الشيخ الصفار في مجلس الشيخ حسين الخليفة: الاعتداء على الآخر المختلف بعيد عن روح الإسلام، وأخلاقه
دعا سماحة الشيخ حسن الصفار إلى الوقوف عند أهم صفة من صفات النبي وهي :﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ وأن نقرأ هذه الصفة قراءة واعية، وأن نسقطها على واقعنا وعلى تعاملنا مع بعضنا ومع الآخرين.
كان ذلك في الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ الصفار في الحفل المقام بمناسبة ذكرى مولد النبي في مجلس الشيخ حسين الخليفة بالدمام وذلك يوم الخميس ليلة الجمعة 19/3/1429هـ.
جاء في كلمة سماحته: أن الله سبحانه وتعالى تحدث في القرآن الكريم عن صفة هي واحدة من أهم صفات النبي : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وإن كان له صفات كثيرة، بل إن صفاته كلها هي الفضل والخير، لكن يبدوا للمتأمل أن لهذه الصفة خصوصية متميزة مما دعى الله سبحانه لإبرازها في كتابه الكريم، وجعْلها عنوانا لشخصيته .
وأضاف سماحته: إن الله لم يصف رسوله بالعلم، ولا بالشجاعة، والقوة ولا أي صفة من الصفات التي هي متحققة فيه بأعلى درجاتها، بل ذكر هذه الصفة، وهذا يدل على صدارة وأهمية هذه الصفة على بقية الصفات، قال تعالى:﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وذلك لأن الإنسان إذا امتلك مختلف صفات الفضل، لكنه افتقد الأخلاق فلا قيمة لكل صفاته، لو كان أعلم العلماء، وأشجع الشجعان، وأثرى الأثرياء، وأجمل الموجودين، ولو كان يمتلك أي صفة تمر بالذهن لكنه لا يمتلك مكارم الأخلاق فإن كل صفاته تلك لا قيمة لها عند الله وعند الناس.
وتساءل سماحته: ماذا تصنع بأعلم العلماء إذا كان يسيء لك؟ ولا يحترمك، أو يسيء التعامل معك ويتعالى عليك، أو يصب جام غضبه عليك لأقل القليل؟ ماذا تفعل مع أشجع الشجعان إذا كان معتد، ظالمٍ لا يراعي حقوق الآخرين؟ وهكذا يجري الكلام في باقي الصفات، ولهذا ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كلمة حكيمة ما أروعها من كلمه وكل كلامه رائع وحكيم، قال : (رب عزيز أذله خلقه، وذليل أعزه خلقه) وهذا يعني: رب شخص يفترض فيه أن يكون عزيزا فهو يمتلك المقومات التي تجعله عزيزا، لكن عندما تخذله أخلاقه فإنه يصبح ذليلا، والآخر الذي لا يمتلك مقومات العزة والمكانة، لكنه بتسامي أخلاقه وعظمتها تكون له عزة ومكانة.
وقال سماحته: إن الأخلاق لها أولوية وهي في الصدارة بالنسبة لباقي الصفات والممتلكات التي يمكن أن يتحلى بها الإنسان، من هنا نفهم جيدا معنى قول رسول الله : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، ومرة سأل أصحابه: أتدرون أيكم أقرب مني موقفا يوم القيامة؟ قال : أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا.
ثم تحدث سماحة الشيخ الصفار عن النبي كقدوة وكقيمة عليا في مكارم الأخلاق كما وصفه الله سبحانه:﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، مخصصا حديثه عن تعامل الرسول مع المخالفين له والمختلفين معه، معللا ذلك بأن: الفخر أن تحسن التعامل مع المخالفين لك، أما الموافقون لك والمتفقون معك فإنك غالبا وبشكل طبيعي تنساق للتعامل الحسن معهم، ولا فخر في ذلك، وإنما الفخر في كيف تتعامل مع المختلف معك، فهذا هو المقياس والامتحان، وهنا يتضح هل الأخلاق التي عندك هي سجية طبيعية دائمة أم هي مستعارة؟
وأضاف سماحته: السؤال المهم: كيف تتعامل مع المختلف معك، سواء المختلف معك في الدين أو المذهب أو التيار أو المصلحة؟ هل تفشل في هذا الامتحان كما الكثير من الناس وللأسف الشديد.
