الشيخ الصفار يؤكد حاجة المؤسسة الدينية لنظام يحكم سلوكيات المنتمين إليها
أكد سماحة الشيخ حسن موسى الصفّار حاجة المؤسسة الدينية لنظام يحكم سلوكيات المنتمين إليها، مشيراً إلى أن احتمالية صدور الخطأ من طلبة العلوم الدينية أمرٌ وارد، فهم بشر لا يخرجون عن طبيعتهم البشرية، وكونهم من الفئة الدينية لا يعني عصمتهم. وأكد أن المجتمع يتحمل مسؤولية النصيحة والنقد البناء، فالثقة والاحترام لهذه الفئة أمرٌ مطلوب، إلا أنه لا يصح أن تصل لمستوى القداسة والثقة العمياء. ودعا إلى أهمية وجود مؤتمر سنوي أو اجتماع دوري يجمع طلبة العلوم الدينية بالمراجع والعلماء الكبار، لتعهدّهم بالتوجيه التربوي والأخلاقي، فالدور المطلوب منهم يستلزم شخصية تمتلك الوعي والإرادة القوية تجاه المغريات والأهواء الشخصية. مؤكداً أن كل طالب علم إنما هو جندي للدفاع عن القيم والأخلاق والمبادئ، والاعتصام من الوقوع في الانحراف إنما يتحقق بالخشية من الله تعالى وتقواه.
وفي إطار آخر، وجّه الشيخ الصفّار جموع المصلّين بخطابٍ وعظي إلى التفكّر في نعم الله تعالى، فهو المنعم والمتفضل علينا بفضله وعطائه، وهو أحق بأن تتجه القلوب لمحبته. مؤكداً أن حب الله تعالى إنما يتحقق بطاعته والتزام نهجه، وإلا فإن طريق الانحراف يُوجب الشقاء وغضب الله تعالى.
أشار الشيخ الصفار في بداية خطبة الجمعة 12 ربيع الثاني 1429هـ (18 أبريل 2008م) إلى أن أي مجتمعٍ من المجتمعات المتدينة والمجتمعات التي لها قانون اجتماعي، لا بد من وجود فئتان إحداهما تتخصص لرعاية الشؤون القانونية ويُفترض فيها أن تكون أكثر التزاماً بالقوانين، وأما الفئة الثانية فهي التي تعني بالشؤون الدينية وتُبشّر بالقيم والمبادئ السامية، ويُطلق عليهم في المجتمعات الإسلامية (علماء الدين) وفي المجتمعات المسيحية يُطلق عليهم (رهبان) ذلك لأنهم امتهنوا الرهبة والزهد في الدنيا بعيداً عن كل ملذاتها، وأما في المجتمعات اليهودية كان يطلق عليهم (أحبار).
وأضاف: يُفترض في الفئة الدينية أن تكون أكثر التزاماً بالدين، يقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ مشيراً إلى قول الإمام الصادق في تفسير هذه الآية، إذ يقول : ((يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله، ومن لم يُصدّق قوله فعله فليس بعالم))، مبيناً أن هؤلاء بشر، ولم يخرجوا عن طبيعتهم البشرية المعرّضة للاستجابة لدعوى الهوى والشهوات والغرائز، إلا من عصمهم الله تعالى، فالعلوم الدينية تُعطي الاستعداد للالتزام بالدين، إلا أن ذلك ليس حتمياً، ولذا نجد بكل وضوح وجود بعض الانحرافات في بعض عناصر هذه الفئة في مختلف الديانات، وقد حدّث القرآن الكريم عن ذلك بكل جلاء، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾، مشيراً إلى أن بعض عناصر الفئة الدينية من مختلف الديانات يستغلون الثقة التي أولاها الناس إياهم بحكم مكانتهم الدينية، فيُسيئون استخدام هذه الثقة لتحقيق بعض مصالحهم الشخصية والتي تُنافي التعاليم الدينية.
وحول زيارة البابا (رأس الكنيسة الكاثوليكية) للولايات المتحدة الأمريكية والتي يؤمن بها هناك حوالي (70) مليون إنسان، أشار سماحته إلى المظاهرات التي خرجت ضد القساوسة اعتراضاً على المساوئ الأخلاقية التي صدرت من بعض القساوسة، إذ تورّط ما يقرب من (5000) قسيس في اعتداءات جنسية على حوالي (12) ألف طفل ومراهق، وكلّفت الكنيسة (2 بليون) دولار للتعويضات ومواجهة القضايا المرفوعة ضد الكنيسة.
