تقديم كتاب «المدارس التفسيرية»
الكتاب: المدارس التفسيرية
المؤلفين: محمد الشبيب ومحمد الشملاوي
الناشر: الطبعة الأولى، 1427هـ، أطياف للنشر والتوزيع، القطيف – السعودية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين.
من الطبيعي أن لا يتوقف بحث الإنسان وتأمله في موجودات الكون ومعادلاته وأسراره عند حدٍ معين، نظراً لرحابة هذا الكون العظيم، وسعة أرجائه، وعميق أسرار وجوداته. ونتيجة للقوة العقلية الهائلة التي منحها الله تعالى للإنسان.
فكلما أدرك شيئاً من حقائق الطبيعة والحياة، قاده ذلك إلى البحث عن غيرها، ودفعه إلى استشراف ما وراءها، وهكذا تتراكم معارف الإنسان وتتطور خبرته العملية والعلمية.
إن الكون كتاب مفتوح أمام عقل الإنسان، لذلك تتبارى الأفهام في تفسير أحداثه، واكتشاف قوانين الحركة فيه، ومعرفة خواص كل كائناته.
فتختلف الأفكار وتتعدد النظريات وتتوالد التخصصات العلمية، وربما تسود نظرية عن جانب من جوانب حياة الإنسان، أو قضايا الكون، لحقبة من الزمن، ثم تنسخها نظرية مغايرة، وتاريخ العلم والمعرفة شاهد على التغيير والتطوير في كل الميادين والحقول.
إن عقل أي إنسان مهما كانت عظمته لا يستطيع الإحاطة بأسرار الكون، ولا يتمكن من إدعاء استيعابها، فهو يستطيع النظر من زاوية معينة، وضمن مساحة محدودة، ليتكامل جهده مع جهود سائر العقول المتجهة إلى سائر الزوايا والمجالات. لذلك تكونت التخصصات المختلفة في العلوم.
وإذا كانت الطبيعة والحياة هي كتاب التكوين الإلهي، فإن القرآن الكريم هو كتاب التشريع الإلهي، الذي أنزله الله تعالى هدى للإنسان، وترشيداً لفكره، وتقويماً لسلوكه.
ويتماثل الكتابان التكويني والتشريعي في عظمتهما وإعجازهما، واستهلاكهما لعقل الإنسان وجهده، ليدرك عظمة خالقه، وليستفيد من وجوده في هذه الحياة إلى أقصى حدٍ ممكن.
لذلك اتسعت آفاق البحث القرآني، كما اتسعت رحاب علوم الطبيعة، حيث بدأ اهتمام المسلمين بكتاب ربهم القرآن الكريم، منذ الأيام الأولى لنزول آياته المباركة، فكانوا ينصتون لاستماعه، ويبادرون لتنفيذ أوامره، ويسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما يلتبس عليهم من مقاصده ومعانيه.
كان المجتمع حديث عهدٍ بمفاهيم القرآن، وكانوا يتعاملون مع آياته بعفوية وبساطة، ومع مرور الزمن تطورت ونمت حالة الانتباه والإدراك لأسرار آيات القرآن الكريم، ودقته في استخدام الحروف والكلمات، وللأغراض والمقاصد التي يستهدفها، فأصبحت آيات القرآن الكريم مفاتيح لمختلف توجهات المعرفة والفكر، وتسابق العلماء في بذل جهودهم واعتصار أفكارهم، لفهم معاني كلام الله، وتشخيص مصاديقها وتطبيقاتها في واقع الحياة.
فتأسست علوم تخصصية لدراسة القرآن في أبعاده المختلفة، ونشأت مدارس لتفسير آياته وسوره، تعددت من خلالها زوايا النظر، وجوانب التأمل لفهم كتاب الله العزيز، والاستفادة من معارفه وعلومه.
