في ذكرى المولد النبوي

مكتب الشيخ حسن الصفار
بمناسبة ذكرى ميلاد منقذ البشرية الرسول الأعظم محمد ، وحفيده الإمام جعفر بن محمد الصادق ، ألقى سماحة الشيخ حسن الصفار كلمة في يوم الجمعة الموافق 17 ربيع الأول 1425هـ (7 مايو 2004م)، تحدث فيها عن شيءٍ من سيرة المصطفى .

وفيما يلي نص الكلمة:
تمهيد..


لا شك أن رسول الله هو أعظم شخصيةٍ قد تركت آثارها في تاريخ البشر، ولا يستطيع أحدٌ أن يُجادل في هذه الحقيقة.

صحيحٌ أن من ينتمون إلى السيد المسيح (نبي الله عيسى) هم أكثر عدداً ممن ينتمون إلى الإسلام وينتسبون إلى النبي محمدٍ ، ولكن الملاحظ أن الانتماء إلى نبي الله عيسى انتماءٌ اسمي، أما من الناحية العملية فليس هناك تأثيرٌ لسيرة وأقوال نبي الله عيسى في حياة مَن ينتسبون إليه، وهم لا يدّعون ذلك. بل إن سيرة السيد المسيح مقتضبةٌ عندهم، وروايات العهد الجديد من الإنجيل مختلفة، وأكثره إن لم يكن كلّه يتحدث عن أمورٍ وجدانية روحية أخلاقية عامة فليس فيه تشريعات تُلامس حياة الناس وأوضاعهم.

أما بالنسبة لرسول الله فالأمر يختلف تماماً، فعلى وجه الكرة الأرضية هناك ما يقارب المليار وأربعمئة مليون شخص يُقدّسون هذا الرجل، ويعتقدون بنبوته وأنه رسول الله ، وأنهم ملزمون بالأخذ بهديه وشريعته، فأي فعلٍ أو قولٍ أو تقريرٍ يثبت عن رسول الله يرون أنهم ملزمون به وأنه حجةٌ عليهم.

وليس هناك شخصٌ في التاريخ اهتم به أتباعه حتى في جزئيات حياته كاهتمام المسلمين برسول الله ، فلا توجد سيرةٌ مفصلةٌ لأي زعيمٍ من البشر كالسيرة المفصلة عن رسول الله ، إذ اهتم المسلمون بكتابة وتدوين كل ما يتعلّق بشخصية رسول الله وجزيئيات حياة: صفاته الجسمية، البيئة التي نشأ فيها، أقواله، أفعاله، مزاحه، وكل تفاصيل حياته .

نحو عالمية الاحتفاء بالمولد النبوي


حريٌ بالمسلمين أن يحتفوا بميلاد رسول الله . فنحن نجد أن المسيحيين يحتفون بميلاد السيد المسيح ، وليس سيئاً هذا الاحتفاء بل على المسلمين أن يحتفوا به أيضاً لأن ذلك مشمولٌ بتعظيم شعائر الله، والمسلمون يعتقدون بنبوة نبي الله عيسى ابن مريم ويُقدّسونه.

وهناك مَن تتضخم عندهم حالة التزمت والمفارقات مع الآخرين حتى في الحالات الإيجابية، وتبرز عندهم رؤيةٌ خاطئة، وهي: نظراً لاحتفاء المسيحيين بهذا اليوم، فلا ينبغي للمسلمين أن يُبدوا احتفاءً به.

ولكن المسيحيين فرضوا يوم ميلاد المسيح كمناسبة عالمية، والتاريخ الميلادي هو الأكثر تداولاً على مستوى العالم، ويوم ميلاده عطلةً رسمية في معظم دول العالم، وذلك لأنهم يُشكلون القوة العظمى والحضارة المنتشرة.

ونحن كمسلمين ينبغي أن نهتم بيوم ميلاد رسول الله ، وأن نسعى لأن نجعل له اعتباراً عالمياً.

