الشيخ الصفار يتحدث حول شخصية الإنسان بين الاستقلالية والذوبان
أكد سماحة الشيخ حسن الصفار أن الإسلام يحفظ للإنسان استقلاليته في قراراته ومختلف شؤون حياته، وذلك من خلال عدة أمور: غرس روح المسؤولية في الإنسان عن أعماله وتصرفاته، الإقرار التشريعي بحرية واستقلالية الإنسان في جميع شؤونه وأموره الفكرية والعملية، تحصين الإنسان من الخضوع للتأثيرات السلبية، والاهتمام بالشأن الاجتماعي والتفاعل الإيجابي مع المحيط. مستنكراً على أؤلائك الذين يقبلون العيش بشخصيات مسحوقة، وكذلك المجتمعات والبيئات التي تسحق شخصيات أبنائها في مختلف المجالات: السياسية والدينية والعائلية والاجتماعية. مؤكداً أن هذه الحالة تتنافى مع التعاليم الإسلامية التي تُربي الإنسان على قوّة الشخصية وبناء الذات لكي يُطلق الإنسان العنان لابداعاته فيُحقق وجوده في الحياة من خلال إنجازاته وعطائه. ودعا للرجوع إلى آيات القرآن الكريم وقراءتها بوعيٍ وتأمل، فهي تزرع في الإنسان قوّة الشخصية، وتبني منه إنساناً فاعلاً له أثره في الحياة.
وفي سياقٍ آخر أكد أن الأزمات التي تعيشها المجتمعات إنما هي نتيجة لذنوب يُمارسها المجتمع، مشيراً إلى أن المجتمعات بحسب وعيها تختلف في أسلوب مواجهتها وتعاملها مع هذه الأزمات، فالمتقدمة منها تواجه هذه الأزمات بمراجعة الواقع والسعي باتجاه تغييره، أما المتخلفة منها فتسترسل فيه رغم أنها تتذمر منه وتسنكره. مشجّعاً على ضرورة أن يكون في المجتمع مراكز دراسات وأبحاث من أجل رصد الظواهر السلبية لتحليلها ومعالجتها.
وأوضح أن الإسلام إنما يؤكد على الاستغفار من أجل دفع هذه الأزمات، والمطلوب أن يكون الاستغفار كاشفاً عن توجّه نفسي ونيّة صادقة، وإلا فإن مجرد التلفّظ بالاستغفار لا يُحقق الهدف منه.
الحمد لله لبس العزّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحراماً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق بقدرته، وأظهر لعباده آثار عظمته، وأسبغ عليهم ضافي نعمته، وشملهم بواسع رحمته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه نذيراً للعالمين، ومهيمناً على المرسلين. صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين الهادين المهديين.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله في سرائر أموركم، وخفيات أعمالكم، حيث لا شهيد غيره، ولا وكيل دونه، جعلنا الله وإياكم ممن اتقاه فأطاعه، ووثق به تعالى فتوكّل عليه.
أشار الشيخ الصفار في بداية خطبة الجمعة 21 شعبان 1429هـ (22 أغسطس 2008م) أن الإنسان في علاقته مع محيطه قد يقع في حالة إفراط أو تفريط، فقد يعيش حالة من الأنانية، أو العزلة، أو التعالي، وقد يعيش حالة من الذوبان والإنسحاق بحيث يفقد شخصيته، وتضمر إبداعاته.
مضيفاً: إن كلا الحالتين خطأ، مؤكداً أن الصحيح هو أن يعيش الإنسان التوازن والاستقامة، بأن يتفاعل مع محيطه، وفي ذات الوقت يحفظ شخصيته المستقلة في الإطار الصحيح.
وأوضح أن الإسلام يؤكد على الإنسان أن يُمارس دوره الاجتماعي مع حفظ استقلاليته الشخصية، مشيراً إلى عدة أمور يتضح من خلالها هذا التأكيد الإسلامي:
الأمر الأول: غرس روح المسؤولية في الإنسان عن أعماله وتصرفاته، فهو المسؤول الأول عن قراراته، وبالتالي هو الذي سيجني نتيجة تلك القرارات والتصرفات في الجانب الإيجابي أم السلبي، وهذا ما تؤكده آيات القرآن الكريم في كثيرٍ من المواضع، يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (النحل، 111)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة، 105)، ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ (الصافات، 24)، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ (الزلزلة، 7-8). والآيات القرآنية تؤكد أيضاً أنه لن ينفع الإنسان أحدٌ في ذلك اليوم العصيب حتى أقرب الناس إليه، يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس، 34 - 37)، ويقول تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾ (البقرة، 166).
الأمر الثاني: الإقرار التشريعي بحرية واستقلالية الإنسان، في جميع شؤونه وأموره الدينية والفكرية، يقول تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة، 256)؛ وأيضاً الممارسات العملية، ففي الحديث: ((الناس مسلّطون على أنفسهم وأموالهم)).
