الشيخ الصفار في ذكرى الشيخ الأوحد: الاختلاف هو المحك الحقيقي للأخلاق
كيف تستنكر فعل الجلاد وأنت تمارس نفس الدور؟ (لا تنهى عن خلق وتأتي مثله.. عار عليك إذا فعلت عظيم) بهذه الكلمات استنكر سماحة الشيخ حسن الصفار على بعض التيارات الاجتماعية التي تستنكر وقوع الإقصاء عليها وهي تقوم بالإقصاء داخل محيطها ضد المختلفين معها، والمنافسين لها.
جاء ذلك في كلمة ألقاها سماحته في الحسينية الحيدرية بسيهات مساء يوم الخميس 29/11/1429هـ الموافق 27/11/2008م، بمناسبة ذكرى العالم الكبير الشيخ أحمد زين الدين الاحسائي (1166هـ -1241 هـ).
وقد بدأ الشيخ الصفار حديثه عن الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي باستقصاء الآفاق التي تفتح أمام المتحدث عن هذه الشخصية، وذلك لما لها من جوانب كثيرة مؤثرة في المحيط، فالحديث عن علمه ومواهبه باب مفتوح لأنه "العالم الحكيم"، كما أن الحديث عن مدرسته في الحكمة كذلك، وفي الفقه أيضا "فهو عالم أصولي له كتب ورسائل"، وكذا من أراد الحديث عن أدبه فهو " شاعر وناثر تتلمس أدبه في كتاباته بوضوح"، وأضاف سماحته: يمكننا أن نتحدث عن امتداد شخصيته إذ لم يكن عالم قرية، ولا مرجع منطقة، فقد امتدت مرجعيته والتأثر بآرائه إلى أكثر من منطقة وبلد، كإيران والعراق والخليج، حتى أن المستشرقين كتبوا عنه وعن فكره.
لكن سماحة الشيخ توقف عند بعد آخر أحب الحديث حوله وطلب من الحضور التأمل فيه، وهو "جانب المعانات التي لاحقته (رحمه الله) في حياته وبعد مماته، إذا دفع ثمن إبداء رأيه وفكره" وأضاف: قد نختلف معه أو نتفق لكنه عانى كثيرا من إبداء رأيه.
وأستنكر الشيخ الصفار الصراع الذي يدور بين المتدينين والعلماء خاصة حيث لا يوجد مبرر لمن يفترض أن يكونوا أهم تجلي للقيم الدينية والتي يفترض أن تتجسد في سلوكهم، فنفترض أن لا يوجد مبرر لحصول حالات صراع سلبية وسط هذه الشريحة، وقال: قد نتفهم الخلاف والصراع بين السياسيين لأنهم يتصارعون على المناصب والسلطة، وقد نتفهم الصراع الدائر بين الطامحين للزعامة والثروة، لكننا كيف نفهم الخلاف والصراع بين علماء ينتمون إلى الدين ويتصدون للحالة الدينية؟، وتسائل سماحته: كيف يكونوا هم مجسدي القيم وفي الوقت نفسه المخالفون لها؟ إنهم يرشدون الناس إلى الخير الذي تمثله الوحدة وإصلاح ذات البين، والانفتاح فكيف يصبح بعضهم سببا للاختلاف؟، الاختلاف إذا حصل في أي شريحة فإن خطره محدود، لكن الاختلاف بين المتدينين سيكون خطرا أكبر لأن الدين هو السلاح في هذه المعركة.
ثم تحدث سماحة الشيخ الصفار عن أسباب الخصومة والتفرّق بين العلماء مستشهدا بقوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ فالخصومة بين العلماء لا بد أن يكون لبغي بينهم، فالاختلاف في الرأي يولد الإثراء للمعرفة، إذ أن باب الاجتهاد مفتوح، والإنسان مطالب أمام الله بما وصل إليه من قناعات، وقد نختلف في مسائل كثيرة، لكن بشرط ألا يبغي بعضنا على بعض، ولا يتحقق البغي إلا إذا كان الاختلاف سبب في الخصومة والعدوان وسوء التعامل مع الآخر.
واستشهد سماحته لحرية الرأي عند العلماء في المجال العقدي بكتاب الشيخ المفيد (تصحيح الاعتقاد) الذي رد به على كتاب الشيخ الصدوق (الاعتقاد) دون أن يخدش ذلك في مكانتها ودون سوء الظن بأحد من هما، بل الشيخ الصدوق و الشيخ المفيد من الطبقة الأولى في علمائنا ولهم الجلال والاحترام على مر العصور.
وعن مظاهر البغي والإرهاب الفكري الذي عانى منه المجتمع كثيرا، وكيفية التعرف عليه ذكر سماحة الشيخ حسن الصفار ثلاثة مظاهر، هي:
المظهر الأول: رفض الرأي الآخر، حيث يرى كل طرف أن رأيه الصائب وحده، وهو الوحيد الذي يمتلك الحقيقة كاملة، وليس للآخرين حق في الاجتهاد وإبداء الرأي بما يخالف رأيه، وهنا نتساءل – قال سماحته – من خصك بذلك؟ فكما لك عقل فللآخرين عقول، وكما أن لك حق الاجتهاد فلغيرك نفس الحق في ذلك.