وأضاف: وقد تشكّلت عدة منظمات لمواجهة انحرافات الكنيسة ومن أبرزها: (شبكة الناجين من انتهاكات الكنيسة). مشيراً أن هذه الانحرافات ليست ببعيدة حيث أن القساوسة بشر، وهم بحكم ديانتهم يُحكم عليهم بالرهبنة وعدم ممارسة الجنس المشروع (الزواج)، وبطبيعتهم البشرية فإن هذه الغريزة من شأنها أن تدفع باتجاه مثل هذه الممارسات، وفي المقابل فإن العوائل الأمريكية التي تُريد أن تُربي ابناءها على الدين تبعث بأبنائها للكنسية ثقةً منها بالقسيسين، فاجتماع الثقة من جهة، وثورة الغريزة من جهة دفع باتجاه هذه الممارسات الخاطئة والمنحرفة.
وتعليقاً على ذلك يقول الشيخ الصفار: في كثيرٍ من الأحيان يستقبل أتباع كل دين أو مذهب الممارسات الخاطئة لدى بعض العناصر الدينية في الديانات والمذاهب الأخرى بشماتة مبرئين ساحتهم الدينية، في حين أن القرآن الكريم يهدف من خلال طرح مثل هذا الأمر لأبعد من ذلك، فمن جهة فيها بيان لسبب ابتعاد أتباع الديانات الأخرى عن الإسلام، حيث أن الأحبار والرهبان يُمثلون ثقلاً كبيراً في ذلك، ومن جهةٍ ثانية فيها دعوة صريحة للمسلمين من عدم تسلل مثل هذه الانحرافات للواقع الإسلامي.
وأكد الشيخ الصفار أن الواقع يحكي ذلك، فهناك بعض الممارسات غير السليمة تصدر من بعض المحسوبين على الفئة الدينية، من مختلف الديانات والمذاهب، وقد تصل بعض تلك الممارسات للرأي العام، فقد تداولت الأخبار في المملكة أن أربعة من كتاب العدل في جدة ضُبطوا لتلاعبهم في إصدار صكوك لأراضي، ووُجد في حساب أحدهم (250) مليون ريال فقط.
وفي إيران ضُبط قائد شرطة طهران المسؤول عن مكافحة الرذيلة متلبساً مع ست فتيات عاريات خلال مداهمة بيت سري للدعارة.
وأكد الشيخ الصفار أن الدين الإسلامي دين واقعي وليس مثالياً، مشيراً إلى أن التعاطي مع هذا الأمر الخطير والحساس يندرج في عدة أمور:
أولاً- الأصل في التعاطي مع الفئة الدينية ومع أي إنسان لا بد أن يكون مبنياً على الثقة وحسن الظن فالشك غير صحيح، حتى يتبين العكس، وحصول الخطأ من جهة لا يعني تعميم ذلك على الجميع، وهذا الدرس نأخذه من القرآن الكريم، فحين الحديث عن الفئة الدينية من الرهبان والأحبار فإن الله تعالى لا يُعمم الانحراف على الجميع، رغم سلوكهم غير طريق الحق وهو الإسلام، يقول تعالى: ﴿إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾.
ثانياً- المنتمين للفئة الدينية بشر، ودراستهم للعلوم الدينية لا تعني عصمتهم، ولذا ينبغي معاهدتهم بالتربية الأخلاقية، وتأكيد هذا البعد في شخصيتهم.
وهنا أشار الشيخ الصفار إلى كتاب (الجهاد الأكبر: جهاد النفس) للإمام الخميني وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات الأخلاقية التي كان يُلقيها على طلبة العلوم الدينية، وتطرق إلى الدرس الأخلاقي الذي كان يُواظب عليه أسبوعياً الإمام الشيرازي الراحل متعهداً بذلك طلبة العلوم الدينية، وموجهاً إياهم أخلاقياً وروحياً. وأيضاً المرجع السيد السبزواري حيث كان يُضمّن درسه الفقهي الوعظ والإرشاد لطلبة العلوم الدينية ممن يحضرون درسه. هذه نماذج وهناك مراجع وعلماء يعتمدون نفس المنهج.
وأكد على أن المؤسسة الدينية تفتقر إلى وجود نظام يتعهد طلبة العلوم الدينية بالجانب الأخلاقي والتربوي، داعياً إلى ضرورة وجود مؤتمرٍ سنوي أو اجتماع دوري يلتقي به المراجع أو العلماء الكبار بطلبة العلوم الدينية لتوجيههم أخلاقياً وتربوياً وتعزز هذا الجانب في نفوسهم، فهم بشر ويحتاجون إلى هذا التوجيه بشكل مستمر. فالمسؤولية التي على عاتقهم تحتاج إلى ذلك.
ثالثاً- على الناس أن يفتحوا أعينهم، فالثقة مطلوبة، إلا أنها ينبغي أن لا تصل إلى مستوى التقديس، والتقويم الموضوعي ضروري جداً، فقد يتسلل إلى الفئة الدينية من لا يكون صالحاً، أو قد ينحرف من ينتمي للفئة الدينية بعد أن كان صالحاً، والله تعالى يضرب في القرآن مثلاً صريحاً، يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾.
