سماحة الشيخ الصفّار يدعو إلى نشر ثقافة الرحمة والتراحم في المجتمع
تحت عنوان: «الرحمة تصنع السعادة» تحدّث سماحة الشيخ حسن الصفّار في الليلة التاسعة من الموسم العاشورائي لهذا العام 1430ﻫ عن أهمية نشر ثقافة التراحم الاجتماعي، حيث عدّها من أجلى النعم الإلهية فيما يرتبط بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، مذكّرًا ببعض صورها البارزة، التي من أهمها ما تبذله الأم تجاه أبنائها من عطف وحنان بدافع الرحمة المودعة في فطرتها تجاههم، محذّرًا من انحراف الإنسان عن هذه الطبيعة التي فطره الله عليها، وذلك من خلال ما نشهده في هذا العصر من غلبة الثقافة المادّية والمصلحية عند الإنسان، مما يساعد على نشر الثقافة المضادّة للطبيعة والفطرة الإنسانية السليمة، مستعرضًا لبعض الظواهر الاجتماعية الآخذة في الانتشار، فذكر منها: العنف الأسري، وحالات الإجرام والقتل، مشدّدًا على أهمية وجود مؤسّسات اجتماعية تساهم في التقليل من هذه الظواهر إلى جانب ما تقوم به الأسرة من خلق جوّ من التراحم والمودّة داخلها.
وكان سماحته قد رتّب المحاضرة على ثلاثة محاور، هي:
وقد مهّد الشيخ الصفّار لهذا المحور بمقدّمة جاء فيها: «يبدأ الإنسان حياته من حالة ضعف شامل، فهو يأتي إلى الحياة الدنيا ضعيفًا لا يملك لنفسه نفعًا ولا يدفع عنها ضرًّا، حاجاته كثيرة، مادّية وجسدية ونفسية وعاطفية، يقول تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً﴾[1] ، وفي آية أخرى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾[2] .
إن الإنسان الذي خلقه الله بهذه الحالة، هيأ له أمًّا ترعاه وتعطف عليه وتتحمّل مشاقّ تربيته دون أن تطلب منه أي مقابل، أو ترجو أيّ مصلحة».
ليبيّن سماحة الشيخ الصفّار أن الرحمة الإلهية تبدأ من يوم الإنسان الأوّل، وتستمرّ معه إلى آخر لحظات حياته، مشيرًا إلى أن هناك العديد من المواقف الحياتية التي يتعرّض إليها الإنسان، فتشمله الرحمة الإلهية، فتنقذه منها، فمنها ما يلتفت إليها الإنسان، ومنها ما تغيب عنه، وأن هذه الرحمة التي يفيضها الله على سبحانه على عباده في الدنيا لا تعادل إلاّ جزءًا يسيرًا من رحمة الله في الآخرة، مستشهدًا ببعض المرويّات عن أئمة أهل البيت في هذا الجانب، منها ما روي عن الإمام الصادق : «إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته، حتّى يطمع إبليس في رحمته».
ومؤكّدًا هذه الفكرة بما خصّ الله نفسه بصفة الرحمة دون بقية الصفات في البسملة، مكرّرًا الصفة مرّتين فيها، إذ نقول في البسملة: (الرحمن الرحيم)، على اختلاف بين العلماء في الفرق بين هاتين الصفتين، داعيًا الحضور إلى استحضار هذه الصفة الإلهية في حياتهم اليومية، وعدم القنوط من رحمته، وذلك تطبيقًا للآية الكريمة: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، داعيًا إلى التفريق بين رجاء الإنسان في رحمة ربّه وسعيه إلى نيل هذه الرحمة، وعدم الأمن من عذابه وعقابه، فيسترسل في الذنوب والموبقات.
ومشيرًا في الوقت ذاته إلى بعض الشبهات التي قد تنشأ في أذهان البعض من المتديّنين حينما يحسب أنه ـ مع أتباع ملّته ومذهبه ـ هم المستحقّون للجنة، وأن جميع الديانات والمذاهب الأخرى يستحقّون النار، وبخاصّة أولئكم الذين يروّجون للحديث ـ الذي ناقش العلماء في صحته ـ المرويّ عن رسول الله : «تفترق أمتي 73 فرقة، كلّهم في النار، إلا واحدة»، وكل فريق من المسلمين يعتقد أنه من أتباع هذه الفرقة، وفي المقابل يرى هلاك واستحقاق بقية المسلمين لدخول النار، وهذا يتنافى وما نتناقله نحن المسلمين عن رحمة الله سبحانه التي وسعت كلّ شيء، وفي هذه النقطة يستشهد سماحة الشيخ بما يروى عن زرارة أنه قال: «سألتُ الإمام الصادق : أصلحك الله، أرأيت من صام وصلى واجتنب المحارم ممن لا يعرف ولا ينصب؟»، فقال : «إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته».
