الشيخ الصفار متحدثاً عن انتصار بدر ومبدئية الإمام علي (ع)
رجّح سماحة الشيخ حسن الصفار أن نصرة الملائكة للمسلمين في واقعة بدر الكبرى كانت بالدعم المعنوي ولتطمئن قلوبهم، بدلالة الآيات القرآنية وأدلة أخرى منطقية وعقلية. وأضاف: إن الركون للغيبيات والكرامات لا تصنع الإنجازات، وإنما ينبغي للإنسان أن يأخذ بالأسباب الحقيقية، ويُعد العدة ويبذل الجهد ما أمكنه، ويُفوّض بعد ذلك أمره لله تعالى فهو الذي بيده التوفيق والسداد. مشيراً أن هذه الحقيقة أخذ بها المسلمون في واقعة بدر الكبرى، فحققوا انتصاراً كبيراً في أول معركة حاسمة بينهم وبين المشركين. مشيراً أن ذات المعادلة تتحقق في وقتنا المعاصر حيث تُسجل المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين انتصاراتٍ عظيمة وهزائم نكراء بجيش العدو الإسرائيلي رغم قوته العسكرية، وكل ذلك نتيجة تلك الروح الصامدة المؤمنة والمتوكلة على الله تعالى.
وفي سياق آخر تحدث عن أبرز ما يُميز شخصية الإمام علي بن أبي طالب وهو مبدأيته وصدقه مع ربه ونفسه. فهو مع المبدأ والقيم، ولا يُفكر ضمن معادلات الربح والخسارة المادية التي يلهث خلفها معظم الناس. وبذلك أصبحت شخصية الإمام لها موقعيتها في قلوب الأحرار من جميع المذاهب والأديان.
الحمد لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخّر الرياح، فالق الإصباح، ديان الدين رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أملتها علينا الفطرة، وقادنا لها العقل، ودلت عليها آثار خلق الله وعظمته.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبي الهدى والإصلاح، وقائد العدل والفلاح. صلى الله عليه وآله الحافظين لشريعته، والمبلغين لسنته، والتابعين له في نهجه وسيرته.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله التي لا عصمة بدونها، ونجاة إلا بالتمسك بها، جعلنا الله وإياكم ممن يلتزم بتقواه، ويسعى إلى نيل رضاه.
بمناسبة ذكرى واقعة بدر الكبرى، سلّط الشيخ الصفار في خطبة الجمعة 19 شهر رمضان 1429هـ (19 سبتمبر 2008م) الضوء على هذه الحادثة الإسلامية الحاسمة في تاريخ المسلمين، مشيراً إلى بعض الجوانب المهمة منها، والتي ينبغي أن تُستلهم منها الدروس والعبر.
وقد أوضح أن المشركين قد حشدوا لهذا المعركة كل ما بوسعهم من قوةٍ وعتاد، فكان عددهم (950) رجلاً، ويمتلكون (200) فرس، و (700) بعير، إضافة لما يمتلكونه من سلاحٍ وعدة ومال. بينما كان عدد المسلمين لا يتجاوز (313) رجل، ولديهم فرسان و(70) بعيراً فقط. وكان الإثنان أو الثلاثة منهم يتناوبون على بعير واحد.
وأضاف: حدثت معركة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة، في السابع عشر أو التاسع عشر من شهر رمضان المبارك. ولم يكن رسول الله يُريد الدخول في الحرب، ولذلك نصح المشركين بأن يرجعوا من حيث أتوا، وهذا ما يُؤكده الأمر الإلهي: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنفال، 61). ولكن المشركين أبو إلا أن تكون المعركة.
وتأمل الشيخ الصفار في الآيات الكريمة التي تتحدث عن معركة بدر، وركّز الحديث على موضوع نزول الملائكة، التي تُشير إليها الآيات الكريمة: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران، 123 – 126). وتساءل: هل بالفعل نزلت الملائكة وقاتلت مع المسلمين؟ مشيراً إلى أن هناك من المفسّرين والعلماء من يرى هذا الرأي، وقد جاءت به بعض الروايات، إلا أنه رجّح الرأي الذي يؤكد عدم مشاركة الملائكة في القتال فعلياً، مقدّماً عدة أدلة على ذلك:
أولاً- قول الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم﴾، فالآية الكريمة توحي أن مشاركة الملائكة لم تكن مادية، وإنما كانت معنوية، وحيث أن المسلمين كانوا قلّة وأمام جيش كبير، فكانوا بحاجة إلى الدعم المعنوي، وللاطمئنان النفسي كي يُحققوا الإنتصار.
ثانياً- إذا كانت الملائكة نزلت للمعركة وقاتلت مع المسلمين، فأي فضيلةٍ تكون للمجاهدين، والتي تتحدث عنها الرويات، وتؤكد منزلة المجاهدين في بدر.
ثالثاً- عدد المقتولين من المشركين (70) قتيلاً، وهم معروفون، وحتى الذين قتلوهم من المسلمين معروفين، فقد قتل أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ما يقارب نصف العدد، واشترك بقية الصحابة في النصف الآخر. فأين هم قتلى الملائكة.
وأشار الشيخ الصفار إلى قضية هامة تتعلق بمسألة الغيبيات وركون الكثير من المتدينين لها، بأن تسود في نفوسهم الاعتماد على الأحلام والكرامات، مؤكداً أنه لا يُمكن المراهنة عليها دون إعداد العدة والتوسل بالأسباب الحقيقية. فالدعاء والتوسل هدفه رفع معنويات الإنسان ولجوئه إلى الله الذي بيده أزمة الكون، إلا أن ذلك ينبغي أن يكون مقروناً بالجد والسعي، وبعدها تفويض الأمر لله تعالى الذي بيده التوفيق والسداد.
