يخدم المجتمع، ويتطلع لجهود تصب في خدمة الوطن بشكلٍ أوسع.

سادساً- تلمّس مناطق الضعف

بنظرة الأب الحاني على عياله، نرى الشيخ الصفّار يتألم لمناطق الضعف في المجتمع، فتراه يدعو للاهتمام بالشأن العام بمختلف أبعاده ووسائله، ويُشيد بالنتاج الاجتماعي والخيري، ويدعو لتوسيع المشاركة في هذا الجانب، ويُوجّه خطابه للمسؤولين للحد من القيود، مشيداً بأي استجابة على هذا الصعيد، كإشادته بنظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذي أقرّه مجلس الشورى مؤخراً في المملكة.

سابعاً- روح التفاؤل

بين كل التموّجات الاجتماعية والوطنية التي يطرحها الشيخ الصفّار، وما يعتريها من صعوبات واقعية أو محتملة، إلا أنه يعيش في قمّة التفاؤل، ولم يقف عند هذا الحد فحسب، بل نجده يُبشّر بتفاؤله، ويدعو إلى الوقوف مع بواعث الأمل، والحراك الثقافي والاجتماعي.

ثامناً- إصرارٌ وتحدي

يقف الشيخ الصفّار موقف المجاهد بروح التحدي، ليس على مستوى الآخر، وإنما على مستوى الذات، فتجده يستميت في طرح أفكاره وآرائه، ويسعى من أجل تحقيقها عملياً. وهو بذلك يُمثّل حجةً على أقرانه ممن يعتمدون جانب التنظير دون أن يكون هناك تحركٌ على مستوى الواقع الاجتماعي.

تاسعاً- المراهنة على وعي المجتمع والوطن

والمراهنة في كل ما يدعو إليه الشيخ الصفّار على الوعي الاجتماعي، ذلك لأن أي تقدّم لن يحصل إلا إذا كانت الساحة مهيأة لذلك التقدم، والوعي الاجتماعي أساس كل تقدم، على مختلف الأصعدة والميادين. ويتطلع الشيخ الصفّار إلى مستقبل مشرق للمجتمع والوطن بوعي يؤهله لذلك، فتراه يضرب الأمثلة بالمجتمعات المتقدمة بغية أن يتعرف المجتمع عليها من جهة، ويقتفي أثرها من جهةٍ أخرى.

إبداعٌ يفوق الوصف

وبين كل هذه الاهتمامات التي يوليها الشيخ الصفّار أهمية بالغة في نشاطه وتحركه الاجتماعي والوطني، تجده يذهب إلى أبعد من ذلك، ليحلّق في أفق الأمة، يتلمّس آلامها، ويضع يده على جروحها، فيُقدّم أطروحاته وآرائه في سبيل معالجة ما تشكو منه الأمة من ضعف. ونجده لا يكلّ ولا يهدأ من تأصيل موضوع وحدة الأمة، والتأكيد على مواصلة الطريق في هذا البعد المهم والحسّاس رغم كل العوائق الاجتماعية والوطنية والإسلامية. وفي هذا الموسم أكّد على أن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بالانفتاح على مدرسة أهل البيت مؤكداً على المكاسب العظيمة التي ستعود على الأمة إن هي انفتحت على مدرسة أهل البيت .

وأخيراً

بقي أن أشدّ على يدي سماحة الشيخ حسن الصفّار، معلناً له عن وافر التقدير والامتنان، على هذه الجهود الكبيرة التي يبذلها سماحته في سبيل خدمة المجتمع والوطن. وأنه بذلك يستحقّ وبكل جدارة وسام القيادة، فكما يقول الإمام علي : «المرء حيث يضع نفسه». وأقول له: نحن معك مجاهدون، والله تعالى نعم المولى ونعم النصير.