ثم دعا الشيخ الصفار المؤمنين ليقتدوا بسيرة رسول الله الذي يقدم للبشرية كافة وليس للمسلين فقط فهو المثل الأعلى، والقدوة الحسنة على هذا الصعيد، فقد حاربه بعض قومه وناوئوه وآذوه، لكنه كان ملتزما معهم بأعلى درجات الأخلاق وحسن المعاملة، كان لرسول الله يهودي يؤذيه، ويضع القاذورات أمام داره، وظل يفعل هذا كثيرا، ورسول الله يتحمل أذاه، ولكن هذا اليهودي توقف عن فعل هذه الأشياء لأيام، فسأل عنه الرسول أصحابه: ما لجارنا؟ فاخبروه انه مريض، فذهب الرسول ليزوره في بيته. إن لنا في رسول الله أسوة حسنة وهذا التصرف مصداق لقوله تعالى:﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.. فجاره لم يكن مسلماً.. بل كان مخالفا وبالإضافة إلى ذلك كان يؤذيه.. ومع ذلك لم يرد الرسول على الإساءة إلا بالإحسان..
هذه هي أخلاق الإسلام، رسول الله لم يرض من أحد أصحابه أن يقول كلمة فيها فحش على إنسان كافر ففي الرواية الواردة في السيرة النبوية، أن النبي سخط على أحد أصحابه المجاهدين لأنه تلفظ بكلام جارح لأحد المشركين رداً على استهزائه برسول الله. وذلك في الطريق إلى بدر أولى معارك الإسلام الفاصلة، لقي المسلمون رجلاً من الأعراب، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله ، قال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم، فسلّم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فاخبرني عما في بطن ناقتي هذه.
قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله، وأقبل عليّ فانا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة، فقال رسول الله:« مه، أفحشت على الرجل، ثم أعرض عن سلمة».
ثم انتقل سماحة الشيخ الصفار للحديث عن المخالفين من داخل المجتمع، قال: من المعلوم أن المجتمع الإسلامي كان فيه من يخالف رسول الله ، ومن أطلق عليهم القرآن مصطلح (المنافقين) وهم الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام وفي أعماق نفوسهم غير معتقدين به ولا مخلصين له، هؤلاء كانوا يربكون حركة الرسالة وكانوا يؤذون رسول الله بشكل متكرر، بل حاولوا اغتياله واتهموه في نزاهته، «جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: أتى رجل رسول الله بالجعرانة، منصرفه من حنين. وفي ثوب بلال فضة. ورسول الله يقبض منها، يعطي الناس. فقال يا محمد اعدل!! قال : ((ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن اعدلُ)).
فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق.
فقال: ((معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي..)).»
وجاء عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله ، من اليمن، بذهبة في أديم مقروظ. فقسمها بين أربعة نفر، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. قال: فبلغ ذلك النبي فقال: ((ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً)) قال: فقام رجل غائر العينين. مشرف الوجنتين. ناشز الجبهة. كث اللحية. محلوق الرأس. مشمر الإزار. فقال: يا رسول الله اتق الله. فقال ((ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله)) قال: ثم ولى الرجل. فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال : ((لا. لعله أن يكون يصلي)). قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله : ((إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس. ولا أشق بطونهم)).»
وجاء في السيرة النبوية أن رسول الله قال لأصحابه قبل غزوة بدر: إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا ـ مع المشركين ـ كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبدالمطلب، عم رسول الله فلا يقتله، فإنه إنما أُخرج مستكرهاً.
فقال أبو حذيفة بن عتبة وهو من المسلمين المهاجرين، لما بلغه قول رسول الله ذلك: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا، ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنَّه السيف!!
قال: فبلغت رسول الله ، فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص أيُضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟
فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه ـ أي أبا حذيفة ـ بالسيف، فوالله لقد نافق.[4] فرفض رسول الله ذلك، ولم يسمح بأن يمسّ أبوحذيفة بأي أذى.
وجاء في سنن الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال: أُتي رسول الله بمال فقسمه فانتهيت إلى رجلين جالسين وهما يقولان: والله ما أراد محمد بقسمته التي قسمها وجه الله ولا الدار الآخرة، فتثبت حين سمعتهما فأتيت رسول الله وأخبرته، فاحمر وجهه وقال: دعني عنك فقد أُوذي موسى بأكثر من هذا فصبر.