والمظهر الثاني: ممارسة روح الوصاية على الآخرين، وفرض الرأي وإلزام الأخر به، كيف يحق لأحد من البشر أن يفرض وصايته على الآخرين، ورأيه اجتهاد مقابل اجتهاد آخر، ولا أحد يدعي العصمة؟، وأضاف: الأنبياء ليس لهم حق الوصاية على الآخرين مع القطع بأحقية رسالتهم، وبصريح العبارة يقول القرآن الكريم لرسول الله : ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾، ويصف الله سبحانه دور الأنبياء بقوله: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ وأيضا ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ بل ينقل القرآن الكريم عن لسان حال الأنبياء قولهم لقومهم:﴿وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾، فإذا كان هذا هو حال الأنبياء فماذا عن باقي الناس؟
المظهر الثالث: الحسد، فحينما يبرز عالم وتكون له كفاءات ومواهب، ويحقق إنجازات، قد يحدث هذا النجاح شيئا من الحسد، وقد أشار بعض من أرخ لحياة الشيخ الأوحد أنه حُسد بسبب ما كان يمتلكه من قبول لدى العام والخاص، فقد ذكروا أن الشيخ عندما ذهب إلى إيران جذب الناس إليه على كل المستويات، الحاكم ووزراءه والعلماء وسائر الجماهير، حتى قيل أن عدد من كان يصلي خلفه في أصفهان أكثر من ستة عشر ألف مصل وانه حينما كان يلقي درسه تتعطل دروس الحوزات العلمية، لهذا حُسد بسبب هذا البروز.
وأوضح سماحة الشيخ الصفار أن الحاسد لا يقول أن تحركه ضد هذا الرجل بسبب الحسد، بل يبرر ذلك بمبررات يوهم بها الناس بأنه يحميهم من انحرافاته العقدية، أو ارتباطاته السياسية، كما قال الله تعالى على لسان فرعون: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾.
المظهر الرابع: سوء الأخلاق: نحن ننتمي إلى دين جاءت توصيات ونصوص كثيرة فيه لتؤكد على حسن الأخلاق وأنها هي المحور والأساس في الالتزام الديني، لكن متى تبرز هذه الأخلاق الحقيقية؟ وأين يكون المحق الحقيقي للتمسك بهذه الأخلاق؟ إنه عند الاختلاف، كيف تكون أخلاقك مع المختلفين معك؟ فليس لك الحق أن تفخر بأخلاقك الراقية مع أصدقاءك وجماعتك، بل الفخر أن تلتزم بمكارم الأخلاق مع الأخر المختلف معك، كما فعل رسول الله وأهل بيته مع من اختلفوا معهم.
وختم سماحة الشيخ الصفار حديثه عن المعاناة التي واجهها الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي ويواجهها كل من جهر برأيه وأبدى وجهة نظره، بلفت نظر الجمهور إلى أن هذه الأمور لا تضر الشيخ بل ينال إثرها الثواب العظيم، لأنه يُستغاب ويظلم وبسبب البغي والعدوان عليه ينال من الله سبحانه ثوابه، كما أن فطرة الناس تتعاطف مع المظلوم ولو بعد حين، وأضاف: الدرس الذي يجب علينا أن نتعلمه من سيرة الشيخ الأحسائي (رحمه الله) وما حدث له، أننا يجب ألا نقع فيما وقع فيه الآخرون، فنحن نعيش الامتحان، إذ لا يجوز أن نؤذي أحداً بسبب اختلافنا معه فنبغي عليه، لقد ناوأ البعض الشيخ وطعنوا فيه ونحن ندين المناوئة، فلماذا نقع في نفس الشيء؟ ونمارس الإقصاء والطعن ومقاطعة الآخرين، لماذا نأخذ من أخلاق الجلاد؟ فنحن نتألم لما يحدثه الآخرون معنا لأننا نختلف معهم في المذهب، نحن لا نقبل أن يظلمنا المتشددون السلفيون لأننا نختلف معهم، فكيف نمارس نفس الدور مع من نختلف معه؟
أيها الأخوة حينما نتعاطف مع هذه الشخصية فهذا يلزمنا ألا نقع فيما وقع فيه المناوئون له، ولا نفرز الناس حسب انتماءهم، وأن نبقي المشتركات كما هي، فلا يوجد مسجد لهذه الفئة ومسجد لتلك، والرموز التاريخية ملك للجميع وليس لطرف دون غيره، فهذه الاحتفالات لا تقام من أجل التمجيد للشخصية بل لأخذ العبر والعضة من حياته وما أحاط به من ظروف وممارسات.
هذا وقد شارك مع سماحة الشيخ الصفار في الحفل كل من السيد محمد رضا السلمان، والشيخ المهندس علي العبد السلام، والشاعر جواد المزيدي.