إنهم يثيرون الفتنة... ماذا فعلنا إذن؟

المتابع للمشهد الديني في العالم الإسلامي، يلحظ حجم تداول فكر الوحدة بين المسلمين، على مستوى علماء الدين والمؤسسة الدينية، وعلى مستوى المثقفين وأصحاب القلم، بما يوحي بالكثير من التفاؤل لامتداد هذا الاهتمام إلى الشارع، وتخفيض حدة النزاعات التي تندلع بين فترة وأخرى بسبب بعض الأحداث والوقائع السياسية أو الدينية.

ومسألة الوحدة هي قضية ذات تاريخ، وليست مسألة مخترعة أو مستحدثة، والكثير من المصلحين والأسماء البارزة في العالم الإسلامي ومن الفريقين كانت لهم إسهاماتهم النوعية في هذا المضمار.. ففي مطلع القرن العشرين جهر كل من السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية، وطلبا من الشيعة والسنّة أن يلتمسا نقاط الالتقاء لتجسير الفجوة بينهما، ويُعرضا ما أمكن عن نقاط الافتراق، والعفو عند موارد الخلاف، وتطبيق قاعدة «رد الإساءة بالإحسان على كل مثير أو طالب للفتنة».

واقترح الأفغاني علاجا للميول الطائفية عند بعض الجماعات والأفراد بما يمكن تسميته بقانون الأولويات، ويرى أن التفات المسلمين للعدو الحقيقي أولى من التشاغل بالصراعات الداخلية، والتي تنتهي إلى إضعاف جميع الأطراف بلا استثناء. ويمكن إرجاع أول حركة مؤسسية لمسألة الوحدة في العالم الإسلامي إلى مبادرة آية الله محمد تقي القمي في العام 1947م، حيث أسس مع شيخ الأزهر محمود شلتوت «دار التقريب»، وامتد صدى نشاطها إلى خارج القاهرة، وتفاعل معها عدد كبير من العلماء والمثقفين، نذكر منهم في الجانب الشيعي: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد صدر الدين الصدر، والشيخ محمد جواد مغنية، والسيد مسلم الحلي، وفي الجانب السني الدكتور محمد البهي، والأستاذ محمد فريد وجدي، والأستاذ عباس محمود العقاد، والشيخ حسن البنا، إضافة إلى عدد آخر لا مجال لذكرهم الآن.
 

إسهامات حديثة

واستمرت جهود الوحدة خالصة حتى التاريخ المعاصر، حيث قاد عدد من كبار العلماء والمثقفين ما هو أقرب إلى الحملة الفكرية والثقافية لترسيخ معاني الوحدة والتقريب بين المسلمين، وقطع أسباب الفرقة والتباعد والتنابذ، التي تطل بين فترة وأخرى، ويفرق آية الله محمد مهدي شمس الدين بين الانشقاق وبين التنوع داخل الأمة، فهو يعتبر أن ما هو حاصل بين الشيعة والسنة أقرب إلى القطيعة والانشقاق منه إلى التنوع، وهو يعترف بوجود خلافات بين الطرفين، لكنه ينبه إلى أن هذا الخلاف ينبغي أن لا يُفرق المسلمين كأمة واحدة، كما لا يفرق بين السنة اختلاف مذاهبهم الأربعة.

ويرى الشيخ محمد الغزالي أن الأولى بالمسلمين نبذ فرقتهم وتسوية صفوفهم وإسدال الستار على ماضيهم القريب والبعيد، فهو الذي حولهم من أمة واحدة إلى أجزاء مختلفة ومتباعدة. بينما ينظر مرشد الثورة الإسلامية آية الله علي الخامنئي للوحدة بكونها المفهوم الأساسي الذي يشكل واحدة من القواعد التي تقوم عليها فلسفة الإسلام الاجتماعية ونظرته إلى الكون والحياة.. فعقيدة التوحيد تعني وحدة مبدأ كل الظواهر الكونية، والشرك في العبودية تمزيق لعالم الخليقة ولكل جزء من أجزاء الوجود.

وفي المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية أحد ضفاف الخليج، حيث يقود مثقفوها وعلماؤها مشروعا وحدويا متجددا يستحق التقدير والثناء، يبرز نشاط العلامة حسن الصفار في التعبئة لترسيخ مفردات الحوار الإسلامي الإسلامي داخل منطقة الخليج، متجاوزا سنوات من الاحتقان المذهبي الذي تدعمه هيئات وجماعات وعلماء دين، لا يكادون يرون في أفق منطقة الخليج سوى لغة الطرد الديني والتوتر المذهبي، وكأنه فُرض على أبنائها أن يظلوا في حالة من التوجس بعضهم من بعض.