وفي هذا الصدد أكد الشيخ الصفار أنه لا يحق لأحد أن يُصادر حرية الآخر مهما كانت موقعيته، فالحاكم لا يحق له أن يجبر الشعب على أمر لا يرتضونه إلا بما يُحقق النظام والقانون في البلاد، وكذلك العالم لا يحق له أن يجبر الناس على توجه معين.
كما أن الأب لا يحق له أن يجبر أولاده على أمر لا يرون فيه مصلحتهم، حتى فيما يتعلق بأمر الزواج مثلاً فإن من حق الولد أن يُقرر ذلك بقناعته، حتى وإن تعارضت مع قناعات أبيه، فعن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله : إني أريد أن أتزوج امرأة، وإن أبويّ أرادا أن يُزوجاني غيرها، فقال: تزوج التي هويت، ودع التي يهوى أبواك. مشيراً إلى رأي السيد الخوئي الذي يقول فيه: لم ينهض دليل على وجوب إطاعة الوالدين على سبيل الإطلاق، على حد إطاعة العبد لسيده، نعم تجب المعاشرة الحسنة والمصاحبة بالمعروف. أجل قد ورد في بعض النصوص أنه إن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، ولكن أحداً لا يشك في أن هذا حكمٌ أخلاقي وليس بتكليفٍ شرعي كما هو واضح.
وكذلك الحال بالنسبة للزوج فلا يحق له أن يجبر زوجته على أمرٍ لا ترتضيه ولا أن يتصرف في أموالها بدون رضاها، مؤكداً أن ما يقوم به بعض الأزواج من ابتزازٍ لزوجاتهم والتحكم في أموالهنّ هو حرامٌ شرعاً، ولا يحق للزوج مطالبة زوجته إلا في حدود الحقوق الشرعية والتي تتمثل في إطاعته في الفراش، وأن لا تخرج من بيته إلا بإذنه على تفصيل فقهي في الأمر الثاني.
الأمر الثالث: تحصين الإنسان من الخضوع للتأثيرات السلبية، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (لقمان، 15).
الأمر الرابع: الاهتمام بالشأن الاجتماعي والتفاعل الإيجابي مع المحيط.
وأشار الشيخ الصفّار أن البعض من الناس يتقبل أن يعيش مسحوق الشخصية، مما يحرمه من أن يُمارس حقه الطبيعي في الحياة والتفاعل معها. مؤكداً أن بعض البيئات تكون أرضيتها مهيئة لهذه الحالة فتكون شخصيات الناس فيها مسحوقة في مختلف جوانب الحياة، ففي الجانب السياسي يتربع بعض المستبدين ليُمارسوا الإستبداد والقهر للشعوب، وفي الجانب الديني تبرز نماذج من الشخصيات التي تسحق إرادة الناس فلا يحق لأحد الاعتراض ولا النقاش ولا السؤال، والعالم مطاع على كل حال، في حين أن هذا ليس من خلق النبي الأكرم ولا الأئمة حيث كانوا نموذجاً للخلق الرفيع، وكانوا يُتيحون للناس فرصة النقاش والحوار، وقد يصل الأمر للجدال، وهذا ما أقره القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ (المجادلة، 1). وفي المحيط العائلي يعيش أفراد الأسرة مسحوقي الشخصية سواءً من الأب أو الأم أو الأخوة الكبار. وكذلك المحيط الاجتماعي قد يُكبّل أفراده بمجموعة من الأعراف والتقاليد التي يقف معها البعض مكتوفي الأيدي، يئنّو منها، ويستسلمون لها.
مضيفاً: إن الإنسان الذي يعيش في مثل هذه البيئة لا يُؤمل منه تقدم ولا إبداع، إن لم يُحقق استقلاليته لشخصيته، ويثق بذاته، ويعيش متوازناً في حياته، فيبني لنفسه آراءً يكون مقتنعاً بها، ويعرف كيف يُطبقها عملياً في حياته.
وأكد أن مجتمعنا قد ربّى أبناءه على ضعف الشخصية، مما أنتج حالة من الذوبان والإنسحاق بحيث لا يستطيع إنسان هذا المجتمع أن يُدافع عن حقه امام أي جهةٍ، وليس من مبرر سوى أن هذا الإنسان يعيش مسحوق الشخصية، وليس له أي استقلالية بذاته ولا بقراراته وآرائه.
واختتم الشيخ الصفار الخطبة بالتأكيد على الرجوع إلى آيات القرآن الكريم وقراءتها بوعيٍ وتأمل، فهي تزرع في الإنسان قوّة الشخصية، وتبني منه إنساناً فاعلاً له أثره في الحياة.
أشار الشيخ الصفار في الخطبة الثانية أن الذنوب نوعان: فردية يقوم بها الأفراد في أوضاعهم الشخصية، وهناك ذنوب تُصبح ظاهرة يُمارسها طبقة واسعة من المجتمع.
