تقديم لكتاب «المرجان في أحكام الحيتان»

الكتاب: المرجان في أحكام الحيتان
المؤلف: الشيخ أبي القاسم محمد بن الحسن فندم
الناشر: دار المحجة البيضاء،  الطبعة الأولى 1429هـ -بيروت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين

لا شك أن للعلم جاذبية كبيرة في قلوب عاشقيه، تجعلهم مستغرقين في رحابه، متجهين بكل طاقاتهم واهتمامهم نحو ميادينه، يصرفون وقتهم وجهدهم في كسب المزيد منه.

والعلم لوارده مثل ماء البحر لا يزيد شاربه إلا ظمأً، وكذلك هم عشاق العلم كلما اغترفوا منه عظم تعلقهم به، واشتد اندفاعهم نحوه.

فالثراء العلمي ينتج الشعور بالفقر إلى العلم، لأن الإنسان كلما تقدم علمه اتسعت رقعة المجهول أمامه، وأدرك حقيقة قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً. وهذا ما يدفعه لطلب المزيد من العلم، فيصبح شعاره وتطلعه هو ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. ويكون ذلك هو نهج حياته.

وهذا ما يفسّر استغراق العلماء وتفرغهم لطلب العلم، ودراسته وبحثه بكل وجودهم وعمرهم، واضعين نصب أعينهم مقولة: أعطه كلك يعطك بعضه.

وحين نقرأ في سير العلماء انقطاعهم عن كل ما ينشغل به الناس من جمع المال، وممارسة الملذات، والمخالطة مع الأقوام، وتوفير كل لحظة من حياتهم لحضور درس، أو مطالعة كتاب، أو بحث مسألة، أو تدريس طالب، أو تأليف كتاب، فإننا نعجب من مقاومتهم لإغراءات مختلف الرغبات والشهوات التي يتسابق إليها غيرهم.

أتراهم لا يمتلكون غرائز البشر، أو قدرات الاستمتاع؟

بلى، إنهم كسائر البشر في غرائزهم ورغباتهم المادية، لكنهم وقعوا في عشق العلم والمعرفة، فسيطر عليهم غرام البحث العلمي، ولذة الكسب المعرفي.

ولا يمتلك الإنسان العاقل إلا إكبار هذه الذات المنصرفة للعلم، والعاشقة للمعرفة، والمتجهة بكلها إلى البحث والنظر والتحقيق.

لكن هناك إشكالية ينبغي تسليط الأضواء عليها، وخاصة فيما يرتبط بالبحث في ميادين العلوم الشرعية، وعلى الخصوص مجال البحث الفقهي الذي يرتبط بمعرفة الأحكام التكليفية للإنسان المسلم في مختلف مجالات الحياة.

وتكمن هذه الإشكالية في تشخيص الموضوعات الخارجية، لمعرفة انطباق الأحكام الشرعية عليها.

فإن استغراق الحالة العلمية الفقهية في البحث النظري، دون اطلاع مباشر على موضوعات الأحكام، ودون معرفة واضحة للأشياء، وبعيداً عن الواقع المعيش للمكلفين، ودون رصد ومتابعة لتطورات الحياة وأوضاع المجتمع، قد ينتج إشكاليات في مجال تطبيق الأحكام الشرعية، ومعرفة مواردها ومصاديقها الخارجية.

ولتلافي هذا الإشكال لا بد من تطوير أجواء وبرامج الحوزات العلمية، بما يوفر فرص المباشرة للقضايا والأشياء، التي هي مورد انطباق للأحكام، وأن تتوفر المعلومات الكافية أمام الفقيه وطالب العلم الشرعي حول الموضوعات الخارجية، عبر وسائل المعرفة المتاحة، وبالانفتاح على الواقع المعيش، والمعاشرة للمجتمعات المعاصرة على صعيد أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن طرح المسائل الشرعية الفقهية بلغة تجريدية عامة، وعلى شكل افتراضات، إذا كان كذا فالحكم كذا، يجعل أكثر المكلفين في موقف الحيرة، وعدم معرفة التكليف، وبالتالي عدم القدرة على الالتزام أو صعوبته.

فمع تقدم العلم والتكنولوجيا تربى إنسان هذا العصر على لغة الوضوح والتبيين، وتيسير الوصول إلى الفكرة وتطبيقاتها، وذلك في مختلف المجالات.

فإذا رأى نفسه أمام وضع آخر، في مجال معرفة الحكم الشرعي في قضاياه المعيشية الحياتية، يجعله في حالة التردد والارتباك، بسبب عدم الوضوح والتشخيص الدقيق للموضوعات الخارجية، فإن ذلك لا يشجعه على الالتزام بالأحكام الشرعية والأخذ بها.

من هنا تظهر أهمية توجه بعض المشتغلين بالعلوم الشرعية إلى مباشرة الاطلاع، والتعامل مع الأشياء والأمور التي هي موارد لانطباق الحكم الشرعي.

