الشيخ الصفار يدعو إلى التعامل الإيجابي مع نقد الحالة الدينية
في الليلة الثامنة من المحرم لعام 1430هـ في مجلس الشيخ المبارك بالقطيف قدم الشيخ الصفار بحثاً حول نقد الحالة الدينية، مبيناً أن هناك فرقاً بين الدين والحالة الدينية، فالدين الموحى من الله لا يصح نقده والاعتراض عليه من قبل مسلم، أما الحالة الدينية فهي جهد وحراك بشري، يمكن نقده والاعتراض على بعض مفرداته، داعياً الحالة الدينية إلى نقد ذاتها، مشيراً إلى مبادرات جريئة في النقد الذاتي، كما ان على الحالة الدينية، ان تتوقع نقد الآخرين لها، وتتعامل مع النقد بالايجابية، تكتشف من خلاله الأخطاء، وتواجه الإشكالات بالمنطق والدليل.
جاء ذلك في ثلاثة محاور كانت كالتالي:
يرى الشيخ الصفار أن المقصود بالدين هو الموحى من قبل الله عزّ وجل والذي يكون قطعي الصدور أو قطعي الدلالة كالنص الشرعي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، وكذلك أصول الدين المتفق عليها وهي التوحيد والنبوة والمعاد، وأركان الإسلام وضروراته المجمع عليها. كل هذه الأمور لا يجوز لمسلم نقدها ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً﴾.
أما الحديث النبوي والآيات ظنية الدلالة فيرى سماحته أنها مجال للنقاش ولها أسس علمية لنقاشها ونقدها. وهذه الأمور بالإضافة إلى الرموز الدينية والمؤسسات الدينية هي ما تمثل الحالة الدينية التي هي مجال البحث.
تتمثل في ثلاث مجالات:
أولاً: الخطاب الديني السائد في المجتمع بما يحوي من خطاب عقدي وفكري وفقهي. فهو مجال اجتهاد وليس قطعياً ولذلك يرى كثير من العلماء أن 5 إلى 6 % من المسائل الشرعية هو قطعي ومحل اتفاق والباقي وهو 94% فيه مجال للنقاش والاجتهاد.
ثانياً: الجهات الدينية المتمثلة في المؤسسات والأشخاص فهي جهات قابلة للنقد والنقاش.
ثالثاً: المواقف والممارسات السياسية والاجتماعية والإعلامية وغيرها.
يؤكد سماحته أن كل هذه المجالات يمكن نقدها لعدة أسباب:
1ـ وجود خلل يستوجب النقد. فأي رأي يحتمل الصواب والخطأ، وموقف الرمز الفلاني قد يُقبل وقد يرفض فهو مجال للنقد.
2ـ عدم استيعاب الطرف الآخر: قد يستشكل أمر ما على شخص معين إما لأنه لم يستوعب الفكرة أو الموقف، لقصور في الفهم أو اشتباه، فيبادر للنقد والاعتراض.
3ـ سوء في نفس المتلقي، كالتعصب والاغراض المختلفة.
يؤكد الشيخ الصفار على أن ارتفاع وتيرة النقد للحالة الدينية هو أمر طبيعي للأسباب التالية:
أـ تقدم الحالة الدينية وهو ما يثير المخالفين فيحاولون التشكيك فيها أو توهينها.
ب ـ اتساع حرية التعبير عن الرأي وتعدد قنواته. كما أن مستوى ثقافة الناس أصبح أعلى مما كان عليه سابقاً. ولم يعد بالإمكان تكميم الأفواه. سابقاً كان بإمكان الدولة أن تمنع النقد وتعتبره جريمة بحقها تعاقب عليه، أما الآن فما عاد هذا يجدي وسوف يكلفها كثيراً إن هي تتبعت كل شيء. فوسائل التعبير عن الرأي أصبحت كثيرة ومتعددة وفي متناول الجميع. كذلك الحال بالنسبة للحالة الدينية، الخطوط الحمراء التي كانت توضع لنقد العلماء ما عادت تجدي.
ج – تصدي الحالة الدينية يوجد احتكاكاً مع الواقع الخارجي، وقد تنتج عنه اخطاء.
لهذا يؤكد سماحته على أن مبادرة الحالة لنقد ذاتها أفضل، وهذا نهج الدين كما جاء في القرآن الكريم: ﴿لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾ أي الشخص الذي يلوم وينتقد نفسه. وعن رسول الله : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا). ثم يشير إلى أن هناك من يرفض النقد ويعتبره نشراً للغسيل أمام الملأ، وحتى لو كان هناك مجال للنقد فلا ينبغي ذلك حتى لا تنكشف نقاط الضعف للآخرين، ففي ذلك توهين للدين ولمكانة المتدينين. ويرى قسم آخر أن المبادرة للنقد الذاتي أمر مطلوب ويحقق عدة مآرب منها: عدم تعمق الخطأ، ودفع الشبهة عن الدين. كما يرى الشيخ الصفار بأن من يقول أن الناس لا يعلمون عن هذا الضعف ويريد الستر عليه متوهم ومخطأ. فما عاد هناك أمر مستور وأمر ظاهر، كل ما عندك أصبح متاحاً للجميع.
