الشيخ الصفّار في ليلته العاشورائية السابعة يدين العنف الاجتماعي معالجًا أسبابه ومظاهره
تحدث سماحة الشيخ حسن الصفّار في مجلسه العاشورائي في الليلة السابعة عن «مواجهة العنف في المحيط الاجتماعي»، حيث استهله بالحديث عن احترام الإسلام للنفس الإنسانية، حيث حرّم الاعتداء عليها بكافّة الأنواع، وفي مقدمتها القتل، حيث جعل الإسلام القتل من أبشع الجرائم التي تخلّد الإنسان في النار، مشيرًا إلى بعض العوامل التي دفعت المسيرة البشرية إلى شياع ظاهرة القتل في تاريخها، حيث العنف السياسي هو في المقدّمة، فالنسبة الغالبة من ضحايا القتل على مديات التاريخ هم ضحايا العنف السياسي، داعيًا إلى تجاوز هذه الحالة في مجتمعاتنا الإسلامية، كما دعا ـ أيضًا ـ إلى تنبه المجتمع إلى تصاعد موجة العنف الاجتماعي، الظاهرة الآخذة في التوسّع، حيث اقترح بعض الحلول التي تحدّ من هذه الظاهرة، وفي مقدمها نشر الثقافة الدينية التي تحترم الإنسان وتقدّس الحياة.
وقد جاءت هذه العناوين في محاور ثلاثة، هي:
قرار بعث الحياة في الإنسان هو بيد الله، وكذلك مصادرة وإزهاق الروح هو بيده تعالى، فكلاهما قرار إلهي، ليس مسوغًا للإنسان أن يتدخّل فيه، ومن يعتدي على الحياة الإنسانية إنما يضع نفسه أمام الإرادة الإلهية ويعرّض نفسه للغضب الإلهي، مستثنيًا في ذلك ما أقرّه الإسلام في قوله تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾[1] ، أن الرؤية القرآنية للإنسان هي نظرة فيها تقديس كبير لحياته، واحترام للإنسانية فيه، وأن من يعتدي على حياة إنسان فكأنما اعتدى على الإنسانية كلّها، وعلى حياة الناس جميعًا، ومن أحيا إنساناً، فكأنما أحيا الناس جميعًا.
مستعرضًا في ذلك بعض النصوص الواردة عن المعصومين ، فمن ذلك ما ورد عن النبي محمد من قوله: «والله لزوال الدنيا جميعًا أهون على الله من سفك دم حرام»، وفي حديث آخر عنه : «لا يزال العبد في فسحة من دينه، ما لم يصب دمًا حرامًا»، وما عن الإمام الباقر ، إذ يقول: «يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدّة عذاب أهلها، لو قتل الناس جميعًا إنما كان يدخل ذلك المكان. قلت: فإن قتل آخر، قال : يضاعف له عليه»، ومشيرًا إلى أن التحريم يشمل الاعتداء من قبل النفس (الانتحار)، كما لا يجوز أن ترفع الأجهزة عن المريض الميت سريريًّا، فالإسلام يقدس في الإنسان حتى بصيص الحياة الذي يعيش به، وكذلك الجنين إذ يحرّم الفقهاء المسلمون عمليات الإجهاض.