رغم ذلك فإنه لم يتخذ أي إجراء عقابي ضد أحد منهم، إذ لم يسجن أو يجلد أو يعاقب أحدا منهم، بل وأوصى حذيفة بن اليمان ألا يكشف أسماء المنافقين الذين أرادوا اغتياله بعد أن أخبره بأسمائهم يوم العقبة.
وأضاف سماحته: ولم يتخذ أي إجراء لإسقاطهم ومحاصرتهم اجتماعيا، حيث لم يمنعهم من دخول المسجد أو الدخول عليه في مجلسه، ولم يمنعهم العطاء من بيت المال، ولم يمنعهم من الخروج معه في المعارك والغزوات.
وأكد سماحة الشيخ الصفار: أنه كان يحسن إلى هؤلاء المخالفين، والقصة المشهورة عن رأس المنافقين عبد اللّه بن أُبي، تقول الرواية: لما بلغ أبنه ما كان من أمر أبيه أتى رسول فقال: يا رسول اللّه إنه بلغني أنك تريد قتل عبد اللّه بن أُبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فواللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني أنظر إلى قاتل عبد اللّه بن أُبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا)، بهذه الأخلاق الرفيعة، والسيرة الطيبة نال رسول الله هذا الوسام الرباني ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
وللاستفادة من سيرة رسول الله في الواقع المعاصر تطرق سماحة الشيخ الصفار إلى موضوع تعامل بعض المسلمين اليوم مع المختلف معهم، والمخالف لهم، وكيف أنه بعيد كل البعد عن منهج الإسلام وسيرة الرسول ، بل وأظهرت الإسلام بأنه دموي عنفي، وهذا واضح في التعامل مع غير المسلمين ومع المسلمين المختلفين في المذهب فهو بعيد عن روح الإسلام، وأخلاقه، وفيه مخالفة واضحة لمنطق العقل وحقوق الإنسان، وتكون الإساءات المتبادلة بين الأطراف.
وتساءل سماحته عن التوجهات والتيارات الموجودة داخل كل مذهب، والتي قد تختلف الآراء فيه، وقد تتباين الاجتهادات، كيف يتعامل الناس فيما بينهم إذا اختلفت مدارسهم، واجتهاداتهم ومرجعياتهم؟
فقال: للأسف الشديد في بعض الأحيان تنتهك الحقوق، والحرمات، كل ذلك بسبب اختلاف في الرأي، فالبعض يجيز لنفسه لمجرد الاختلاف في الرأي أن يتعدى على العالم الآخر ويسقط شخصيته، ويتهمه بالضلال والبدعة، وكأن الذي يحدث ليس رأيا مقابل رأي، وأن المطلوب في هذا المقام هو الرد العلمي، والمناقشة الجادة المحترمة.
للأسف الشديد البعض اليوم يتهم الآخر بأن آرائه بدع، فهل يملك أي أحد القطع بأنه رأيه هو الحق المحض؟ وأن رأي الآخر ضلال وبدعة؟ كيف تقطع بهذا والأمر لا يتعدى كونه آراء ظنية اجتهادية؟
وإذا قبلنا أن الاختلاف في الرأي مصداقا للابتداع، فهذا يعني أن نقبل ممن يخالفونا في المذهب إذا اتهمونا بأننا مبتدعة، هذا لا يجوز فأنت عالم وهو عالم، وأنت لك رأي وهو له رأيه، وعلى فرض أنك أصبت وأن رأيه بدعة، فما هو الموقف الشرعي من ذلك؟
رسول الله يشرح لنا ذلك وينير لنا الطريق، يقول : إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه) هذا يعني أن على العالم أن يعطي رأيه ويوضح أدلته وبراهينه، وليس على العالم أن يظهر شتمه، ويسقط الآخرين، فهذا خلاف لأمر الله وأمر رسول الله .
وختم الشيخ الصفار كلمته بالدعوة للوقوف عند أهم صفة من صفات النبي وهي ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ وأن نقرأ هذه الصفة قراءة واعية، وأن نسقطها على واقعنا وعلى تعاملنا مع بعضنا ومع الآخرين، فهذا هو الاحتفال الصحيح وليس المظاهر، فالمظاهر وإن كانت مطلوبة إلا أننا مطالبون بالعمل بالجوهر، فالاحتفاء الصحيح برسول الله لا يكون إلا بالاقتداء به وبسيرته العطرة.