ثم عدد سماحته مجموعة من العلماء المتنورين الذين مارسوا النقد الذاتي من الجانب السني والجانب الشيعي.
من المدرسة السنية:
ـ الشيخ محمد الغزالي: له كتاب حول نقد مناهج التعليم في الأزهر، وله نقد واضح لكثير من الفتاوى والمواقف.
ـ الشيخ يوسف القرضاوي: له أيضاً كثير من النقد تجاه الصحوة الإسلامية.
ـ الشيخ حسن فرحان المالكي: له كتاب جميل بعنوان: قراءة في كتب العقائد المذهب الحنبلي نموذجاً. ويشير فيه إلى أهمية نقد ما عند الحنابلة من تطرف وغلو وخرافات بدلاً من الانشغال بنقد ما عند الآخر.
ومن المدرسة الشيعية:
ـ السيد محسن الأمين العاملي: له كتاب في نقد الشعائر الحسينية والمجالس الحسينية.
ـ الشيخ النوري: له كتاب (اللؤلؤ والمرجان) في نقد الخطابة الحسينية.
ـ الشيخ الشهيد مرتضى مطهري: له كتاب الاجتهاد في الإسلام و إحياء الفكر الديني، ونقد كثير للحالة الدينية.
ـ الشيخ محمد جواد مغنية: وهو عالم متنور منفتح له تفسير الكاشف، وفقه الإمام جعفر الصادق وله آراء نقدية كثيرة.
إذاً هناك حالة نقد قائمة كما يرى سماحته متمثلة في هؤلاء العلماء وأمثالهم، ينبغي أن تتطور وأن تواكب حركة المتغيرات والمستجدات وهو مفاد حركة الاجتهاد.
النقد ربما يكون من خارج الدائرة الإسلامية، وربما من خارج المذهب أو من خارج الحالة الدينية التي تنتمي إليها، وهو كثير سيما في هذا الفترة الآخيرة كما نقرأ في الصحف وفي صفحات الإنترنت، فكيف نتعامل مع كل ذلك؟
حول هذا التساؤل يجيب سماحته بأن هناك عدة أمور ومنها:
أولاً: توقع النقد وتقبله
بعض العلماء والمتدينين لا يتوقع النقد وإذا ما وجهوا به، عدوه خروجاً عن الدين. وهذا غير صحيح فكل الديانات والمذاهب تنتقد كما أن القمع الفكري ومصادرة آراء الآخرين أمر ضار وغير مجدٍ. أحد العلماء السلفيين في المملكة أصدر فتوى بعقوبة من ينتقد العلماء من كتاب الصحف بالسجن أو الفصل أو الجلد أو التوبيخ. والبعض طالب بهيئة للدفاع عن العلماء. ويشير سماحته إلى أن هذا تكريس للاستبداد الديني وهو أمر مرفوض دينياً. ملفتاً إلى أن البعض يفرح حينما يرى نقداً على جهة تخالفه ويعتبره انتصاراً لجهته، وحين يمارس النقد عليه يغضب وينزعج!
ثانياً: الرد العلمي المنطقي
فالرأي يواجه بالرأي والحجة بالحجة. ربما يقع أناس في اشتباه فيصدرون بيانات نقد لبعض الأمور حينها على العلماء أن يبينوا لهم ما اشتبه عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة ﴿قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا﴾ و ﴿قل هاتوا برهانكم﴾.
ثالثاً: الاعتراف بالخطأ وعدم المكابرة
رابعاً: الاتزان والتعامل الاخلاقي
البعض ينزعج ويتذمر حينما يسمع نقداً لشيء من الحالة الدينية، وكأنما الدين أو المذهب سيقوض بهذا النقد، وهذا أمر غير صحيح، الدين والمذهب قوي وعلى المنتمي له أن يكون قوياً (على بصيرة من ديني) لا أن يكون ضعيفاً (يحسبون كل صيحة عليهم). ثم يشير سماحته إلى كلمة جميلة للشهيد مطهري يقول: إنني على العكس من الكثيرين لا أغضب من الشكوك والشبهات التي تثار حول الإسلام ـ وبالرغم من حبي لهذا الدين واعتقادي به ـ بل أفرح من أعماق قلبي، لأنني أعتقد وقد علمتني التجربة أن الهجوم على هذا الدين المقدس كلما كان أقسى وأشد في أي جهة من الجهات ازداد جلاء وبهاء وبدا مرفوع الهام قوياً.