وهناك فئة من المسلمين هم أتباع المدرسة السلفية لا يرون الاحتفاء بميلاد رسول الله ، والغريب في الأمر الجهد المكثف الذي يُبذل ضدّ الاحتفاء بالمولد النبوي، إذ يُعطون لأنفسهم الحق في اتهام كل المسلمين في دينهم وتوجهاتهم. والأهم من كل ذلك أنهم يشغلون الساحة بالجدل حول الموضوع، وحتى أن القنوات الفضائية والمجلات المرتبطة بهم، وخطب الجمعة الصادرة عنهم، تجعل هذا الموضوع هو الهم الأول. وما الضير في أن يحتفي المسلمون بميلاد رسول الله ؟ هذا ليس مبرراً لأن تُشنّ حملةً شعواء ضدّ من يحتفي بهذا الميلاد الميمون، واتهامهم بعمل المنكرات، ألم يُشاهد هؤلاء الفضائيات التي تبث احتفاء المسلمين في مختلف المناطق الإسلامية، ليرو مظاهر الاحتفاء وبرامجه؟ وإذا نُقل أن بعض الناس يُمارسون تصرفاتٍ غير مناسبة في احتفائهم بالمولد الأغر، فهل هذا مبررٌ لإلغاء الاحتفاء كلياً أو للتشنيع على مَن يحتفي بالمولد المبارك؟ إذن لتُمنع قيادة السيارة نظراً لأن البعض يقودها بتهور! هذه الرؤية ليست رؤية عقلائية ولا منطقية.

في رحاب السيرة النبوية العطرة


يقول تعالى في كتابه الحكيم: ﴿ألم يجدك يتيماً فآوى. ووجدك ضالاً فهدى. ووجدك عائلاً فأغنى. وفي هذه الآيات يمتن الله تعالى على نبيه بما أولاه من النعم. وهنا تجدر الإشارة إلى نقطتين:

النقطة الأولى: لو استعرض كل إنسانٍ سيرة حياته وحاول أن يرصد محطات حياته، لرأى نعم الله سبحانه وتعالى عليه، ورحمته به. وهناك مجتمعات ترصد سيرة حياة أبنائها منذ بدايتها عبر التصوير الفوتوغرافي والفيديوي، وهي وسيلة رائعة لتذكير الإنسان بنعم الله عليه ولطفه ورحمته به.

النقطة الثانية: تتميز حياة العظماء بأن فيها بعض الظواهر المميزة والأحداث الملفتة للنظر منذ بدايتها. ونقصد بالعظماء مَن امتلكوا الكفاءة والتأثيرٌ في حياة الناس، وليس أصحاب المناصب. فكل عظيمٍ من العظماء لم يصل إلى ما وصل إليه إلا عبر مقدماتٍ أهّلته إلى الموقعية التي تسنّمها. وتختلف الظواهر والأحداث الملفتة في حياة العظماء من شخصيةٍ إلى أخرى بحسب مكانة الإنسان، فكلما كانت أعظم وجد الناس أن حياته مليئة بالأحداث الملفتة منذ بدايتها.

والقرآن الكريم يُحدثنا عن حياة نبي الله موسى وكذلك نبي الله عيسى وكيف أن حياتهما منذ بدايتها كانت تتضمن أحداثاً مميزة وملفتة للنظر.

وفي حياة رسول الله تتجلى هذه الحالة بصورٍ عديدة، بعضها نقلها القرآن الكريم، وبعضها تحدث عنها التاريخ. وحينما يتحدث التاريخ قد تختلط الأمور، فهناك أشياءٌ صحيحة، وأشياءٌ مضخمة، وأخرى موضوعة، وهذا أمرٌ طبيعي، ونجده في الأحداث الحاضرة. وما يُمكن الإقرار به أن هناك حوادث وظواهر مميزة وملفتة رافقت ولادة رسول الله ونشأته وتربيته. والآيات الكريمة تُلفت أنظارنا إلى بعض هذه الظواهر:

- ﴿ألم يجدك يتيماً فآوى.

وُلد الرسول وعاش يتيماً، وفي ذلك درسٌ لنا، فحينما يتعرض الإنسان إلى الابتلاء والمشاكل ينبغي أن لا يدفعه ذلك إلى اليأس والقنوط وإساءة الظن بالله تعالى. فإن أولياء الله العظام قد تعرضوا إلى الابتلاءات في حياتهم، وكانت سلّماً لرقيهم عند الله سبحانه وتعالى.

