ريادة القرآن في إعلان حقوق الإنسان
لا يحتاج الباحث في القرآن الكريم إلى مزيد جهد وعناء ليكتشف ريادة القرآن الكريم في إعلان حقوق الإنسان، والتأسيس لمنظومة متكاملة من المبادئ والمفاهيم والإجراءات التي تقرر تلك الحقوق، وتعزز تحقيقها وحمايتها.
فكرامة الإنسان منحة من الله تعالى، مرتبطة بذات خلقته الإنسانية، دون أي إضافة أخرى، من عِرقٍ أو دينٍ أو مكانةٍ، حيث يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾.
والإنسان في القرآن الكريم هو سيّد هذا الكون بإذن الله تعالى، حيث سخر الله له كل ما في الوجود ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾. وأمر تعالى الملائكة أن يؤدوا مراسيم التحية والإكرام للإنسان احتفاءً بولادته، يقول تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ*فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾.
كما قرر القرآن الكريم مبدأ المساواة بين أفراد البشر ذكوراً وإناثاً على اختلاف انتماءاتهم، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
وقرر القرآن الكريم حق الحياة، وحماية هذا الحق لكل فرد، بأعلى درجة من الاهتمام والتأكيد، فاستهداف حياة أي فرد من البشر هو اعتداء على البشرية جمعاء، يقول تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا.
وكذلك حق التمتع بالحياة، وإشباع الرغبات والحاجات من خيراتها، يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾.
وبسط القرآن الكريم القول حول تقرير حرية الاعتقاد والرأي للإنسان، حيث تناولته عشرات الآيات القرآنية، كقوله تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ وقوله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.
كما أكد القرآن الكريم على الحق في العدل بين البشر، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾.
كما قرر القرآن الكريم شراكة الناس في الاستفادة من موارد الطبيعة، واستخدام ثروات الحياة، يقول تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾.
وكذلك حق الناس في المشاركة في الإدارة السياسية وتسيير شؤون الحياة، يقول تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ ويأمر، الله نبيه محمداً بقوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾.
هكذا يُرسي القرآن الكريم معالم منظومة متكاملة من المبادئ والمفاهيم والأحكام لتشمل كل أبعاد حقوق الإنسان، مما لم يكن مفكراً فيه قبل هذا العصر.
وكانت السنة النبوية الشريفة وخاصة في بعدها العملي المتمثل في الممارسة القيادية لرسول الله ، انعكاساً وترجمة فعلية لإعلان حقوق الإنسان في القرآن الكريم.
حيث كان رسول الله يبدي الاحترام والتكريم لكل إنسان، صغيراً كان أو كبيراً، رجلاً كان أو امرأة، وإن كان مشركاً رافضاً لدعوته، ما لم يأخذ موقف الظلم والعدوان، كما تؤكد ذلك الكثير من شواهد السيرة النبوية، انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
وحينما وجّه أحد الصحابة كلاماً بذيئاً لأحد المشركين في محضر رسول الله ، نهره رسول الله قائلاً: (مه، أفحشت على الرجل، ثم أعرض عنه) كما جاء في حوادث غزوة بدر.
ويقوم حينما تمر به جنازة يهودي مجيباً على تساؤل أصحابه كيف تقوم لجنازة يهودي بقوله: (أليست نفساً؟). أي إن كون المتوفى إنساناً يكفي لإظهار الاهتمام بجنازته، بغض النظر عن أي صفة أخرى.
وتؤكد السيرة النبوية الشريفة على ممارسة الرسول منهج الشورى في إدارته لأمور الأمة، في مختلف المجالات، في قضايا الحرب وشؤون السلم، فكانت عبارته المشهورة (أشيروا عليّ) حتى قال بعض صحابته: (ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله ).
وكان يحكم بين الناس بالعدل، ويساوي بينهم في العطاء، وفي تكافؤ الفرص، حيث قلّد زيد بن حارثة منصباً عسكرياً رفيعاً، وكان في الأصل مولى مستعبداً، وكذلك قلّد ابنه أسامة بن زيد، كما جعل بلال الحبشي المؤذن الداعي للصلاة والاجتماعات، وعيّن عبدالله ابن أم مكتوم كفيف البصر إماماً يخلفه في صلاة الجماعة، وعيّن أم ورقة إماماً لصلاة جماعة النساء، وكسر أعراف التفاوت القبلي والطبقي في الزواج، فزوّج ابنة عمه ضبيعة بنت الزبير بن عبدالمطلب من مقداد بن الأسود، فتكلمت في ذلك بنو هاشم، فقال : (أردت أن تتضع المناكح)، أي أن لا يتعالى أحد على أحد في موضوع التزاوج.
ولم يقمع المعارضة الداخلية في وسط ما أطلق عليه مصطلح (المنافقين)، رغم إساءاتهم المتكررة، إلا أنه لم يلجأ في التعامل معهم إلى القوة والعنف، ولم يصادر شيئاً من الحقوق المدنية لأحد منهم، بل كانوا يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة كسائر المسلمين، يحضرون المسجد، ويدلون بآرائهم في قضايا السياسة والمجتمع، ويأخذون نصيبهم من الغنائم وعطاء بيت المال.
وحين كان ينفعل بعض الصحابة تجاه استفزازات أحد من هؤلاء المنافقين، ويطلب الإذن من الرسول لردعه وقمعه، كان يجيب: (دعه. لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).
ويمكن القول إن سيرة رسول الله تقدم أفضل نموذج تطبيقي في تاريخ البشرية لمبادئ حقوق الإنسان.