الشيخ الصفّار في الليلة السابعة يدعو إلى تعزيز شخصية الفرد
يدرس سماحة الشيخ حسن الصفّار في حديثه العاشورائي الموازنة في الإسلام بين الفردية والجمعية، إذ استعرض ما كانت عليه بعض المجتمعات البشرية من طغيان للحالة الجمعية التي كانت سببًا في سحق شخصية الإنسان وروحه الفردية، وهي الحال التي أدت تاليًا إلى طغيان الروح الفردية والقيم المصلحية على حساب المجموع الإنساني، وما سبّبه ذلك من غياب حالة الرحمة والتراحم الإنساني، عارضًا للمبدأ الإسلامي في هذه النقطة، حيث أشار إلى أن الإسلام يعطي للإنسان الفرد استقلالية الشخصية، وذلك في حدود انضباطه للقيم الإنسانية والإسلامية، وهو ما يحفظ في الإنسان إنسانيته وإحساسه بالآخرين، ولكن ليس على حساب الذات، ولكن هذه القيمة والنظرة الإسلامية لم تتعزّز في المجتمعات الإسلامية لتسلّط حكّام الجور على رقاب المسلمين، الأمر الذي أعاد كثيرًا من القيم الجاهلية إلى المجتمعات الإسلامية من جديد. منطلقًا بعدها للحديث عن الفرد الأمة، الذي مثّل له بنبيّنا إبراهيم ، مذكّرًا ببعض النماذج الإسلامية الذين كان لهم دور في مجتمعاتهم يعادل فعل الأمم، فكان الإمام علي بن أبي طالب والإمام الحسين وأخيه العبّاس في أوائل هذه النماذج.
في هذا المحور تحدّث سماحة الشيخ الصفّار عمّا كانت تعيشه المجتمعات الإنسانية التقليدية من البدائية، التي تحوّلت فيما بعد إلى حالة من الإقطاع وسيطرة بعض أفراد من المجتمع على البقية، وهو ما كان مسيطرًا في المجتمعات الغربية في القرون الوسطى، وبدعم من الكنيسة في ذلك الوقت، حيث كان الفرد ذائبًا في المجتمع، لا يتصوّر لذاته وجودًا مستقلاً، فلا يستعمل فكره وعقله، فالجماعة تسلك به إلى أن يفكّر فيما حوله بما تؤمن به هي، ومن يتجرّأ على مخالفة السائد والمجموع كان نصيبه القتل والحرق، وكانت طبيعة هذه المجتمعات تفرض على الفرد أن يكون نسخة مكرّرة عن شخصية المجموع التي لا تغاير فيها، وهي ما تسمّى بعقلية القطيع.
ولم يكن الأمر مقتصرًا على الناحية الفكرية، بل الإنسان في هذه الحالة ينضبط في سلوكيات جماعية لا رأي له فيها، فيظلّ مؤطرًا بالعادات والتقاليد المفروضة، فلا خيار له في أسلوب الزواج وممن يتزوّج، ولا خيار له في طبيعة العمل الذي يمتهنه ويمارسه، وبالإضافة إلى ذلك لا تكون له طموحات وآمال وأحلام وأمنيات خاصّة.
وقد ذهب العديد من المفكّرين والعلماء ضحيّة هذا الاستبداد الجماعي، فعندما عارض (أريوس 336م) القول بألوهية المسيح أدين وأحرقت كتبه، وحرّم اقتناؤها، وخلع أنصاره من وظائفهم، وحكم بإعدام من أخفى شيئًا من كتبه أو أتباعه. كما أن الكنيسة كان لها الدور البارز في مثل هذه الأحداث، فتشير الدراسات إلى أن مجموع من حكمت عليهم أكثر من 300 ألف، أعدم منهم حرقًا 32 ألف، وذلك في قضايا ومسائل علمية وفكرية بحتة.
