سماحة الشيخ الصفّار يؤكّد أهمية إحياء عاشوراء كظلامة تاريخية يجب الاتعاظ من مجرياتها وأحداثها
أكّد سماحة الشيخ حسن الصفّار ـ في أولى ليالي شهر محرّم لهذا العام 1430ﻫ في مجلس الشيخ محمد صالح المبارك بالقطيف ـ أهمية اتخاذ الإنسان ـ فردًا وجماعة ـ موقفًا تجاه المظالم الإنسانية الكبرى، مهما تعاقبت عليها الأزمنة والسنون، وذلك ما تدعو إليه التعاليم القرآنية والقيم الإنسانية، إيقادًا لضمائر الشعوب واتعاظًا بما تفعله هذه الظلامات بحقّ الإنسانية جمعاء، مشيرًا إلى أن أبشع أنواع الظلامات هو القمع الفكري الذي تمارسه الأنظمة ضدّ شعوبها، وهو ما قامت وتأسست على رفضه الثورة الكربلائية، منبهًا إلى أن إحياء مناسبة عاشوراء ينسجم وهذه التعاليم القرآنية والقيم الإنسانية في استذكار الظلامات التاريخية الكبرى.
وكان الحديث تحت عنوان «المظالم الكبرى في ذاكرة التاريخ» وقد تركّز على محاور ثلاثة، هي كالتالي:
فأشار في مطلع حديثه إلى أن البشرية عانت طوال تاريخها من وقوع المظالم والاعتداءات، وأنه لا يكاد عصر من عصورها أو يوم من أيامها يخلو من وقوع مثل هذه الظلامات، بمختلف أشكالها وأنواعها، سواء على الأفراد أو الجماعات أو على مجتمعاتٍ وأممٍ بأكملها، وهذه الظلامات منها ما نعاصره في حياتنا، ومنها ما هو تاريخي قد مضت عليه السنوات، وما هو مثار للتساؤل هو النوع الثاني، ذلك أن الظلم الآني والمعاصر لا يختلف اثنان حول قبحه وذمّه عقلاً وشرعًا، فالتعاليم الدينية جاءت لإقامة العدل ورفع الظلم عن الإنسان من قبيل أخيه الإنسان، وهو ما ترفضه كل التشريعات الإنسانية الوضعية.
وفي هذه النقطة، تساءل سماحته حول النظرة القرآنية من الموقف الإنساني تجاه الظلامات التاريخية، هل يكون للإنسان موقف تجاهها، أم أن القرآن يدعو إلى نسيان هذه الأحداث بدعوى أن ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[1] ؟!
حيث يعلّق الشيخ الصفّار على هذه الآية بأن مفادها ـ بحسب السياق الذي أتت ضمنه ـ لا علاقة له بمسألة الموقف من ظلامات هذه الأمم، وإنما هي تتحدّث عن أهمية استقلال الأمم فيما يعتقدون به من دين ومعتقد دون أن يكون هناك أي تقليد أو اتباع للأمم السابقة، وبخاصّة أن هناك العديد من الآيات التي تحثّ الإنسان على التفكّر في قصص السابقين، كما يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾[2] ، وقوله تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[3] ، وفي آية أخرى يقول جلّ وعلا: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾[4] ، وعَرَضَ لبعض القصص القرآنية التي أشارت إلى بعض الظلامات التاريخية، وذلك من قبيل قصّة هابيل الذي قتله أخوه قابيل، لا لجُرم سوى قبول عمله من الله سبحانه، وكذلك قصّة ظلامة نبي الله يوسف، وأخيرًا، أشار إلى قصّة أصحاب الأخدود التي تحكي ظلامةً من أبشع ظلامات التاريخ وهو القمع الفكري.
وهذه القيمة كما تؤّكدها النصوص الدينية هي قيمة إنسانية وحضارية، إذ تحتفي الشعوب وتستذكر ما وقع عليها من ظلامات تاريخية، فذكر أنموذجين، كان أولهما أنموذج إيجابي في التعامل مع هذه القيمة، فيما كان الآخر سلبيًّا.
فذكر أولاً الأنموذج الياباني في احتفائه سنويًّا بذكرى القنبلة الذريّة التي وقعت على هيروشيما في 16/ 8/ 1945م، حيث يستذكر اليابانيون هذه الحادثة التي ذهب ضحيتها أكثر من مئة ألف من سكّان هذه المدينة، لا من أجل زرع الأحقاد وتوارثها جيلاً بعد جيل، فالحكومة والشعب اليابانيان على علاقة طيبة مع الحكومة والشعب الأمريكيين، وإنما رفضًا لمثل هذه الممارسات الوحشية بين بني البشر، وكذلك تذكيرًا للأجيال بما وقع على ذلك الجيل السابق من ظلامة تستحق الذكر والتخليد.
