تقديم كتاب «لقمان الحكيم»
الكتاب: لقمان الحكيم
المؤلف: الشيخ علي بن منصور المرهون
الناشر: الطبعة الثالثة 2003م، دار الأولياء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد وآله الطاهرين.
عالم الدين يمثّل الدين في أوساط الناس، فقربه من الناس واقترابهم منه، يساعد على تركيز الحالة الدينية وتعميقها في المجتمع، وهذا لا يتحقق إلا إذا امتلك عالم الدين خلق التواضع، والشعور بالمسؤولية تجاه قضايا الناس.
إن تواضع العالم يعني تواصله مع جميع طبقات المجتمع وشرائحه، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، متعلمهم وجاهلهم. تواصلاً طبيعياً من شاكلة علاقات الناس ببعضهم، حيث لا يكون في نفس العالم أنفة ولا تعالياً على أحد من الناس، ولا يشعر من يتعاطى معه برهبة أو كلفة، كما وصف ضرار الضبابي أمير المؤمنين : «كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استفتيناه».
أما شعوره بالمسؤولية تجاه الناس، فيتجلى في اهتمامه بتوعيتهم وتثقيفهم، باللغة المناسبة لإدراكهم، والأسلوب المؤثر في نفوسهم وأفكارهم، عبر الخطابة والكتابة والمحادثة.
وكذلك الاهتمام بشؤونهم الحياتية، بتفقد حاجات الفقراء والمساكين، ومعالجة القضايا والمشاكل الاجتماعية.
فإذا اتصف العالم بهاتين الصفتين: التواضع والاهتمام بقضايا الناس، كسب محبتهم، ونال ثقتهم، وكان خير ممثل للدين بينهم، حيث يكون سبباً لإقبالهم على التدين، والتزامهم بشعائره، ومراعاتهم لأحكامه، وبذلك يدرك رضا الله سبحانه وتعالى، والذي يجب أن يكون الهدف الأساس، والغاية المقصودة من طلب العلم، ومن تقمص شخصية عالم الدين.
وسماحة العلامة الشيخ علي المرهون حفظه الله، هو مثل بارز، ونموذج رائع، لتلك الشخصية الدينية العلمية المحبوبة في قلوب الناس، القريبة من نفوسهم، لما اتصف به من خلق التواضع والبساطة مع الناس، والسعي لخدمتهم وقضاء حوائجهم.
فهو وثيق الصلة بالناس دائماً وأبداً، بمواظبته على صلاة الجماعة في الأوقات الثلاثة فجراً وظهراً ومغرباً، وبمجلسه المفتوح لكل الزائرين يومياً، وبمرافقته السنوية للحجاج والمعتمرين وللزائرين للعتبات المقدسة في العراق، وبمشاركته في تشييع الجنائز والصلاة على الميت، وباستجابته لدعوة من دعاه غنياً كان أو فقيراً، وبعيادته المرضى، وحضوره لتهنئة المتزوجين، أو العائدين من السفر من أبناء محيطه.
وهو يتعامل مع الناس ببساطة متناهية ودون أي تكلف، يحادثهم، ويمازحهم، ويصغي لهم، ويبادرهم بالسؤال متفقداً أحوالهم وأحوال ذويهم. ولا يشعر من تعامل معه بأي هيبة أو تميز، إنه يرفض أن يقبّل أحد يده، حيث تعوّد الناس على تقبيل يد العالم، احتراماً له، وإظهاراً لمكانته.
وفي مجال الإرشاد والتوجيه الديني والأخلاقي، فإن سماحته يمارس الخطابة الحسينية في المناسبات المعروفة، حيث يلتزم بعدة مجالس كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، وأيام عشرة محرم، وأيام ذكريات أهل البيت ، في مدينة القطيف والقرى المحيطة بها، وحيثما يكون، ففي أسفاره أيضاً يحرص على إحياء هذه المناسبات الدينية.
كما يقوم بالخطابة في مجالس العزاء، المعروفة عندنا بـ (الفاتحة) حيث يجلس أهالي المتوفى لاستقبال المعزين لهم ثلاثة أيام، تتخللها القراءة صباحاً وعصراً.
وأسلوبه في الخطابة يعتمد البساطة والوضوح، ولا أزال أتذكر أحاديثه الوعظية في شهر رمضان المبارك، في المجلس الذي يقيمه الحاج مهدي الأسود رحمه الله في حسينية (ميّاس). وكان والدي حفظه الله يأخذني معه وأنا في السنوات الأولى من عمري، وعلى وقع خطاباته بدأت تتشكل معرفتي بالدين وأحكامه وتعاليمه.
ففي بداية ليالي شهر رمضان يتحدث عن فريضة الصيام وحكمته وأحكامه، ثم يخصص لكل أصل من أصول الدين العقدية (التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد) ليلة من ليالي الشهر الكريم، فيستعرضها بتبيين وتوضيح.
ثم ينتقل إلى الحديث عن فروع الدين، كالصلاة والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيبحث كل واحد منها في ليلة خاصة. وهكذا قضايا الطهارة والنجاسة، كالوضوء والغسل والتيمم، وعبر مجالسه هذه والتي هي بحق دروس توعوية للجمهور، كان المستمعون يتعرفون على عقائد الدين وأحكامه، بلغة واضحة سهلة، وكان يتيح الفرصة للسائلين أثناء الخطابة وبعدها.