ثم يؤكد سماحته على أن الانفعال والتشنج عامل تنفير فإذا ما ابتعد شخص عن الدين شبراً بهذا الأمر سوف يبعد أكثر وربما كلياً. وهو أيضاً خلاف أخلاق النبي والأئمة ، فإذا كان المعصوم يستقبل النقد ويناقشه، فكيف نرفضه نحن؟
مشيراً إلى قصة الصحابية خولة أو جميلة العوفية زوج أوس بن الصامت الخزرجي الذي ظاهرها فبانت منه، ومضت إلى رسول الله ليجد لها حلاً فهو زوجها وأبو عيالها وظلت تجادل رسول الله ، والمجادلة تعني الاحتجاج والاستدلال، ورسول الله يقول لم ينزل علي وحي بذلك، ثم قالت أشكو ما نزل بي إلى الله، إلى أن نزل قوله تعالى (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الله والله يسمع تحاوركما) أي كانت تناقش ورسول الله يجيب ولم يزجرها أو ينهها عن المجادلة.
ثم أشار سماحته إلى بعض النماذج الواردة في السيرة النبوية وفي سيرة الأئمة الأطهار ومنها:
كانت معركة حنين بين المسلين وبين قبيلة هوازن أشد القبائل بعد قريش. وقد أمر قائد القبيلة من معه أن يخرجوا بعوائلهم وأموالهم، وخرج رسول بعشرين ألف مقاتل وبعد النصر للمسلين غنموا منهم مغانم كثيرة 24000 بعير، و40 ألف شاه، وكمية كبيرة من الذهب والفضة. قسّم الرسول ذلك على المقاتلين وبقي له الخمس فكان نصيبه 4800 بعير، و8000 شاه، وكميات من الذهب والفضة، بينما كان للفارس من المقاتلين 12 بعيراً، وللمشاة أربعة.
بعض حديثي العهد بالإسلام الذين أسلموا بعد فتح مكة جاءوا إلى رسول الله متعجبين مما ناله من غنيمة: يا رسول الله لقد أعطاك الله خيراً كثيراً. كان منهم أبو سفيان وقد طلب من رسول الله أن يزيده في العطاء، فأعطاه رسول الله 40 أوقية من الفضة وأعطاه 100 من الإبل. قال وابني يزيد؟ فأعطاه مثله، قال وابني معاوية؟ فأعطاه مثله. ثم جاء حكيم بن حزام وسأل رسول الله فأعطاه مائة من الإبل، فقال زدني: فأعطاه مائة أخرى، فقال زدني: فأعطاه مائة ثالثة.
فحين سمع الأنصار ذلك قالوا: لقي رسول الله قومه، أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين قسم الغنائم فقومه وعشيرته، إن كان هذا من الله صبرنا، وإن كان من رسول الله استعتبناه. وكثر الجدل حول الأمر حتى جاء سعد بن عبادة إلى رسول الله وأخبره مقالة الأنصار وعتابهم، فصار رسول الله يناقشهم ويسمع منهم ويبين لهم الأمر في ذلك ولم ينصرفوا عنه إلا وهم راضون بما كان منه.
كان أمير المؤمنين يشجع على حالة النقد فكان من آوائل خطبه بعد تسلم الخلافة: (لا تكلموني بما تكلم به الجبارة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ـ أي أهل الغضب ـ إلى أن يقول: ولا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل).
وكذلك موقفه مع الخوارج، يأتيه الخرّيت بن راشد فيقول له: لا اطعت امرك ولا صليت خلفك. فيسأله الإمام لماذا؟ فيقول لأنك خالفت كتاب الله. فيطلب منه الإمام المناظرة في ذلك. فيستمهل الإمام، فيقول له انصرف.
وفي مواقف أخرى كان يبين حقوق الخوارج مخالفيه حيث قال: لكم علينا ان لا نمنعكم دخول المساجد، ولا نقطع عطاءكم من الفيء ولا نبدأكم بقتال ما لم تثيروا فتنة.
وينقل الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد قصة دارت بين أمير المؤمنين ورجل أتاه وقال له: يا أمير المؤمنين لقد شككت في كتاب الله المنزل؟ قال له الإمام: ويحك كيف تشك؟ قال الرجل: رأيته يناقض بعضه بعضاً. ثم يدور الحوار بين أمير المؤمنين والرجل هذا يطرح إشكاله وأمير المؤمنين يوضح له ما استبهم عليه، حتى قام الرجل وهو يقول جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين فرّجت عني. الحوار ينقله الشيخ الصدوق في 14 صفحة وهذا يدل على استيعاب الإمام وبحكمته هداه إلى الطريق الصحيح.
وروايات كثيرة تنقل عن موقف بعض اصحاب الإمام الحسن من صلحه لمعاوية، فيقول له احدهم: يا مذل المسلمين، وآخر يقول ليتك مت قبل هذا. ولكن الإمام لم يواجههم بالعنف والصد بل كان يوضح لهم أهدافه ومبرراته لموقف الصلح.
ثم ختم الشيخ حديثه بموقف القاسم بن الحسن الشهيد الذي لم يبلغ الحلم، وكيف كان يناقش عمه الحسين للمشاركة في هذه المعركة والفوز بالشهادة والحسين يرده إلى أن وافق على طلبه.