علي بن أبي طالب كتاب عميق المضامين يتجدد في كل عصر وفي كل ظرف
نشر موقع "جماعة الفضلاء - الناصرية " العراقي، مقالا لسماحة الشيخ حسن الصفار تحت عنوان: (علي بن أبي طالب كتاب عميق المضامين يتجدد في كل عصر وفي كل ظرف) بتاريخ: الجمعة 10/7/2009م، المقال مستل من كتاب سماحة الشيخ "الإمام علي وقضايا الأمة".
في قراءتنا لشخصية الإمام علي بن أبي طالب يجب علينا أن نجتهد في إعادة فهمنا له، وذلك انطلاقًا من وحي عصرنا وظروفنا، فعلي بن أبي طالب كتاب عميق المضامين، يتجدد في كل عصر وفي كل ظرف، ويستطيع كل جيل من الأجيال أن يقرأ من هذا الكتاب ويأخذ منه ما ينفعه لواقعه، ولإصلاح شؤونه. وفي قراءتنا علينا ألاَّ نكون أسارى لقراءات السابقين، فكل جيل يقرأ عليًّا من وحي فهمه وبيئته، فهناك من قرأ عليًّا كحالة إعجازية غيبية، كسائر الأولياء الذين يعطيهم الله سبحانه وتعالى مجالاً لخرق العادة وتجاوز المألوف حينما تقتضي حكمته تعالى وإرادته ذلك، ولكنها حاله استثنائية؛ لأن الأصل في الإمام علي وبقية الأئمة والأنبياء ـ عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام ـ أنهم بشر، يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ فالأصل في حياتهم الحالة البشرية الطبيعية، ولا تكون المعجزة أو الكرامة إلا حين تتطلبها حاجه الرسالة والدعوة.
إن بعضنا يريد أن يبرِّر لنفسه عدم الاقتداء بالأنبياء والأئمة, فيصورهم كحالة غير بشرية، حتى يكون معذورًا أمام نفسه وأمام الآخرين في حال لم يقتدِ بهم، إذ لا يمكن الاقتداء والتطابق بين حالة بشرية وأخرى غير بشرية.
وهذا لايعني اننا ننكر أصل حدوث المعجزات والكرامات للأنبياء والأولياء، بإذن الله تعالى، وليس بقدرة ذاتية منهم، ان القران الكريم يحدثنا عن معجزات الأنبياء كنبي الله عيسى في قوله تعالى: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾، وكما ورد في القران الكريم من كرامة للسيدة مريم بنت عمران: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾, لكن معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، إنما يأذن الله تعالى بتحققها على أيديهم في حالات استثنائية، تقتضيها حكمته وإرادته، وليست حالاً دائماً،، لذلك ردّ النبي محمد طلبات المشركين منه فعل الخوارق، كأن يفجر عين ماء جارية من الأرض، أو يسقط عليهم كسفاً من السماء، أو يصنع بيتاً من ذهب...فأجابهم كما يقول تعالى: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً﴾.
وهناك قسم من المحبِّين قرأ عليًّا كحالة مأساة، وهذه جنبة واقعية في حياة الإمام علي، فقد تعرض لظُلامات كثيرة في حياته، وحتى بعد مماته، ولكن فاعلية جهده وجهاده أكبر من أن تُحَجَّم في زاوية المأساة والظلامة.
إن بعضنا يصف ما يقرب النصف من حياة أمير المؤمنين بأنها فترة انطواء وانعزال، وأنه لم يقم بأي عمل عام بعد وفاة رسول الله إلى أن تولى الخلافة، أي طوال خمس وعشرين سنة لم يصنع شيئًا ولم يقم بأي دور!.
إن من يُصِرُّ على أن عليًّا كان جليس داره، منطويًا على نفسه، يشعر بالأسى والحسرة على نزع الخلافة منه، ولا يشعر بأي مسؤولية تجاه واقع الأمة، فهو غافل عن أن هذا لا يتناسب مع فكر الإمام علي ونهجه وتوجيهاته, ولا يتفق مع ما سجله التاريخ عن دوره ومواقفه في تلك المرحلة.
