الشيخ الصفار يُؤكد حصانة الخصوصية المذهبية وتجاوزها يُعرقل مشروع الوحدة
أكد فضيلة الشيخ حسن الصفار حصانة الخصوصية المذهبية وتجاوزها يُعرقل مشروع الوحدة، معلّلاً ذلك بقوله: من الطبيعي أن يهتم كل مذهب بحفظ خصوصيّاته للقناعة التامة بها، ولأنها تُشكّل هويّته، ولتمسّك الجمهور بها. مضيفاً: إن الوحدة لا تعني التخلّي عن الخصوصيّات، مستشهداً بموقف النبي الأعظم حين أقرّ لليهود خصوصيّاتهم في صحيفة المدينة، فكان مما جاء في الصحيفة: «لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم»، وكذلك في كتابه لنصارى نجران حيث جاء فيه: «إن لهم ما تحت أيديهم من قليلٍ وكثي، من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله، لا يُغيّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يُغيّر حقّاً من حقوقهم، ولا شيءٌ مما كانوا عليه».
وأشار إلى أن داخل كلّ مذهبٍ هناك جدلٌ ونقاش حول بعض المسائل العَقَدية والفقهية والتاريخية، مما يعني أن وجود الاختلاف أمرٌ طبيعي وينبغي التعاطي مع الوحدة في إطار وجود هذا الاختلاف، لا أن يكون هناك إرهابٌ فكري سواءً ضمن المذهب الواحد أو بين المذاهب المختلفة.
ونوّه الشيخ الصفّار في خطابه الحسيني لية الثامن من المحرّم 1431هـ، إلى الأفق الضيّق الذي يتّسم به البعض في نظرته إلى الاختلاف في القضية الدينية بين الأديان والمذاهب، وبين التوجّهات المتعدد داخل كل مذهب، فهو يرى نفسه على الحق وأن أدلّته واضحة، وأن على أتباع الأديان والمذاهب الأخرى الأخذ برأي مذهبه واعتناقه. ويزيد البعض على ذلك فلو أتيحت لهم الفرصه لاكتسحوا العالم بدينهم وبمذهبهم.
مشيراً إلى أن تاريخ البشرية يُثبت سطحية هذا التفكير، حتى وإن حصل وتقدّم دينٌ أو مذهبٌ على بقية الأديان أو المذاهب، فإن الأديان والمذاهب الأخرى ستبقى بشكلٍ أو بآخر. مضيفاً: إن القرآن الحكيم يُقدّم لنا رؤية واقعية في عدد كبيرٍ من آياته، تؤكد أن المسألة الدينية ليست مسألة دليل ومنطق فقط، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾، ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
وأرجع الشيخ الصفّار هذه الحالة من المٍنعة والتشبّث بالقضايا الدينية والعَقدية إلى عدة أسباب، أبرزها: الوراثة حيث تنتقل المعتقدات الدينية من جيلٍ لآخر مما يُشكّل هويّة ذاتية لا يُمكن التنازل عنها أو المساس بها، كما أنّ تفاوت المعرفة بين الناس يؤدي إلى تضخيم بعض القضايا واعتبارها من الضرورات الأساسية في حين أنها قد تكون خارج هذا الإطار، وأيضاً وجود الالتباسات التي تخلط بين الحق والباطل، يقول الإمام علي : «فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يُؤخذ من هذا ضٍغثٌ ومن هذا ضغثٌ فيُمزجان، وهناك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى».
وسلّط الشيخ الصفّار الضوء على حالة اليأس التي تكاد تتمكّن من قلوب البعض كلما رأو الصراعات والتشنّجات في كل مكان، مطمئناً الجميع بأن الوحدة المطلوب تحققها ليس كما يذهب إليه البعض من إلغاء جميع المذاهب والانصهار في مذهب واحد، أو أن يتنازل أتباع المذاهب عن خصوصيّاتهم المذهبية، مؤكداً أن الوحدة تتمركز في ثلاثة أمور:
أولاً- الوحدة السياسية، وتعني مواجهة التحديات التي يواجهها الوطن سواءً من الأعداء الخارجين، أو من الإرهاب الداخلي الذي يُهدد أمن واستقرار البلد.
ثانياً- الوحدة الاجتماعية، وتتحقق في إلغاء التمييز الطائفي، والتعبئة المذهبية، وتجاوز القطيعة الاجتماعية، فيتعاون الجميع ويتواصلون بما يخدم المصالح العامة. فالخصومة أمرٌ سلبي ينبغي تجاوزه، يقول الإمام الصادق : «إياكم والخصومة في الدين»، ويقول : «فلا تحاصموا الناس لدينكم، ذرو الناس فإنّ الناس أخذوا عن الناس».
ثالثاً - الالتفاف حول الثوابت المشتركة، فجميع أبناء الوطن ينتمون إلى دينٍ واحد، فهم يؤمنون بربٍّ واحد، ونبي واحد، ويؤمنون بالمَعاد، ويتوجّهون إلى قبلةٍ واحدة، ويؤمنون بالكتاب والسنة.
وخَلُص الشيخ الصفّار في ختام خطابه إلى أن المشتركات بين المذاهب المتعددة أكثر بكثير مما يختلفون فيه، والمطلوب لتحقيق الوحدة هو الالتفاف حول هذه المشتركات، وترك الأمور المختلف عليها كلٌّ حسب مذهبه ومعتقده، مؤكداً أن الوحدة لا يُمكن تحققها إلا بانتهاج هذا النهج، حيث أن الإصرار على ذوبان المذاهب في مذهبٍ واحد ضربٌ من ضروب الخيال والمستحيل، ولا يُمكن تحققه على أرض الواقع، وهذا الإصرار يكشف عن ضيق الأفق، وعدم الرغبة الجادة في تحقق هذا الهدف السامي والعظيم.