ومن برامج الشيخ المرهون في التعليم والإرشاد، أحاديثه مع المصلين بعد صلاتي الظهر والعصر من أيام شهر رمضان، فبعد انتهاء صلاة الجماعة، ومجلس القراءة، يبدأ الشيخ قراءة أدعية الأيام والتسبيحات الواردة، ثم يتحلق حوله الحاضرون ليشرح لهم بعض أحكام الصوم، ويجيب على أسئلتهم واستفساراتهم.
وحينما يرافق الحجيج كمرشد للحملة، يلقي بحثاً ليلياً حول مناسك الحج، ومسائل الطهارة، وأحكام الصلاة، ويستمع من كل فرد قراءته لسورة الحمد والتوحيد وأذكار الصلاة، ليصحح له قراءته.
وقد التحقت بحلقة درس لديه في شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك في النحو والصرف سنة 1391هـ في النجف الأشرف، وكان الدرس في مسجد الطوسي، وكان من عادته أن يختم درسه بتوجيه أخلاقي تربوي للطلاب، مستثمراً نقطة في الدرس كمدخل للتوجيه.
أما عن اهتمامه بقضايا الناس، فذلك مشهود يعرفه الجميع، فهو بمثابة المؤسس الأول للجمعية الخيرية الاجتماعية في القطيف، حيث دعا الأهالي للاهتمام بأوضاع الفقراء والمحتاجين، بشكل منظم، وليس من خلال جمع التبرعات في مجلس التعزية، كما كان متداولاً، واستجاب له مجموعة من أهالي المنطقة، فأنشأ (صندوق البر الخيري بالدبابية) والذي استمر عدة سنوات وكان نواة لجمعية القطيف الخيرية.
وباعتباره وكيلاً معتمداً من مراجع التقليد فإنه يستلم الحقوق الشرعية، ولكنه لا يصرف شيئاً منها في شؤونه الشخصية، لاكتفائه بموارد القراءة الحسينية، وكان ينفق على الفقراء والمحتاجين، ولعدة سنوات كان يجتمع مطلع كل شهر عند باب مجلسه عدد كبير منهم، ليعطيهم حوالات لصرف المواد الغذائية حسب اتفاقه مع بعض المحلات التجارية.
ثم أحال ذلك على الجمعية الخيرية، وكان مقصداً للمحتاجين، ولا يرد محتاجاً إذا كان لديه ما يعطيه.
ومن عاداته أن يشجع كل شاب يلقاه على الزواج، ويبدي له الاستعداد لعونه، كما يتفقد أحوال طلاب العلوم الدينية، وخاصة أثناء هجرتهم للدراسة.
هذه الصفات الطيبة زرعت محبته ومودته في قلوب الناس، ووثقت صلتهم به، ومكنته من التأثير في نفوسهم لصالح الالتزام الديني.
ولابد من الإشارة هنا إلى سائر إنجازاته وخدماته الدينية والثقافية والاجتماعية.
فقد درس على يديه عدد من الخطباء وطلاب العلوم الدينية، أثناء وجوده في البلاد، وحين يكون في النجف الأشرف، حيث كان يمكث هناك حوالي أربعة أشهر أو أكثر كل عام، إلى أن حال ضعف الصحة بينه وبين السفر قبل أربع سنوات تقريباً.
وألف مجموعة من الكتب النافعة منها:
شعراء القطيف في جزئين.
لقمان الحكيم.
أعمال الحرمين.
أعمال شهر رمضان.
الروضة العلية.
المرهونيات.
الدرة في أحكام الحج والعمرة.
مغني القراء.
قصص القرآن.
أربح التجارات في الأدعية والزيارات.
وكان يشجع العلماء والأدباء على الإنتاج الثقافي، ويتبنى الاهتمام بنشر تراث البلاد، فقد تصدى لطبع مجموعة من الكتب بمساعدته وإشرافه، ككتاب (الدمعة القطيفية) للشيخ علي المحسن، و(ديوان الشيخ عبد الله المعتوق)، و(ديوان الحاج حسين الشبيب)، و(يوم الأربعين) للشيخ عبد الحي المرهون، و(بشرى المذنبين وإنذار الصديقين) للشيخ ناصر الجارودي، و(الروضة الحسينية) لوالده رحمه الله، وغيرها من الكتب.
كما أسس المسجد الكبير في محلة سكناه (المسعودية) جنوب مدينة القطيف، والذي أصبح يعرف باسمه (مسجد الشيخ علي المرهون)، وساعد في إنشاء الكثير من المساجد والحسينيات في المنطقة.
إن سماحة الشيخ علي المرهون حفظه الله بهذه الصفات الجليلة، والإنجازات الطيبة، يشكل نموذجاً للاحتذاء والإقتداء أمامنا كجيل جديد من طلاب العلوم الدينية، والمتصدين لوظيفة التبليغ والإرشاد الديني، نسأل الله تعالى أن يحفظ سماحته، ويلبسه رداء الصحة والعافية، وأن يضاعف له الأجر والثواب على ما بذل وأعطى لخدمة دينه ومجتمعه.
ولا يفوتني أخيراً أن أشكر هذه البادرة الطيبة لمجموعة من الشباب الصالحين من أبناء منطقة الشيخ المرهون والذين أرادوا تقديم باقة ودّ ووفاء لسماحته بتبني إعادة طبع كتابه البكر (لقمان الحكيم) وهو كتاب تربوي توجيهي نافع، أرجو أن يستفيد الشباب من قراءته، وتطبيق مضامينه.
والحمد لله رب العالمين.
حسن بن موسى الصفار
26 صفر 1424هـ