وكان لهذا الإفراط في تغليب الروح الجمعية على حساب شخصية الإنسان المستقلّة دور في ظهور ردّة الفعل القوية في أوروبا التي ظهرت مع ما يعرف بعصر التنوير في أوروبا، وهي ردّة الفعل التي أثارت النزعة الفردانية، ويقصدون بها أولوية الفرد قبل كلّ شيء، فدعوا إلى الحرية المطلقة في التفكير والاعتقاد والسلوك، ما دعا أحد مفكّري هذا العصر (سترز) أن يدين الروح الجمعية، ويعلن أنها شرّ بالمطلق، ومصدر آلام الإنسانية.
وفي هذه النقطة أشار سماحته إلى أن مفهوم الفردانية/ الفردية شكل واحدًا من المفاهيم المركزية التي أطلقت الحرية الفردية في العالم الغربي، ما يعني ذلك من: إقرار بتجربة الفرد وحقوقه في التفكير والرأي والاعتقاد بشكل مطلق، وكذلك حقّه فيما يختار من نمط الحياة، وأن يصوغ وجوده بإرادته ورغبته، ومعهما استقلال كيانه وتمتّعه بميزاته الفردية، وبالإضافة إلى ذلك طغيان جانب المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامّة.
وكان سماحته قد أشار إلى ما استتبعته هذه الحالة من ظهور لبعض النتائج السلبية في هذه المجتمعات بسبب ردّة الفعل المبالغة في الفردانية، فذكر ما تعانيه تلك المجتمعات من: رفض للحالة الدينية بالمطلق، وذلك لما كان للكنيسة من رعاية للحالة الاجتماعية السابقة، وكذلك ارتفاع مستوى الأنانية، وغلبة الروح المصلحية، في ظل غياب وتلاشي القيم الدينية الجامعة، ما نتج عنه التفكّك العائلي وما أصبح يعانيه الفرد من الفراغ الروحي، وبخاصّة مع ارتفاع نسبة الجريمة والعنف والعدوانية والفقر والبؤس في هذه المجتمعات، لتكون الصفة الغالبة عليها أنها مجتمعات صناعية تنظر للإنسان نظرة استهلاكية.
انطلق سماحة الشيخ حسن الصفّار في هذا المحور لمعالجة هذه المعادلة الإنسانية الصعبة ضمن النظرة الإسلامية، فذكر بأن المجتمع العربي ـ الذي ظهر فيه الدين الإسلامي ـ كان يعيش حالة أشبه بمجتمعات الإقطاع، وذلك لما كان يعيشه الإنسان العربي من تبعية مفرطة للقبيلة وما تقوم عليه قيم وتقاليد وعادات القبيلة، في الوقت الذي فجّر فيه الإسلام في الإنسان روح الحرية والاستقلالية، ضمن محورية الولاء للقيم والمبادئ، ولكن هذا المبدأ ما لبث أن استبدل بالروح القبلية التي عادت وتسلّلت مرة أخرى إلى حياة المسلمين، حينما سيطر عليهم الاستبداد، فأصبح الإنسان في مجتمعاتنا العربية مسحوقًا أسيرًا في مختلف المجالات.
مستعرضًا بعض الشواهد على محورية القيمة الفردية في الإسلام، وذلك في نقاطٍ أربع، رتّبها كالتالي:
(1) أن الإسلام يركّز على مسؤولية الفرد عن آرائه وقراراته وأعماله، وأنه محاسب مباشرة أمام الله تعالى، ولا يُسأل الآخرون عمّا يفعله، يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[1] ، ويقول في موضع آخر: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾[2] ، وفي موضع ثالث: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾[3] .
(2) محورية القيم: وذلك ما يفهم من الآيات العديدة التي تأمر الإنسان بألاّ يخضع لغير الله سبحانه، وأن ما يحكمه في سلوكياته وتصرّفاته اليومية هي القيم الهادية التي يأمر بها الدين الإلهي، وذلك ما تدعو إليه الآيات التالية: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾[4] ، و﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾[5] ، و﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾[6] .
(3) التحصين من الوقوع في أسر الآخرين: وذلك من خلال ما تبيّنه الآيات القرآنية من استقلالية الإنسان في آرائه ومعتقداته، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾[7] ، وقوله: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾[8] ، و﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾[9] .