رابعاً- ينبغي فتح مجال النقد البناء، إذ المجتمع أمام محذورين: فمن جهة الحفاظ على سمعة االفئة الدينية غاية مهمة، وفي ذات الوقت التستر على الأخطاء التي تصدر من بعض المنتمين لهذه الفئة أمرٌ خاطئ، لذا فإن التوازن بين الأمرين ضروري، ويتحقق ذلك بفتح باب النقد البناء، فليس هناك أحدٌ فوق النقد إلا المعصوم، ومع ذلك فإن سيرة رسول الله والأئمة حافلة بالأحداث التي تُبرز إتاحة المعصوم الفرصة للناس للنقد، ويتعامل معها براحبة صدر، ويُوضّح ما لبس على الناس من الأمر.
واختتم الشيخ الصفار الخطبة بالتأكيد على أن كل طالب علم إنما هو جندي للدفاع عن القيم والأخلاق والمبادئ، وحاجة المجتمع لهذه الفئة مقرونة بالوعي والنصيحة لهذه الفئة، مؤكداً أن الإنسان في أي موقعٍ كان عليه أن يعرف أنه معرّض للخطأ، يقول تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾، والاعتصام إنما يتحقق بخشية الله تعالى والتقوى.
تحدث الشيخ الصفار بخطاب وعظي عن أهمية تعميق حب الله تعالى في القلوب، وأنه تعالى المستحق الأول للحب، ولا أحد سواه.
مشيراً أن هناك حالة في نفس الإنسان وقلبه يُطلق عليها الحب، فقد يُحب الإنسان شخصاً ما، فينجذب إليه، ويميل إليه بكل مشاعره وعواطفه.
فقد يُحب الأب أولاده، كذلك الأم، وقد يُحب الزوج زوجته، وكذلك الزوجة.
وهناك عالم اسمه العشق والهيام، وفيه من القصص الإنسانية الكثير، فقد يضحي الإنسان بكل شيء من أجل الحب والعشق. وقد يكون ذلك الحب في إطار مشروع، وقد يكون على العكس من ذلك.
وأشار أن الحب قد يكون لأمر آخر، فقد يُحب الإنسان بعض الأشياء، فيغرق في حب بعض الأشياء، بل قد يُدمن عليها، كأن يقع الإنسان في فخ المخدرات، والعياذ بالله. فيتصور مخطئاً أن لا حياة بدونها.
وتابع الشيخ الصفار حديثه بتوجيه جموع المصلين إلى التفكّر في نعم الله تعالى، فهو المنعم والمتفضل علينا بفضله وعطائه، وهو أحق بأن تتجه القلوب لمحبته.
وأكد أن الإنسان إنما يتجه بقلبه لجهةٍ ما، إنما بسبب بعض صفات الجمال والكمال، أو لقيام تلك الجهة بتقديم الإحسان، فحينها ينجذب القلب تلقائياً، فقد جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها، في حين أن الله تعالى قد أسبغ على الإنسان نعمه ظاهرةً وباطنة، فهو الذي أوجده من العدم، ورعاه في حياته، وأغذق عليه من فيض إحسانه وكريم آلائه، وبعد ذلك فإن ليس للإنسان بعد مماته واستغناء الجميع عنه سوى الله تعالى، فمن هو الأحق إذن بان يملك قلب الإنسان سوى الله تعالى.
وأضاف: لقد وفق الله تعالى ذوي القلوب الصافية والنقية إلى إدراك عظمته فشغلوا قلوبهم بحب الله تعالى، مؤكداً على دور الأدعية الشريفة المروية عن أهل بيت الرحمة (عليهم السلام) فهي تفيض بالحب لله تعالى، فقد روي عن رسول الله هذا الدعاء: ((اللهم إني أسألك حبك، وحب من يُحبك، والعمل الذي يُبلّغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد))، وفي دعاء كميل يقول الإمام علي : ((إلهي وربي وسيدي ومولاي لأي الأمور إليك أشكوا، ولما منها أضج وابكي، لأليم العذاب وشدته، أم لطول البلاء ومدته، فلئن سيّرتني للعقوبات مع أعدائك وجمعت بيني وبين أهل بلائك، وفرّقت بيني وبين أحبائك وأوليائك، فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك، أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك)).
واختتم الشيخ الصفار الخطبة بالتأكيد على أهمية سلوك طريق الطاعة ونهج الاستقامة، فهو السبيل إلى حب الله تعالى، وإلا فإن طريق المعصية والانحراف مما يُوجب غضب الله تعالى وسخطه.
والحمد لله رب العالمين