ثم أشار إلى الأنموذج الآخر، وهو ما يعرف بحادثة الهولوكوست أو المحرقة، وهي الحادثة التي ذهب ضحيتها آلاف اليهود في أوروبا، حيث استثمر الصهاينة هذه المحرقة ليتعاطف الغرب معهم في تحقيق مطامعهم في تكوين كيانهم الغاصب على أرض فلسطين، وهم الذين يرتكبون اليوم ضدّ الفلسطينيين أضعاف ما يدّعونه من ظلم وقع عليهم في هذه الحادثة.
مشيرًا إلى ما تشهده غزّة في اليومين الماضيين من حرب إبادة يرتكبها النظام الصهيوني المتغطرس، بمرأى ومسمع من العالم كلّه، بما فيه العالم العربي، الذي يقف فيه معظم حكّامه موقف المتفرّج والمتآمر في بعض الأحيان.
متمنيًّا لهم النصر منه تعالى، كما نصر إخوانهم في لبنان في حرب تموز 2006م.
خاتمًا المحور بتأكيد أن الظلامة تبقى ظلامة مهما تعاقب عليها الزمن، والظالم يبقى ظالمًا مهما طال عليه الأمد، يستحقّ من الله سبحانه اللعنة والطرد من رحمته، بما ارتكبه من ظلم تجاه إخوانه من بني جنسه ودمه.
ركّز سماحة الشيح الحديث في هذا المحور على ما يسوقه القرآن حول قصّة أصحاب الأخدود، الذين مارسوا الظلم تجاه المؤمنين لا لذنب أو مخالفة، سوى المخالفة في العقيدة والدين، فأشار إلى أن معظم كتب السير والتفسير تشير إلى أن ذا نواس آخر ملوك حمير في اليمن تَهوَّد، وأغار على أهل نجران المسيحيين ليحملهم على اليهودية، فلمّا رفض جماعة منهم التديُّن باليهودية ألقاهم في الأخدود ـ وهو الشقّ الكبير في الأرض ـ الذي أشعل فيه النار، فقتلهم حرقًا لاختلافهم معه في الدين والمعتقد، وهو أبشع أنواع الظلم الذي يستحق اللعن، لذلك يعبّر سبحانه بِـ (قُتِلَ) ـ أي لُعِنَ ـ أصحاب الأخدود.
ثم استعرض بعض المواقف في التاريخ الإسلامي التي مورس فيها الظلم لا لشيء سوى الاختلاف الفكري، وذلك مثلما حدث من قبل معاوية بن أبي سفيان الذي قتل حجر بن عدي لأنه لم يتبرّأ من الإمام علي بن أبي طالب ، وبعدها ما حدث في فاجعة كربلاء التي ارتكبها ابنه يزيد ضدّ الإمام الحسين لرفضه البيعة له.
سلط الشيخ حسن الصفّار حديثه في هذا المحور على قضية عاشوراء وموقعها في التاريخ، إذ عدّها من أهم الظلامات التي وقعت في تاريخنا الإسلامي، فالإمام الحسين لم يثُر ضدّ يزيد من أجل مصلحة شخصية أو طلبًا لثأر، وإنما أعلن عن رفضه لمبدأ مبايعة يزيد بن معاوية لأسباب تتعلّق بشخصية يزيد التي لا تنطبق عليها شروط الإمامة في الإسلام وتولّي أمور المسلمين، فكانت الواقعة التي مارس فيها الأمويون أبشع أنواع التمثيل والتعذيب ضدّ أبناء وأهل بيت رسول الله ، مع ما لأهل البيت من مكانة عند جميع المسلمين، فضلاً عن مكانة الإمام الحسين الذي يروي المسلمون في فضله أنه سيد شباب أهل الجنّة.
فأشار إلى أن هذه الحادثة ـ بما تحمله من صور بشعة للظلم والاضطهاد والقمع الفكري والاستبداد السلطوي ـ إحياؤها واستذكارها عامًا بعد عام، وجيلاً بعد جيل، إنما هو عمل بما تدعو إليه الآيات القرآنية، والسيرة العقلائية والفطرة الإنسانية التي تدعو الإنسان إلى اتخاذ الموقف الرافض لمثل هذه الظلامات التاريخية، اتعاظًا منها، ورفضًا لمنهجها الوحشي وغير الإنساني.