والتاريخ ينقل أن الرسول حينما كان جنيناً في بطن أمه، وبعد مضي ستة أشهر على حمل أمه آمنة بنت وهب (عليها السلام) به، توفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب في يثرب (المدينة المنورة) وهو في طريق عودته إلى مكة المكرمة قادماً من التجارة.

وبعد ستة سنواتٍ من ولادته توفيت أمه آمنة بنت وهب (عليها السلام) في منطقة الأبواء وهي راجعة من المدينة المنورة بعد زيارتها لأخوالها بني النجار. فبقي رسول الله يتيم الأبوين.

فكفله جده عبد المطلب ، وهو ذلك الشخصية المعروفة عند العرب ومحلُّ تقديرهم. وقد أولى عبد المطلب اهتماماً خاصاً برسول الله . وهو مَن سمى رسول الله بمحمد، بإلهامٍ من الله تعالى، ويُنقل أن هذا الاسم لم يكن كثير الاستخدام عند العرب، حتى أحصى المؤرخون مَن سمّوا بمحمد من العرب قبل رسول الله فلم يتجاوزوا الستة عشر اسماً. وبالطبع هذا الاسم محفوظٌ لرسول الله ، وقد بشر به الأنبياء السابقين، وكما يقول الشاعر:

وشقَّ له من اسمـه ليُجلّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ


وتركّزت عواطف رسول الله في شخصية جده عبد المطلب بعد وفاة أمه، ولكن القدر لم يُمهله، فبعد سنتين من رحيل آمنة بنت وهب إلى الرفيق الأعلى وعندما بلغ رسول الله الثامنة من العمر ارتحل جده عبد المطلب إلى رضوان الله تعالى. وفي ذلك صعوبة نفسية وعاطفية على الطفل وهو في هذه المرحلة المبكرة من العمر، فبعد ارتباطه بأمه يفقدها، وبعد أن تركّزت عواطفه في جده يفقده، ولكن حكمة الله تعالى هكذا شاءت. فانتقلت كفالة رسول الله إلى عمه أبي طالب وهي المرحلة الأطول لحماية رسول الله ورعايته. وهذا مصداقٌ لقوله تعالى: ﴿ألم يجدك يتيماً فآوى.

- ﴿ووجدك ضالاً فهدى

الضلال له معنيان:

المعنى الأول:
السير في طريق الباطل، وهذا منفيٌ عن رسول الله ، لأنه معصومٌ حتى قبل البعثة، ولا يُمكن أن يرتكب المنكرات لأن الرسالة والنبوة تستلزم أن يُولي الناس ثقتهم بالرسول، ولا يتحقق ذلك مع مَن قد رأوه يسلك الباطل. وسيرة رسول الله كانت في أرقى مستويات الفضيلة حتى أن قومه لقّبوه بالصادق الأمين قبل بعثته.

المعنى الثاني: الحيرة والبحث عن الهدى. وهذا ما كان عليه رسول إذ لم يكن مقتنعاً بما كان عليه قومه من عبادة الأصنام والعادات الجاهلية الأخرى، فكان يبحث عن طريق الهدى حيث كان يتعبّد في غار حراء ويناجي الله تعالى لأن يهديه طريق الحق، فكان ذلك الطريق هو الإسلام.

- ﴿ووجدك عائلاً فأغنى.

لم يكن رسول الله من أسرةٍ غنيةٍ مادياً، بل كانت أسرته معروفةٌ بالغنى المعنوي. وعندما توفي والده عبد الله لم يترك له ثروةً كبيرة وإنما ترك له خمس شياه، وجارية هي أم أيمن ودراهم بسيطة معدودة. ولكن الله تعالى أغنى رسوله حينما اقترن بخديجة بنت خويلد (عليها السلام) وهي تلك المرأة العظيمة، وسيدة أمهات المؤمنين، والتي جعلت كلّ ثروتها تحت تصرف رسول الله ، فكان ذلك مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ووجدك عائلاً فأغنى.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.


وبإمكانك الاستماع إليها عبر الوصلة التالي:

media/ent_friday/1425/14250317.asf