هذا التنوع والاختلاف في فهم القرآن وتفسيره إنما يعني الإقرار بحرية الرأي والفكر، والتأصيل لحق الاجتهاد والنظر، والتأكيد لشرعية الاختلاف العلمي المعرفي، وهو ما ميّز الحضارة الإسلامية، وشق أمامها طريق الريادة والتقدم في تلك العصور.
فلا أحد يحتكر حق الفهم لكلام الله تعالى، الذي هو بيان للناس، والذي دعا الله تعالى عباده للانفتاح عليه مباشرة والتدبر فيه، يقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[1] ، ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾[2] ، نعم لا بد من الموضوعية والتجرد من الأهواء وامتلاك أدوات المعرفة والفهم ليستطيع الإنسان أن يُبحر في محيط القرآن الواسع، وينهل من نميره الصافي.
صحيح أن المعصوم هو الأقدر والأعرف بمعاني القرآن وأغراض آياته، لكن ذلك لا يعني حرمان العقول من الاستضاءة بنور القرآن، والتلمذة في أرجاء مدرسته الرحيبة. إن كل أحد يمكنه الاستفادة من القرآن بمقدار استيعابه وقابليته، جاء عن الإمام علي : «ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى»[3] .
وورد عن الإمام علي أنه قال: "تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر" غرر الحكم.
وعن الإمام الحسين أنه قال: "آيات القرآن خزائن العلم فكلما فتحت خزانة فينبغي لك أن تنظر فيها"[4] .
إن الاهتمام بفهم القرآن وإدارك معاني آياته، أنتج للأمة تراثاً معرفياً كبيراً، وكرّس في أوساط علمائها حرية الفكر وحق التعبير عن الرأي، كما بعث الحراك العلمي العقلي في مجالات العقيدة والشريعة، ومختلف جوانب العلوم.
والكتاب الماثل بين يدي القارئ الكريم (المدارس التفسيرية) هو سجل توثيقي لجهود علماء المسلمين في تفسير القرآن العزيز، ومحاولات فهمه عبر عصور التاريخ الإسلامي، تتضح من خلاله تعددية المناهج، وتنوع القراءات والمدارس، واختلاف الآراء والتوجهات، في إطار الفكر القرآني والثقافة الإسلامية.
كما يشير إلى حركة التطور في المعارف القرآنية، فكل مفسر قد يشكل إضافة نوعية، وكل جيل قد يقدم عطاءً جديداً يستلهمه من خزائن القرآن الكريم.
لقد سأل رجل الإمام جعفر الصادق : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟
فقال : "لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة"[5] .
لقد بذل الأخوان الكريمان الأستاذ محمد الشبيب والأستاذ محمد الشملاوي جهوداً طيبة في إعداد مادة هذا الكتاب التوثيقي، باستقصاء مناهج التفسير، وتوجهات المفسرين، وبتعريف مختلف التفاسير بإيجاز مفيد.
إنه جهد مشكور يستحق التقدير، ويشكل خدمةً هامةً على صعيد المعارف والثقافة القرآنية.
ولا يفوتني أن أشيد بالدور الكبير الذي يقوم به المؤلفان الكريمان وزملاؤهما في مؤسسة علوم القرآن بأم الحمام في محافظة القطيف، فهي مؤسسة رائدة في مجال بعث الاهتمام بالقرآن في أوساط الناشئة والشباب، عن طريق دورات التدريس وبرامج الحفظ، والأنشطة المختلفة التي أحيت معارف القرآن في مجتمع المنطقة.
أرجو للمؤلفين الكريمين التوفيق والتقدم وأن يتقبل الله عملهما وينفع بجهودهما، وأهيب بأبناء المجتمع لدعم هذا النشاط القرآني المبارك، ولمساعدة هذه المؤسسة الهامة، ولتقدير هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم هدى بخدمتهم للقرآن وتوجههم لمعارفه.
والحمد لله رب العالمين.
حسن موسى الصفار
24/7/1426هـ
29/8/2005م