تقديم كتاب «الكتاب في فكر الإمام الشيرازي»

مكتب الشيخ حسن الصفار

الكتاب: الكتاب في فكر الإمام الشيرازي
المؤلف: حسن آل حمادة
الناشر: دار الخليج العربي، بيروت 2001م

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين.

يمتاز مراجع الدين للمسلمين الشيعة بميزتين هامتين:

الأولى: التعمق والتبحر في علوم الشريعة وخاصة الفقه وأصوله.

الثانية: النـزاهة الشخصية.

وتتشكل الميزة الأولى من خلال الاستغراق في الدراسة العلمية لسنوات طويلة تقاس بالعقود، حيث تقرأ في سير حياة المراجع أن أغلبهم توجه للدراسة من نعومة أظفاره وحداثة سنه، وأصبح مرجعاً وهو في مرحلة الكهولة إن لم تكن الشيخوخة، فالسيد أبو الحسن الأصفهاني (1284هـ-1365هـ) بدأ دراسته العلمية وهو في نهاية العقد الأول من عمره، وبدأت مرجعيته بعد وفاة الميرزا محمد تقي الشيرازي سنة 1338هـ، حينما أصبح عمره 54 سنة، أي بعد 44 سنة من الاستغراق في الدراسة العلمية، لكنه لم يصبح مرجعاً أعلى إلا سنة 1355هـ بعد وفاة الميرزا حسين النائيني وقد ناهز عمره السبعين عاماً.

السيـد محسن الحكيم (1306هـ-1390هـ) بدأ دراسته وهو في السابعة من عمره وظهرت مرجعيته بعد وفاة السيد أبو الحسن الأصفهاني سنة 1365هـ وعمره 59 سنة، وقد مضى عليه في الدراسة العلمية 52 سنة وأصبح مرجعاً أعلى سنة 1380هـ وقد وصل عمره إلى 74 عاماً.

السيد أبو القاسم الخوئي (1317هـ-1413هـ) بدأ دراسته في الثالثة عشر من عمره، وأصبح مرجعاً بارزاً سنة 1390هـ، بعد ستين سنة من الدراسة والتدريس والاجتهاد.

ولا تكاد تجد في حياة أحد من المراجع أنه وصل إلى سدة المرجعية قبل أقل من أربعة عقود 40 سنة استغرقها في الدراسة والبحث العلمي.

ولا ينقطع بعد تصديه للمرجعية عن مواصلة التدريس والبحث بل يبقى ذلك جزءاً أساساً من برامجه في الغالب.

وعادة ما تكون تلك السنوات والأوقات مستغرقة مستهلكة في الاهتمام العلمي، حيث لا يزاحمها أي اهتمام آخر، حتى أن أكثرهم ينقطع خلالها حتى عن التواصل مع أسرته وبلده فهو يأتي إلى الحوزة العلمية في النجف أو كربلاء أو قم، ويبقى فيها، دون أن يفكر في العودة إلى بلاده أو زيارة أهله.. كما أن بساطة الحياة، ومنهج الزهد والتقشف، يوفّر عليه الوقت فلا يصرف منه على تسيير شؤون حياته وعائلته إلا القليل الضئيل.

ولا يكفي في الفقه الشيعي نيل مرتبة الاجتهاد والتمكن من الاستنباط للوصول إلى موقع المرجعية الدينية، بل يرى أكثر فقهائهم وجوب تقليد الأعلم، أي الأكفأ والأقدر علمياً.

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار استقلالية الحوزة العلمية، وضعف المؤثرات الخارجية في أوساط علمائها وطلابها، حيث يتعاملون مع المسألة تعاملاً شرعياً دينياً فلا يمنحون ثقتهم في التقليد والشهادة بالأعلمية إلا لمن أثبت ذلك عبر التدريس والبحث والمناقشة فينتج من ذلك أن لا يصل إلى موقع المرجعية إلا من امتلك مستوى رفيعاً من الكفاءة والعمق العلمي.