تحت هذا العنوان أشار الشيخ الصفّار إلى أن فطرة الإنسان تدفعه إلى الرحمة، وأن ضميره يردعه عن العدوان والعنف، لولا نزعات حبّ الذات التي تنتج أهواء وشهوات تشوّش على الفطرة، وبالخصوص عندما تدعم هذه النزعات التربية والبيئة المحيطة التي يعيش وينشأ الإنسان ضمنها، فتضعف فطرته ووازعه الذاتي وضميره الإنساني، فيتّجه نحو العدوان وارتكاب المظالم، وانتهاك الحرمات، معتبرًا أن هذه العوامل والأجواء هي ما تدفع القيّمين على المجتمع والتربويين إلى تذكير الناس بأهمية القيم وغرسها في نفوسهم، وهي الحال التي بدأت تتلاشى في المجتمعات الغربية الماديّة، التي تذكي النزعة الأنانية المصلحية في نفس الإنسان، فأصبح الإنسان هناك لا يعيش إلا هاجس الربح والخسارة، ما نشر حالة القسوة تجاه الآخرين، مستشهدًا بما تذكره الإحصائيات من وجود 167 مليون ضحية، ذهبوا نتيجة الحروب والنزاعات في القرن العشرين، ما أنتج هوسًا وتسابقًا غير مبرّر في اقتناء السلاح، إذ تستهلك دول منطقة الشرق الأوسط أكثر من 40% من سوق السلاح في العالم، وهو رقم مبالغ فيه، ومؤدّاه المزيد من ضحايا العنف والحروب والصراعات البينية، مضيفًا إليها الأعداد الهائلة التي تذكرها الإحصائيات حول الألغام على مستوى العالم، حيث يوجد الآن ـ حسب هذه الإحصائيات ـ أكثر من 119 مليون لغم حول العالم، ويضاف إليه سباق التسلّح النووي، إذ تمتلك كل من أمريكا وروسيا أكثر من 7000 رأس نووي، وحصة كل فرد من البشر تعادل 200 كغم من المتفجرات، هذا بالإضافة إلى ضحايا العنف من المواطنين داخل المجتمعات، إذ يموت أكثر من 490 ألف شخص سنويًّا بسبب العنف والجريمة.
مستنكرًا تسلّل هذه الثقافة إلى مجتمعاتنا، وهي الثقافة التي تستبعد عنصر القيم من حياة الإنسان، وتشغله بنفسه ومصلحته الذاتية، وتشعره بالسخط على الآخرين والتمرّد على قيم مجتمعه، وهو الأمر الذي بدأ مجتمعنا يعيش بعض ظواهره، وذلك بانتشار حالات الجريمة والسطو والعنف والقتل، فذكر أن إحصائية الأمن السعودي لعام 2006 تشير إلى أن المملكة تشهد 43 محاولة قتل يوميًّا، و110 محاولة سرقة، وهي حالة تسلب الإنسان أهم احتياجاته الطبيعية، وهي الشعور بالأمن على نفسه، داعيًا الحضور إلى التفكير الجدّي في كثير من المبادرات الاجتماعية للسيطرة على هذه الظواهر، من خلال إنشاء العديد من الجمعيات والمؤسّسات التي تهتمّ بكل ظاهرة على حدة، للحدّ من انتشارها، ومعالجة ما بالإمكان معالجته منها.
ركّز سماحة الشيخ الصفّار في هذا المحور الأخير على مضاعفات انتشار ظاهرة العنف، بدلاً من حالة التراحم فيما بين أفراد المجتمع الواحد وبين المجتمع وما يجاوره من محيط، فأشار إلى ما تنشره هذه الحالة من تعدّد حالات الإجرام في المجتمع، بحيث لا يأمن فيه أفراده على أنفسهم من الوقوع فريسة لعصابات الإجرام والسطو والقتل المنتشرة، مذكّرًا بأهمية دور الأسرة في هذا المجال، ذلك أن ما تشهده الساحة في المنطقة اليوم من انتشار ظاهرة العنف الأسري، له دور مباشر في تفريخ أناس غير أسوياء يمارسون إجرامهم وعنفهم في محيطهم الواسع فيما بعد، داعيًا إلى ترسيخ الثقافة والقيم الإسلامية فيما يخصّ الجوّ الأسري، الذي تدعو إليه آيات القرآن الكريم، حيث يجب أن تسود حالة الرحمة والمودّة فيما بين الزوجين، وبينهما وبين أبنائهما فيها، حتى تكون الأسرة اللبنة الصالحة التي تنتج الأسوياء في المجتمع، ومشدّدًا على ضرورة محاربة العنف الذي يمارسه كثير من الرجال داخل الأسرة، وبخاصّة ضدّ المرأة، رافضًا أن يكون الإسلام قد شرّع ما يبيح للرجال مثل هذه الممارسات السيئة وغير الإنسانية.