ويرى الصفار أن مهمة خطاب الوحدة والتقريب بين المذاهب هي تجاوز حالة القطيعة والصراعات المذهبية، حتى ينفتح المسلمون بعضهم على بعض، ولا يكون اختلاف المذهب عائقاً عن التواصل والتعاون، وحين تكون العلاقة بين أتباع المذاهب طبيعية، فإن تقارب الآراء السياسية والبرامج الاجتماعية والتوافق في المصالح سيكون هو المؤثر في تشكيل التحالفات والتجمعات بغض النظر عن الانتماء المذهبي.
 

النوايا الطيبة لا تكفي

 
لكن، على رغم كل هذه النوايا الطيبة، وهذا الجهد المشكور الذي يقوم به علماؤنا ومثقفونا، هل نستطيع أن ندعي أننا تجاوزنا الحالة المذهبية؟ وهل استطعنا استبدال إرث الكره الذي يحتوي كل قطعة من جسدنا للآخر بثقافة المحبة والمودة، على فطنة ودراية بأن المسلمين كالجسد الواحد، أو هكذا ينبغي أن يكونوا ؟ من المؤسف أن الصورة ليست بهذا الجمال الذي نتمناه، فرجال الفتنة لهم صوتهم العالي أيضا، في وقت أصبح للفرقة أبطالها ورموزها، وتعددت منابر الفتنة، وتحولت بعض منابر المساجد «جوامع المسلمين ودار وحدتهم» إلى منابر للتجييش الطائفي، وبعض علماء الدين إلى متكسبين بالإثارة الطائفية، وأصبح بيننا الكثير من المغمورين ممن يتاجرون بالطائفية باعتبارها “فرس الرهان” الذي يحقق لهم حضورا في الصحافة ووسائل الإعلام، أو يوفر لهم فرصا للمزيد من التكسب السياسي أو الديني، وتورطت مناهجنا الدراسية بلحن الفتنة الممجوج، ويمكن العودة إلى مادة التربية للصف العاشر، والنظر إلى صورة مقيتة من تلقين ثقافة تكفير جزء من المسلمين نظرا لاختلاف في بعض المسائل الفقهية، ومنا إلى السيدة وزيرة التربية.

وعلى رغم كل الجهود التي تبذل في إطار الوحدة الإسلامية، إلا أن الإثارة الطائفية تكاد تتحول إلى خبز يومي على موائد المتدينين، بل حتى على غير المتدينين، وهم كُثر، ممن يستهويهم النزاع المذهبي، بوصفه المادة السهلة التي يستطيعون الحديث عنها من دون سابق علم أو معرفة، وهي السلاح المزيف الذي يحمله كل طرف ضد نفسه وإخوته في العقيدة، موهما نفسا بأنه يحقق إنجازا على مستوى الأمة، وهو لا يعي أنه يُعمِل في صدرها قتلا وتجريحا وإنهاكا.

ودون أن يعي أن كل المنازعات التي جرت في الساحات الإسلامية لم تعد بالنفع على المسلمين في شيء، وبعد سنوات طويلة من الجدل المذهبي واستفراغ كل مفردات الاتهام المتبادل، لم يثبت أن أحد الطرفين استطاع أن يحقق إنجازا ملموسا على المستوى المذهبي، ولا يزال كل طرف على مذهبه وعقيدته ويقينياته، ولم تقع بين أيدينا معلومات عن تحولات مذهبية يمكن أن تسر خاطر المغرمين بهذا النوع من الجدل.

بل على العكس من ذلك، يمكن أن نسوق أمثلة عدة على حجم الخسائر التي لحقت بنا جراء هذه المنازعات، وفي مقدمة تلك الخسائر إثبات عجز المسلمين عن تطوير ذاتهم، وإخفاقهم عن التقدم إلى الأمام، وانشغالهم بالماضي عن تحقيق إنجاز يذكر للمستقبل. أما أفدح الخسائر وأبهظها تكلفة، فهي التشكيك بقدرة الإسلام على احتضان جميع أبنائه، والتهوين من قدرته على لملمة جموع المسلمين كأمة واحدة في قالب الأخوة، وأنه قادر على بذر قيم التسامح والمحبة في ضمائر معتنقيه.

ذا كانت الوحدة قضية ذات تاريخ، وإذا كنا نملك كل هذا الرصيد من علماء ودعاة وحدة، وإن كان لدينا هذا الكم من المثقفين والكتاب من محبي الوحدة وعشاقها، فلماذا نعيش كل هذا التشنج، ولماذا مازالت روح الفرقة وردود الأفعال تُسيطر علينا؟ إذن ماذا كنا نفعل طوال تلك السنوات؟!

كاتب كويتي