فإن هذا التوجه يوفر أمام المجتمع تشخيصاً دقيقاً لموضوعات الأحكام، يسهّل عليهم مهمة الالتزام بالتكليف الشرعي، ويمنع وقوعهم في الأخطاء والمخالفات، الناتجة من الخلل في التشخيص والتطبيق.

وبين يدي القارئ الكريم تجربة طيبة قيمة، فهذا الكتاب، الذي يسعدني التقديم له، هو نتاج بحث علمي وخبرة عملية، ومعرفة مباشرة، في موضوع هو محل ابتلاء وحاجة للناس.

فالأسماك مادة غذائية رئيسة، وخاصة في مجتمعاتنا الخليجية، حيث تشكل مورداً اقتصادياً مهماً، وهي ثروة كبيرة لم تستفد منها بلادنا، مع الأسف الشديد، بالمستوى المطلوب.

فبلادنا تقع على ضفة أهم مورد بحري للثروة السمكية في العالم، لكنها تستورد أكثر من نصف استهلاكها من الأسماك، في الوقت الذي تمتلك فيه أغنى مجرى مائي بالثروة السمكية في العالم، والذي يكتنز فيه أندر الأنواع وأثمنها.

وكان يجب أن تكون بلادنا مصدرة للأسماك لا مستوردة لها.

وكما يقول الخبراء، فإن السعودية أقل الدول استثماراً للخيرات الكثيرة التي تتوفر في البحر الأحر والخليج العربي.

لقد بلغ إجمالي الإنتاج من الثروة السمكية في السعودية لعام 2005م 74375 طناً مترياً. بينما استوردت في نفس العام ما يبلغ 141297 طناً مترياً بقيمة 766 مليون ريال تقريباً، وأهم الدول التي تستورد السعودية منها المنتجات السمكية هي على الترتيب: اليمن، سلطنة عمان، قطر، مصر، البحرين.

ولسنا الآن بصدد الحديث عن أسباب ضمور وضعف حركة اقتصاديات الأسماك في بلادنا، وهو موضوع يستحق الاهتمام منا جميعاً، في ظل ما تشكو منه مجاميع من أبنائنا من البطالة، وعدم توفر فرص الدخل المناسب، وفي ظل التضخم الاقتصادي وغلاء المعيشة.

إن هناك أسباباً تتعلق بالأنظمة والقوانين، وأخرى ترتبط بتقصير رجال المال والأعمال، وثالثة ترتبط بضعف الفاعلية والنشاط لدى شباب الجيل.

أما هذا الكتاب فهو بحث جميل واسع، أمضى فيه مؤلفه زمناً طويلاً من الإعداد والمراجعة، والأهم من ذلك، هو خبرة المؤلف العملية في موضوع البحث، حيث إن المؤلف، ومع اشتغاله بطلب العلم منذ سنوات في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف وقم المقدسة، ثم مواصلته للدراسة في الحوزة العلمية ببلده القطيف، إلا أنه من هواة ركوب البحر لممارسة الصيد، في أوقات التعطيل الدراسي والإجازات، مما أكسبه خبرة ومعرفة في هذا الموضوع، إلى جانب دراسته واهتمامه بالقراءة والمطالعة، في النصوص الواردة حول الأسماك، من الأحاديث والروايات وآراء الفقهاء وفتاواهم.

ولا بد لي أن أشيد بما رأيته من المؤلف من انكباب على مطالعة الكتب المختصة بهذا الشأن، حيث يشرفنا في غالب الأيام بالمجيء إلى المكتبة التي أنشأناها في مكتبنا بالقطيف، لتكون مفتوحة للباحثين والقراء، ويظل مستمراً في المطالعة والكتابة إلى انتهاء دوام المكتبة كل صباح يأتي فيه.

ولخبرته العملية أصبح مرجعاً لدى المتشرعين في مجتمعه في تشخيص كثير من الموضوعات التي تتعلق بها الأحكام في مجال الصيد، ومعرفة نوعية الأسماك، مما يجوز أكله وما لا يجوز.

إنني أبارك للأخ الكريم فضيلة الشيح محمد فندم هذا الإنجاز المبارك، وأرجو أن يأخذ الكتاب موقعه في ساحة العلم والمعرفة، وأن يكون نموذجاً لمقاربة العلماء للموضوعات الخارجية وبحثها على ضوء الخبرة والتجربة.

وأرجو للشيح المؤلف المزيد من التوفيق في مسيرته العلمية، وفي عطائه المعرفي، وفيما منحه الله تعالى من صفاء النفس وحسن الأخلاق وطيب المعاشرة. آملاً أن لا ينساني من صالح دعواته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

حسن موسى الصفار           
26 صفر 1429هـ            
4 مارس2008م