أما الميزة الثانية فتتشكل من خلال كون المرجع منحدراً من أسرة علمية صالحة، وهذا وإن لم يكن شرطاً من شروط المرجعية والتقليد، لكنه حاصل في الأعم الأغلب، فنادراً ما تجد مرجعاً لا ينتسب إلى سلسلة من الآباء والأجداد العلماء الفضلاء. مما يعني نشأته في أجواء العلم والصلاح، وتأثره الوراثي والتربوي بتلك النشأة.

كما أن طبيعة الحياة ضمن الحوزة العلمية تكرّس في وعي المنتمي إليها ولا وعيه، أخلاقيات النـزاهة ومبادئ الاستقامة، وخاصة من يتقدم في سيره العلمي، ويقترب من حياة العلماء الكبار والمراجع الأفذاذ، حيث يلحظ سلوكهم الملتزم، ويسمع منهم توجيهاتهم وانطباعاتهم عن أسلافهم الصالحين.

بالطبع لا يعني ذلك منح صك النـزاهة والعدالة لكل من في الحوزة العلمية، فإمكانية الفساد والانحراف، وتغلغل العناصر السيئة، ونمو الحالات السلبية أمر وارد وملحوظ.

لكن الحديث هو عن قمة الهرم الحوزوي، طبقة الفقهاء المراجع، والذين يشهد تاريخهم بأنهم كانوا على درجة عالية من الطهر والنـزاهة، فكم حاولت حكومات وسلطات أن تستدرج بعض المراجع إلى جانبها بالترغيب أو الترهيب، فباءت أغلب محاولاتهم بالفشل والخيبة.. وكم سعت بعض مراكز القوى الاقتصادية والاجتماعية إلى استمالة بعض المراجـع لخدمة مصالحهم فاصطدم سعيهم بالرفض والنفور.

ومع ما يتمتع به المراجع من نفوذ ويكون تحت تصرفهم من ثروات من الحقوق الشرعية، إلا أن السيرة العامة لهم تتصف بالزهد والقناعة والعزوف عن مباهج الحياة وترفها وكمالياتها.

وإذا كانت هاتان الميزتان تشكلان سمة غالبة لمراجع الشيعة، فإن المراجع يتفاوتون في قدراتهم القيادية، ومستويات تصديهم لقضايا الأمة وشؤونها، وهذا التفاوت ناشئ من اختلاف التوجهات الفكرية، وتحديد الوظيفة والتكليف في عصر غيبة الإمام المعصوم، ومن اختلاف الرأي والنظر في تقويم وتشخيص الواقـع الخارجي، وكذلك من تفاوت المواهب والقدرات الذاتية.

فالكثير من المراجع يقتصرون على العطاء العلمي في مجالي الفقه والأصول، وتنقيح وبلورة النظريات العلمية الفقهية والأصولية، وإصدار الفتاوى الشرعية للمقلدين، وما يتصل بذلك من المهام في إطار الحوزة والنشاط العلمي والإفتائي.

ويتحلى بعض المراجع بقدرات إدارية جيدة تمكنهم من استيعاب أوضاع الحوزة العلمية وتطويرها في بعض الأحيان، وتقوّي ارتباطهم بجماهير الأمة وفاعلياتها، وتسمح لهم بصنع علاقة مناسبة مع القوى المحيطة من حكومات وطوائف أخرى.

وهناك مراجع يمتازون بأن لديهم مشروعاً وبرنامجاً لإصلاح واقع الأمة، والنهوض بها من حالة التخلف، لتضع أقدامها على طريق الحضارة والتقدم.

وبحمد اللَّه فإن عصرنا الحاضر قد حظي ببروز عدة مراجع من هذا النمط الأخير، ممن يحملون همّ التفكير في تغيير واقع الأمة، ويكرسون حياتهم وموقعهم المرجعي لخدمة مشروع النهوض والإصلاح.

والإمام السيد محمد الشيرازي يأتي في طليعة هؤلاء المراجع الإصلاحيين إلى جانب الإمام الخميني والإمام السيد محمد باقر الصدر.