لقد كان الإمام علي يقول للناس: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي عِبَادِهِ وبِلادِهِ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ والْبَهَائِمِ»، إن الخلافة ـ عند الإمام علي ـ لم تكن قضيه أساس، بحيث يجمّد حياته إن لم يحصل عليها، لأن التطلع للمناصب يمكن أن يخالج نفوسنا نحن، فإذا لم نحصل على ذلك المنصب أو الموقع نشعر وكأننا فقدنا دورنا في هذه الحياة، لذلك تجد بعضنا ينكفئ على نفسه, ويشعر بالأسى لفقدانه منصبًا كان يتطلع إليه, أو موقعًا كان يحتلّه، لكن علي بن أبي طالب لم يكن هكذا، لأن الخلافة لم تكن في يومٍ من الأيام غاية مطمحه. يقول عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، فَقَالَ لِي: «مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟» فَقُلْتُ: «لا قِيمَةَ لَهَا»، فَقَالَ «واللهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً».
إننا عندما نعرف نظرة الإمام علي لقيمة هذه المناصب, لا يمكننا أن نحصر حياته بين وفاة الرسول وتسلّمه الخلافة بأنها عبارة عن حياة عزلة وألم، ولكن لأن بعض الأجيال كانت تعيش الانطواء والانكفاء، حاولوا أن يبرِّروا لأنفسهم ما كانوا يعيشونه من حال، ولكن الحقيقة عندما ندرسها بموضوعيه نجد أن علي بن أبي طالب لم يتخلَّ عن وظيفته الرسالية يومًا واحدًا, بل كان يتحمل المسؤولية دوماً تجاه الرسالة والأمة.
إن القراءة التقليدية لحياة الإمام علي تحصر دوره بعد وفاة الرسول في الجانب المأساوي، وتركز على دوره في حياة الرسول وحين استلامه الخلافة فقط, وهذه القراءة لا تعطينا صورة واقعية عن الدور الذي مارسه الإمام، وبخاصّة بعد وفاة الرسول.
إن الدور الذي قام به الإمام علي بعد وفاة رسول الله هو من أهمَّ تجليات إخلاصه لمصلحة الدين والأمة، وسمو نفسه عن تأثير العواطف والمصالح الشخصية الذاتية.
لقد حفظ الإمام وحدة الأمة في ذلك الظرف الخطير، ورعى مصلحة الكيان الإسلامي الذي كان بحاجة إلى آرائه الصائبة، ومعرفته العميقة بمفاهيم الدين وتطبيقات أحكامه.
هكذا كان علي بن أبي طالب، وهذا ما يجب أن يكون عليه نهج محبيه وأتباعه، فإلى آخر لحظة من لحظات حياته كان يهتم بوحدة الأمة، فقد كان يعلم أن قاتله الشقي ابن ملجم ينتمي إلى الخوارج، ويعرف أنهم من دفعوه إلى ارتكاب هذه الجريمة، لكنه ما أراد لمقتله أن يكون سببًا جديدًا لمشكلة في واقع الأمة، ولذلك قال في وصيته: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَلا لا تَقْتُلُنَّ بِي إِلا قَاتِلِي، انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ ولا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ».
إن سيرة الإمام علي تؤكد إخلاصه العميق للدين، وحرصه الشديد على وحدة الأمة، فهو يتعبد إلى الله تعالى بالحفاظ على الوحدة، ويتمسك بها كطريق إلى ثواب الله ورضوانه، فالوحدة مبدأ ديني وفريضة شرعية قبل أن تكون قضية سياسية أو مصلحة وقتية.
جديرٌ بالذكر أن الكتاب صدر في طبعتين: الأولى 1428هـ -2007م عن دار أطياف السعودية, الثانية 1429هـ -2009م عن دار الصفوة, لبنان.