(4) تشريع استقلالية الإنسان في قراراته وتصرفاته وسلوكه، وذلك ما يفهم من حديث النبي : «الناس مسلّطون على أموالهم وأنفسهم».
معقبًا سماحته على هذه النقاط بالإشارة إلى أهمية تركيز هذه القيم في مجتمعاتنا وتعاملاتنا اليومية، وذلك لبناء المجتمع الإسلامي الصالح، منتقدًا بعض الممارسات الاجتماعية فيما يخصّ التدخّل في الشؤون الشخصية، وبخاصّة من قبل العائلة فيما يختاره أبناؤها من اختيارات شخصية ليس من المقبول إسلاميًّا التدخّل فيها، وذلك من قبيل اختيار المهنة وطريقة العمل، أو اختيار الزوجة، وما تشهده مجتمعاتنا من تدخّل بعض الأزواج في بعض الشؤون الشخصية للزوجة.
وداعيًا في الوقت نفسه إلى عدم انسياق الفرد مع عادات وتقاليد المجتمع دون إعادة النظر فيها، منتقدًا بعض الممارسات في حفلات الزواج ومجالس العزاء التي ينساق فيها الفرد مع ما درجت عليه العادة دون أن يكون له موقف حازم في مثل هذه الأمور.
في هذا المحور الأخير يشير سماحة الشيخ إلى أن مما يعلي دور الفرد في نفسه والمجتمع تقديم نماذج من الأفراد الذي يمثّلون ـ بما يحملونه من طموحات وقدرات وإمكانيات شخصية ونبوغ ـ أمّة ومجتمعًا، مشيرًا إلى ما تعرضه الآية بخصوص نبي الله إبراهيم ، إذ يقول تعالى فيه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا﴾[10] ، ولأنموذج الإمام علي بن أبي طالب في تاريخنا الإسلامي، إذ قال عنه رسول الله يوم الخندق: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كله» في مقاتلته لعمرو بن ودّ، و«ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين» وغيرهما من النصوص.
داعيًا الحضور إلى تمثّل هذين الأنموذجين في حياتنا وممارساتنا اليومية، وذلك من خلال الالتفات إلى بعض النقاط المهمّة التي تساعد الإنسان على أن يكون له الدور الكبير في مجتمعه وأمته، وذلك في نقاط ثلاث:
(1) حين يفجّر الإنسان طاقته، ضاربًا المثال بالعالم الأمريكي أديسون مخترع المصباح الكهرباء، الذي تغيّر العالم بعده، بما قدّمه للبشرية من عاطاءات واختراعات عدّة.
(2) حين يأخذ زمام المبادرة، مشيرًا إلى أن كثيرًا من المبادرات الفردية لها من الآثار ما يغيّر الأمم والشعوب، ممثّلا بالحادثة التي قامت بها الأمريكية من أصل أسود (روزا باركس) التي عارضت ما مورس ضدّها من تمييز عنصري في إحدى حافلات النقل العمومية سنة 1955م، ما أثار ضجّة في المجتمع الأمريكي، أدّى إلى إلغاء التمييز العنصري ضدّ السود بشكل تدريجي، وهو ما شهد هذا المجتمع نتائجه هذه الأيام، إذ فاز بمنصب الرئاسة أمريكي ينحدر من أفريقيا السوداء.
(3) حين يقود مجتمعه، وهو الدور الذي يتحمّله القادة والمصلحون في شتى المجتمعات، فيتحمّلون من أجل ذلك الصعاب والتحدّيات، إلى أن يقودوا مجتمعهم إلى مصاف المجتمعات المتحضّرة والواعية، ممثلاً بالدور الذي قام به غاندي في تحرير الهند والإمام الخميني الذي شكل منعطفاً في التاريخ الإسلامي المعاصر وفي الوضع العالمي.
وختم حديثه بالتأكيد على أثر نهضة الإمام الحسين وشهادته في انقاذ مستقبل الإسلام والأمة.