فإضافة إلى غزارة علمه، وسعة معارفه، وإضافة إلى زهده وتقواه، فهو مسكون بهم إنقاذ الأمة، عميق التحليل والملاحظة لأسباب تخلفها وانحطاطها، دائم التفكير في برامج ومناهج الخلاص والإنقاذ.

واهتمامه بـ(الكتاب) تأليفاً وطباعة ونشراً، هذا الاهتمام الكبير الذي يتحدث عنه هذا الكتاب الماثل بين يدي القارئ، إنما هو حلقة من منظومة فكرية، ومفردة من مشروع حضاري، كرّس الإمام الشيرازي حياته وجهوده في بلورته وخدمته.

وقد تعرفت على الإمام الشيرازي منذ ثلاثين عاماً تقريباً، وعايشته بعض الفترات فما جالسته مرة، إلا وكان يتحدث بجدّية وحماس عن مأساة تخلف هذه الأمة، وضرورة التحرك السريع والعمل الدائم من أجل إنهاضها وإنقاذها. بل وحتى خلال المحادثات الهاتفية طالما أصغيت إلى توجيهاته ووصاياه في التذكير بالمسؤولية تجاه قضايا الإسلام والمسلمين.

والإمام الشيرازي حينما يكتب لا يستهدف عرض عضلاته العلمية، ولا الاستغراق في طرح النظريات المعرفية ومناقشتها، وإنما ليسهم بكتابته في توعية جماهير الأمة، وبلورة مشروع الإصلاح والتغيير، لذلك جاءت أغلب كتاباته لتصب في هذا الاتجاه، وحتى حينما يكتب أبحاثاً في الفلسفة أو الأصول أو الفقه، فإنه يتحين الفرصة أثناء الموضوع لطرح هموم الأمة، وقضايا الرسالة. وفي توجيهه للكتابة والتأليف يدعو المفكرين والكتاب إلى التركيز على معالجة مشاكل الواقع المعاش للأمة، وجذور التخلف والانحطاط الذي تعانيه، ومن ثم تناول أساليب العلاج وطرق الخلاص.

وكما أشرت سابقاً فإن هذا الجانب يعتبر مفردة من مشروع إصلاحي متكامل يتبناه الإمام الشيرازي لإنقاذ الأمة، وإلى جانبه مفردات أخرى لا تقل عنه أهمية وخطورة، كمسألة التأسيس والمؤسسات حيث يدعو سماحته إلى المأسسة في مختلف المجالات، فكل شأن من الشؤون يجب أن تتشكل له مؤسسات ترعاه، وتجمع الطاقات والجهود التي تخدمه، وتحتل هذه المسألة حيزاً واسعاً من تفكير سماحته وكتاباته وتوجيهاته، كما أنه ومن خلال نشاطه العملي يقدم نموذجاً رائعاً في إنشاء المؤسسات الدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فقد تصدى بشكل مباشر لإشادة الكثير من المؤسسات في العراق والكويت وإيران، كما رعى وبارك إنشاء المئات من المؤسسات المختلفة في بقاع شتى من العالم.

وأرجو أن يوفق اللَّه تعالى أحد الباحثين لتناول موضوع المأسسة والتأسيس في فكر الإمام الشيرازي، ومسيرته الإصلاحية، كما بادر الأخ العزيز الشاب الطموح الأستاذ حسن حمادة لبحث موضوع الكتاب في فكر الإمام الشيرازي. وهي مبادرة طيبة ومتوقعة من الأخ الكريم، لما يتحلى به من نباهة واهتمام ثقافي، ولما ينطوي عليه من تطلع واندفاع نحو بث الوعي وتفعيل الحركة الفكرية الهادفة في المجتمع. أخذ اللَّه بيده إلى المزيد من التوفيق والعطاء في خدمة الدين والمجتمع، ووفق اللَّه سـائر شبابنا الأعزاء للاقتداء به في اهتماماته وإنجازاته الثقافية، وحفظ اللَّه الإمام الشيرازي علماً هادياً ومرجعاً مصلحاً وذخراً للإسـلام والمسلمين، وحفظ كل مراجعنا المصلحين وعلمائنا العاملين.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.

حسن الصفار    
1 رمضان 1421هـ