مؤكداً أن هذا ما تحقق بالفعل في غزوة بدر الكبرى، حيث كانت معنويات المسلمين رفيعة، فاستطاعوا من خلالها تحقيق أكبر انتصاراتهم على المشركين. والله تعالى يؤكد هذه الحقيقة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت، 69).
واستعرض الشيخ الصفار نماذج من بطولات المسلمين في تلك المعركة الحاسمة، ومنها:
- إن المشركين لما دنوا إلى القتال قال رسول الله لأصحابه: قوموا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض. فقال عمير بن الحماما الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم. قال: بخ بخ .. قال رسول الله : وما حملك على قول بخ بخ؟ قال: رجاء أن أكون من أهلها. فقال له النبي: إنك من أهلها. ولما سمع البشارة بالجنة رمى من يده تمرات كان يأكلها، وصاح: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، وبرز وهو يقول:
ركضنا إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد وكل زادٍ عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
ومازال يُقاتل حتى قتل.
- إن معاذ بن عمر وكان مع المسلمين، فضربه مشرك على يده فقطعها، وبقيت الجلدة، فكان يمشي ويسحبها معه، فلما آذته وضع رجله عليها، ثم تمطى في الهواء، حتى قطعها.
وأكد الشيخ الصفار أن أي فئة تمتلك المعنويات الرفيعة وتؤمن برسالتها التي تُجاهد من أجلها، فإنها بتوفيق الله تعالى ونصره ستُحقق إنجازاتٍ رائدة، وهذه الحقيقة نافذة المفعول في أي زمانٍ ومكان.
مشيراً أن من أبرز تجليات هذه الحقيقة في وقتنا المعاصر الإنجاز الكبير الذي حققته المقاومة الإسلامية في لبنان وفي فلسطين، فمع ما يمتلكه العدو من قوة وعتاد ومؤازرة عالمية، إلا أنه وقف عاجزاً أمام فئةٍ قليلةٍ استطاعت بصمودها ومعنوياتها والرفيعة وإيمانها بقضيتها أن تُلحق الهزائم بصفوف العدو الغاشم. حتى بات الحديث عن زوال هذه الدويلة منتشراً بعد أن كان ذلك يُمثل حلماً صعب المنال. وقد تحدث (اولمرت) أخيراً حول انتهاء طموح ارض إسرائيل الكبرى، كما تحدث عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية عن طرح موضوع ثنائية القومية للدولة في فلسطين بأن تقوم دولة واحدة يشارك فيها اليهود والفلسطينيون.
وختم الشيخ الصفار خطبته بالتاكيد على أن المعنويات الرفيعة والصمود والثبات والإيمان الراسخ، وتفويض الأمر بعد ذلك لله تعالى يُحقق الإنجازات والانتصارات الكبيرة.
أكد الشيخ الصفار في الخطبة الثانية للجمعة ضرورة استلهام الدروس والعبر من سيرة وشخصية الإمام علي ، خصوصاً ونحن نعيش ذكرى شهادته المؤلمة، مضيفاً: إن أهم ما يُميز أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مبدأيته وصدقه مع ربه ونفسه. فهو مع المبدأ والقيم، ولا يُفكر ضمن معادلات الربح والخسارة المادية التي يلهث خلفها معظم الناس. حتى ورد عنه أنه قال: ((ما ترك لي الحق من صديق)).
وأشار أن الإمام علياً ومن خلال خطبه في نهج البلاغة تجده في بعض الأحيان يتحدث عمّا يجيش في صدره معالجاً بعض القضايا التي تُثار ضده من هنا وهناك، ولكنه في غالب الأحيان يلجأ للصمت والصبر، وقد ورد عنه أنه قال: ((فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا)).
وذكر الشيخ الصفار مقاطع من خطبةٍ للإمام علي يوضّح فيها موقفه وسبب سكوته طيلة 25 سنة مع يقينه بأحقيته وأفضليته وأن مصلحة الناس تتحقق بإمامته. فالإمام يؤكد في هذه الكلمات أن مشكلته ليست مع ذاته، وإنما مع الناس المحيطين حوله، يقول : ((أيها الناس اتقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بنجاح، أو استسلم فأراح، هذا ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه))
ويُقدّم الإمام في هذه الخطبة رأيه حول الشائعات التي تصفه أحياناً بالجبن، وأحياناً بحب الملك، فيقول : ((فإن أقل يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا جزِع من الموت. هيهات بعد اللتيا والتي، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه)).
وهناك من رأى بأن الإمام على لا سياسة لديه، ولا قدرة لديه على إدارة الحكم، رغم شجاعته وبطولته، وعلى ذلك يقول الإمام : ((والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس)). ويقول رداً على ذات الإشكال: ((حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله ابوهم، وهل أحد منهم أشد لها مراساً، وأقدم فيها مقاماً مني؟! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يُطاع)).
فقضية الإمام علي هي قضية المبدأ والقيم، مهما كانت النتائج، ومهما واجه من صعوبات، ومهمات تخلى عنه الأصدقاء والأخوان.
واختتم الشيخ الصفار الخطبة بالتأكيد على أنه ليس هناك شخصية في تاريخ البشرية تعيش المثالية في ذاتها والتزامها بالمبدأ وصدقها مع نفسها بعد رسول الله كشخصية الإمام علي بن أبي طالب وبذلك امتلك القلوب بهذه الشخصية الفريدة من نوعها.