سفك الدماء غالبًا ما يكون بدافع سياسي ومن أجل الصراع على السلطة والحكم هو ما يعرف بالعنف السياسي، معتبرًا أن تاريخ البشرية كانت الحروب فيه غالباً من أجل الصراع السياسي والحكم، فهو مدار القتل والقتال عبر التاريخ، بما يشمل التاريخ الإسلامي، وهذا أمر صار من الأمور الطبيعية للوصول إلى الحكم في معظم بلدان العالم، إلا أن الدول المتقدّمة وصلت إلى حلول سلمية للوصول إلى السلطة، وذلك عبر تداولها سلميًّا، وعبر صناديق الاقتراع والبرامج الانتخابية، متأسفًا على أوضاع البلدان الإسلامية التي لا تزال تعيش ـ في معظمها ـ حالة من الدكتاتورية دون تغيير وتداول طبيعي وسلمي للسلطة، ما يؤدي إلى استمرارية حالات العنف السياسي في هذه البلدان، سواءً من قبل السلطات الحاكمة تجاه مواطنيها المعارضين، أو من قبل حركات المعارضة والثورات التي تظهر بين فترة وأخرى، بدافع الوصول للسلطة، فلا سبيل لها إلا هذه الطريق، وهي الحال التي شكلت الأرضية للاقتتال السياسي في ربوع العالم الإسلامي، ممثلاً بنموذج الحجاج الذي تحدثت كتب التاريخ عن مبالغته في سفك دماء المسلمين، حيث تشير هذه المصادر إلى أن من قتلهم الحجاج صبرًا 120 ألف إنسان في غير حرب، وأحصي المسجونون من غير دين أو جناية فكانوا 33 ألفًا، وقد استمرت هذه الحال في تاريخ المسلمين، فتوارثتها الانقلابات العسكرية التي حكمت بعض البلدان العربية والإسلامية، حيث أشار سماحته إلى النموذج العراقي الذي ظل تحت الحكم العسكري أكثر من 35 عامًا، وبخاصّة تحت حكم الدكتاتور المقبور صدام حسين، الذي تشير الإحصاءات إلى وجود أكثر من 750 ألفًا من ملفات الضحايا الذين تفنن في أساليب تعذيبهم، مشيرًا إلى أن العنف السياسي يتمثّل في صور كثيرة من الصراع في هذا العصر، عادًّا حركات التكفير والعنف التي ظهرت في المجتمعات الإسلامية ضمن حركات العنف السياسي، وهي الحركات التي عانت منها مجتمعاتنا في عصرنا الراهن، وبخاصّة ما يعيشه الصومال، والعراق وباكستان وأفغانستان، مشدّدًا على أن الحل الوحيد لمثل هذه الظواهر التي تذهب ضحيتها عشرات ألوف الضحايا في بلداننا الإسلامية هو التداول السلمي للسلطة، وتجاوز حالات التكفير التي تنتهك بسببها الدماء والأعراض.
يشير سماحة الشيخ في هذا المحور إلى أن الاختلافات بين أفراد المجتمع أمر طبيعي في كل زمان، وأنها كانت سابقًا تدار إما بالحوار بين الأطراف، أو عبر وسطاء الخير في كل مجتمع، وفي مرحلة متقدمة قد تصل الأمور إلى حالٍ من القطيعة بين هذه الأطراف أو المناوشات الكلامية أو الاشتباك بالأيدي، وما كانت هناك حالات تصل إلى حدّ القتل إلا في صور نادرة جدًّا، ولكنها اليوم تصل إلى حد استعمال السلاح والقتل، لأتفه الأسباب، واصفًا هذا الوضع الذي وصل إليه مجتمعنا بالخطير، إذ تشير الإحصاءات على مستوى المملكة إلى وجود أكثر من 128 حَدَثًا في سجون الأحداث متورطين في جرائم قتل، وفي منطقة القطيف وحدها هناك 30 حكمًا بالقصاص، هذا بالإضافة إلى وجود عدد كبير من حالات الاغتصاب التي وصلت إلى أكثر من 27 ألف حالة اغتصاب في تقرير صادر في المملكة العربية السعودية سنة 2008م، وأكثر من 15 ألف حالة عنف، وفي كثير منها بسبب مناوشات عادية لا تستحق أن تصل الأمور فيها إلى حالات القتل والعنف، وبعضها خلافات أسرية وعائلية بسيطة، ولكننا نعيش في حالة من تصاعد موجة العنف تستوجب التأمّل والدراسة، أشار الشيخ حسن الصفار إلى أربعة أسباب، هي:
1. ضعف التنشئة الأسرية: فالأبناء يقضون وقتًا طويلاً بعيدًا عن أنظار الوالدين، بحيث لا يكون هناك تلقٍّ للعديد من القيم من قبل الأبناء، وعدم وجود أي نوع من الرقابة على سلوك الأبناء من قبل الوالدين، وفي جهة مقابلة قد تكون التنشئة ضمن أجواء العنف، ما يؤدي إلى ظهور آثار هذه التنشئة خارج الأسرة وعلى المجتمع والمحيط الذي يعيش فيه الأبناء ـ حسبما تشير إليه الدراسات، حيث تكون نفوس الأبناء مهيأة للعنف ضدّ الغير.
