الشيخ الصفار يؤكد أن الخطاب الديني اليوم في مواجهة مع التحديات الداخلية
أكد الشيخ الصفار أن الخطاب الديني اليوم في مواجهة مع التحديات الداخلية، بعد أن تقلّص الخطر الخارجي، وزاد وعي الأمة بقيمها ومبادئها، مسلّطاً الضوء على ثلاثة جوانب من هذه التحديات: إنتاج ثقافة التنمية والبناء، العلاقة الإيجابية مع الآخر، وترشيد التوجّهات والممارسات الدينية. منتقداً الخطابات التي تتجاهل هذه التحديات، وتعمد إلى خطابات تُدغدغ عواطف الناس ومشاعرهم من أجل كسب الجمهور، محذراً من خطورة هذا التوجه خصوصاً في هذه المرحلة الحرجة.
وفي سياق آخر، تحدث الشيخ الصفار بخطابٍ وعظي أكد فيه أن النفس البشرية بطبيعتها تقع في الخطأ، إما بدافع الهوى والشهوة، أو بسبب الجهل والغفلة، مشيراً إلى أن الفطرة السليمة توجّه الإنسان إلى خطئه إلا أن الإنسان بتجاهله لذلك يستحكم الخطأ على قلبه، ويُصبح عملاً مرغوباً فيه. مشيراً إلى الجهات التي تعمل على تزيين الخطأ الإنسان كما تؤكدها آيات القرآن الحكيم، متمثلةً في طبيعة الإنسان، والشيطان، والشركاء، وقرناء السوء. وأكد أن الوعي هو السبيل الوحيد لمواجهة كل ذلك، فمستوى وعي الإنسان يؤهله لتجاوز هذه الجهات جميعاً.
أكد الشيخ الصفار في بداية خطبة الجمعة 29 ربيع الأول 1429هـ (4 أبريل 2008م) على أن أهم شيء يحتاج إليه الدعاة إلى الله من العلماء والخطباء والموجّهين هو أن تتوفر لديهم البصيرة بما يوجّهون الناس إليه، يقول تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وأوضح أن البصيرة مشتقة من البصر والإبصار، وهي تعني كما أن الإنسان في أموره الحياتية وفي حركته يحتاج إلى البصر ليهتدي في الطريق، فإنه في جوانبه المعنوية والتي تتضمن المجال الديني والاجتماعي والثقافي، يحتاج إلى البصيرة، مبيناً أنها تعني أمرين:
الأول: الاطمئنان والوضوح في الفكرة، فينبغي التأمل والبحث في الفكرة الرسالة المراد نقلها للناس، حتى تتضح كل جوانبها ليصل الداعي للاطمئنان بما ينقله للناس.
وأشار أن بعض الدعاة في الماضي، وقسم منهم لا يزال، يعتمدون على ما يتناقل من الأسلاف، دون الاجتهاد والبحث، مؤكداً أنه إذا كان الدعاة في الماضي معذورين بحكم عدم توفر المصادر، أما الآن فليس هناك عذر حيث التراكم الضخم للمعلومات، وحيث التقنيات الحديثة التي سهّلت سبل الحصول على المعارف والمعلومات.
الثاني: معرفة الواقع الخارجي الذي تتحرك فيه الدعوة، فليس كل كلام يُقال في أي وقتٍ وأي مكان. لذا ينبغي أن يكون هناك فرز للأولويات.
مضيفاً: إن لكل زمانٍ تحدٍ تعيشه الأمة، وعلى الدعاة مراعاة التحديات المعاشة وتوجيه خطاباتهم نحوها، مستشهداً بنماذج من التاريخ، حيث كانت الأمة في القرن التاسع عشر الميلادي تواجه تحدي التبشير التنصيري والشبهات المثارة من قبل المستشرقين، فكان الدعاة الرساليون يُوجّهون خطاباتهم بهذا الاتجاه. وفي بدايات القرن العشرين كانت الأمة تواجه التيارات المناوئة للإسلام من الشيوعية والاتجاه العلماني المعادي، وهنا أيضاً توجه الدعاة إلى مواجهة هذه التيارات.
وتساءل الشيخ الصفار، ما هي التحديات التي تواجهها الأمة اليوم، وينبغي تسليط الضوء عليها في الخطابات الدينية المختلفة؟ مؤكداً في إجابته أن الأمة قد تجاوزت بشكلٍ كبير التحديات الخارجية، وباتت تلك التحديات لا تُمثّل خطراً كبيراً على وعي الأمة بدينها ومبادئها وقيمها، وأمام الأمة اليوم تحدٍ كبير في داخلها.
وسلّط الشيخ الصفار الضوء على ثلاثة جوانب لهذا التحدي الذي تواجهه الأمة اليوم:
أولاً- إنتاج ثقافة التنمية والبناء، فقد برع الكثير من الدعاة في خطابات التحريض والتعبئة والمعارضة، وكلها خطابات مواجهة وصدام، لكن الأمة اليوم بحاجة إلى خطابات تدفع باتجاه البناء في مختلف جوانبه العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية.