مؤكداً أن هذه الذنوب على تنوّعها توجب عقوبة الله تعالى، سواءً في الآخرة عبر العذاب والنار، أو في الدنيا من خلال الأزمات والمشاكل التي يبتلي بها المجتمع.
موضحاً أن المجتمعات البشرية لا تخلو من وجود الخلل والانحرافات، إلا أن المجتمعات تختلف من حيث تعاملها مع أوضاعها، بحسب وعي تلك المجتمعات.
فالمجتمعات المتقدمة تعيش واقعاً واعياً في تعاملها مع أوضاعها، بأنها تُهيء مختلف الوسائل والسبل للوقوف أمام الأوضاع السلبية، فهناك وسائل الإعلام التي توّجه قنواتها باتجاه أي ظاهرة سلبية وملاحقتها، ويوجد في تلك المجتمعات مراكز دراسات وأبحاث تدرس الظواهر التي تطرأ على المجتمع وتُشبعها دراسةً وتحليلاً، وهناك المؤسسات التشريعية السياسية والدينية، وفوق ذلك كله فإنسان تلك المجتمعات لديه إرادة وقابلية للتغيير، فالمرونة التي يتسمون بها تجعلهم قادرين على تجاوز أي خطأ يطرأ في المجتمع.
أما المجتمعات المتخلفة، فإضافةً لكونها تفتقر لتلك الوسائل المهمة من إعلامٍ ناجح، ومراكز دراسات وأبحاث ومؤسسات تشريعية مؤهلة، فإن إنسان هذه المجتمعات ليس لديه قابلية مناسبة للتغيير، إذ أن الناس رغم تذمّرهم من الواقع المعاش، إلا أنهم يسترسلون فيه وكأنه قدرٌ محتوم لا يُمكن تجاوزه أو تغييره.
وأكد الشيخ الصفّار أن مجتمعاتنا وللأسف بحاجة ماسة إلى دفعة قويّة باتجاه التقدم، فوجود مراكز للدراسات والأبحاث لرصد الظواهر في المجتمع، وإشباعها بالبحث والتحليل أصبح حاجة ملحة، إضافةً إلى ضرورة أن يتحلى الناس بالجرأة في نقد هذه الظواهر السلبية التي بدأت تنتشر في المجتمع، مستنكراً على أؤلائك الذي يخشون الإنتقاد بمبرر ظهور معائب المجتمع للآخرين، مبيناً أن الأمر لم يعد خفياً على أحد، فما عاد العصر كالسابق.
وأوضح أن التعاليم الدينية توّجه الإنسان لبعض الممارسات التي من خلالها يدفع الله تعالى العذاب عن المجتمع، ومن أبرز تلك الممارسات (الاستغفار)، مؤكداً أن المطلوب أن يكون الاستغفار كاشفاً عن توجّه نفسي ونيّة صادقة، وإلا فإن مجرد التلفّظ بالاستغفار لا يُحقق الهدف منه.
مستعرضاً جملةً من الآيات الكريمة والأحاديث والروايات الشريفة التي تحث على الاستغفار، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ (النساء، 110)، ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال، 33). وعن الرسول الأعظم أنه قال: ((ادفعوا أبواب البلايا بالاستغفار))، وقال : ((خير الدعاء الاستغفار))، وقال : ((خير العبادة الاستغفار). وقال : ((إن الله تعالى يعفوا للمذنبين إلا من يُريد أن لا يُغفر له))، قيل: يا رسول الله ومن الذي يريد ان لا يغفر له؟ قال : ((من لا يستغفر)). وقال : ((خير الاستفغار عند الله الإقلاع والندم)). وعن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب أنه قال: ((تعطّروا بالاستغفار، لا تفضحكم رائح الذنوب)).
وتأكيداً على أن الاستغفار ممارسة وسلوك وعمل، وليس مجرد ألفاظ، أورد الشيخ الصفّار هذه الرواية: شكى أعرابي إلى الإمام علي شدّة لحقته وضيقاً في المال وكثرة العيال. فقال : عليك بالاستغفار فإن الله عزّ وجل يقول: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾ (نوح، 10 -12). فعاد إليه: إني استغفرت الله كثيراً وما أردى فرجاً مما أنا فيه؟ قال : لعلّك لا تُحسن أن تستغفر؟ قال: علّمني. قال : أخلص نيّتك، وأطع ربّك.
وأكد في ختام الخطبة أن الذي يستغفر الله تعالى وليس لديه عزيمة ونية صادقة في ترك الذنوب، فإنما يُضيف إلى ذنوبه ذنباً آخر، فقد جاء عن الإمام علي أنه قال: ((الاستغفار مع الاصرار ذنوب مجددة))، وقال الإمام الرضا : ((المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه)).
والحمد لله رب العالمين