2. تأثير وسائل الإعلام والاتصالات، ذلك أن الإعلام اليوم ووسائل الاتصال ذات فاعلية وتأثير في تنشئة الأبناء ـ حسب الدراسات الاجتماعية، وذلك بما تبثه من مشاهد العنف والقتل بصورة يومية ومتكرّرة، من خلال نشرات الأخبار، وأفلام الجريمة وألعاب الفيديو التي تكرّس حالات العنف والضرب والاعتداء على الآخرين، وغيرها من الثقافة التي تبثها هذه الوسائل بصورة يومية ومتكرّرة وممتعة، تجذب إليها الشريحة الأكبر من أبنائنا وبناتنا.
3. ضغوط الحياة، ذلك أن مجتمعنا غالبًا ما يعيش فيه الشباب حالة من الفراغ، لا يشغلها بما هو مفيد، بحيث يصرف فيها أوقات فراغه، فلا توجد دور للسينما أو الملاعب أو محلات الترفيه، لتكون مجالاً رحبًا يريح فيها الإنسان نفسه من هموم وضغوط الحياة اليومية، كما أن أحياء الفقر المنتشرة هي في الغالب بؤر فساد ومنطلق لكثير من ظواهر العنف الاجتماعي، ولذلك تتحمل الحكومات جانبًا مهمًّا في محاربة هذه الظواهر بإنشاء العديد من مراكز الترفيه والمتعة والتسلية لشغل أوقات الأسرة والشباب فيما هو مفيد، وكذلك رعاية أحياء الفقر، لئلا تكون بؤرًا للفساد والإجرام.
4. أنماط الردع، ففي كثير من الأحيان إذا لم يكن هناك ردع لجرائم القتل في المجتمع يتمادى مرتكبوها أكثر، حيث تجري الوساطات للتنازل عن القاتل، مستثنيًا بعض الحالات التي قد يكون العفو فيها راجحاً، مع تأكيده على أن حقّ العفو بيد ولي الدم، داعيًا إلى وجود حالات يجب أن يكون فيها جانب من الردع، استفادةً من الآية القرآنية: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[2] ، حيث تشير الآية إلى أن في إجراء العقوبة استمرارية للحياة البشرية، لما في ذلك من الردع.
وفي هذه النقطة الأخيرة أكّد سماحته على أهمية قيام الأجهزة الأمنية بواجبها في حماية الناس، وبالخصوص مع تعقّد الحياة اليومية وتطوّر وسائل ارتكاب هذه الجرائم، داعيًا هذه الأجهزة إلى وجوب تطوير آليات عملها، وإلى الجهوزية الكافية، بما يحقق أمنًا اجتماعيًا للمواطن.
خاتمًا حديثه بالقول بأن الردع لا يكفي لحماية الأمن الاجتماعي وأنه لا يمكن المراهنة عليه وحده، بل لا بد من التفكير في وجود برامج وقائية ومنظومة متكاملة، حيث أشار إلى أهمية نشر الثقافة الدينية التي تتحدّث عن حرمة الإنسان وحماية حياته وترسّخ هذه القيم الدينية اجتماعيًّا، وذلك عبر المؤسسات والأنشطة الفاعلة، فتعاليم الإسلام في هذا الاتجاه تعاليم سامية وراقية، يفخر المسلم بوجودها في دينه القويم، حيث أكّد الشرع على أهمية التزامها، حتى في الحروب، حيث استشهد الشيخ الصفار بالنموذج النبوي الكريم، فالنبي محمد الذي خاض 83 حربًا لم يصل عدد القتلى في جميع هذه الحروب إلى أكثر من 1400 إنسان، وذلك خلال عشر سنوات، كانت الحروب جميعها فيها حروب دفاعية، وكان الإمام الحسين تلميذ أبيه وجده في هذا الجانب.