ثانياً- العلاقة الإيجابية مع الآخر، فالأصل في العلاقات بين بني البشر أن تكون إيجابية، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً﴾، بينما سياسة المواجهة والصدام لها ظروف استثنائية، ولا ينبغي أن تكون هي الحالة العامة في العلاقة بين التوجهات المختلفة دينياً أو مذهبياً أو فكرياً. وأكد أننا نعيش في عصر تداخلت فيه المصالح بين الناس مما يستلزم أن يكون هناك تواصل وتبادل، وهذا لا يتم إلا إذا كانت العلاقة قائمة على أساس الاحترام المتبادل.
موجهاً نقده للخطباء الذين احترفوا صناعة الخطاب الصدامي، مؤكداً أن هذه الخطابات ليست صالحة لكل مكانٍ وزمان، مؤكداً أن عليهم إعادة النظر في خطاباتهم وأن لا يُوقعوا الأمة في مخاطر هذه التوجهات التي لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف المعاشة.
ثالثاً- ترشيد التوجّهات والممارسات الدينية، خصوصاً وأن الإقبال على الدين في تقدّم ملحوظ، ومعنويات الأوساط الدينية مرتفعة، فمن الضروري في هذه الأجواء أن تكون الخطابات أكثر وعياً وملامسةً للواقع. معرباً عن قلقه لما يقوم به البعض من الدعاة لاستغلال هذه الحالة الدينية المتقدمة بخطابات تُدغدغ العواطف والمشاعر لكسب الجمهور حولهم.
مضيفاً: وهناك أيضاً قوى خارجية يخدمها هذا التوجه لتحقيق مصالحها، مما يستلزم على الدعاة أخذ الحذر الشديد والنظر بوعي وببصيرة إلى ما تحتاجه الأمة في وقتها الحاضر.
ومثّل لذلك بمثال في تاريخ أئمة أهل البيت حيث امتنعوا من الخوض في مسألة خلق القرآن، ففي الرواية حدّث سليمان الجعفري، قلت: لأبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم : يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه من قبلنا، فقال قوم: إنه مخلوق، وقال قوم: إنه غير مخلوق، فقال : أما إني لا أقول في ذلك ما يقولون، ولكني أقول إنه كلام الله)). حتى جاء عهد الإمام الهادي فكتب إلى بعض شيعته ببغداد: ((نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطى السائل ما ليس له، ويتكلّف المجيب ما ليس له، وليس الخالق إلا الله عز وجل، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين)).
أكد الشيخ الصفار في الخطبة الثانية أن الإنسان معرضٌ للخطأ وارتكاب الذنب، وقد يكون ذلك بدافع الهوى والشهوة أو بسبب الجهل، مبيناً أن الفطرة السليمة والنقية للإنسان تنبهه في لحظات الوقوع في الخطر، إلا أن الإنسان بتجاهله لهذا التنبيه المرة والاثنتين والثلاث، يخفت هذا الصوت عنده، فيستحكم الخطأ على قلبه.
وأضاف: إن دين الله تعالى وقيمه واضحة، فالحلال بيّن والحرام بيّن، والله تعالى أرسل للإنسان حججاً بالغة، لكي يسلك من خلالها الطريق السليم، يقول تعالى: ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾، وإذا لم تصل هذه الحجة للإنسان فلن يُحاسبه الله تعالى، يقول تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.
وفي الحديث عن رسول الله أنه قال: قال نبي الله موسى لإبليس: أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه.
وتابع الشيخ الصفار إن الإنسان إذا استمر على الذنب قد يصل إلى مرحلة يكون فيها الذنب بالنسبة له أمرٌ حسن بل ومرغوبٌ فيه، فلا يتمكن من الرجوع عنه، إلا من رحم الله. يقول تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾، مشيراً أن الآية الكريمة تسند التزيين للمجهول، متسائلاً من الذي يُزيّن للإنسان عمله؟ وفي إجابته استعرض سماحته مجموعة من الآيات التي تُبين الجهة التي تُزيّن للإنسان سوء عمله، مركّزاً الحديث على أربع جهات:
أولاً- طبيعة الإنسان، حيث أن الإنسان بطبيعته يميل إلى العمل الذي يستمر عليه، فإذا انشدّ الإنسان إلى الذنب، وتعوّد عليه، واستحكم على نفسه، فإن طبيعته تُزيّن له هذا العمل، يقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾.
ثانياً- الشيطان، يقول تعالى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
ثالثاً- الشركاء، والمقصود بهم الأصنام، أو سدنة الأصنام الذين يُزينون للناس قتل أولادهم تقرباً منهم للأصنام التي تُعبد من دون الله، يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾.
رابعاً: قرناء السوء، يقول تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾. موجهاً نقده للتصرفات السلبية (كالتفحيط) التي يُمارسها مجاميع من الشباب، مؤكداً أن من أبرز ما يُحفّزهم على الاستمرار هو تشجيع الناس لهم، مما يجعل ذلك العمل المشين مرغوباً في أنفسهم بل في مستوى الرضا والقبول في أنفسهم.
وأكد الشيخ الصفّار في ختام الخطبة أن الوعي هو السبيل الوحيد لمواجهة كل ذلك، فمستوى وعي الإنسان يؤهله لتجاوز هذه الجهات جميعاً، يقول تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾. ومن مظاهر الوعي النقد الذاتي بأن يُحاسب الإنسان نفسه حتى لا يقع في وحل الخطايا والذنوب، وإن عرض له عارض، فلا يستغرق في ذلك الوحل.
والحمد لله رب العالمين