الشيخ الصفار في الجمعة: المجتمع بحاجة إلى جهاز مناعة لمقاومة الظلم والفساد وقنوات الدفاع متعددة
أكدّ سماحة الشيخ حسن الصفار في خطبة الجمعة (5 رجب1431هـ) بأن المجتمع بحاجة إلى جهاز مناعة لمقاومة ما يعترضه من فساد وظلم تكون سببًا لتضعضعه وانهياره، وأن هذا الجهاز المناعي يتمثل في رفض الظلم والجهر به، كما أن قنوات ذلك أصبحت متعددة وأسهل بكثير مما كانت عليه في السابق حيث كانت تكاليفها باهضة. وفي ذات السياق أكد في خطبته الأولى على أهمية هذا الشهر الكريم الذي بلغنا الله إياه وهو شهر رجب الأصب مشيرًا إلى أهمية استغلاله كمحطة يتزود منها الإنسان زاد القرب من الله عز وجل حيث يسعى لأن يكون في أسمى مراتب العبادة وهو الأمر الذي من أجله خلق الله البشر وميزهم على غيرهم من المخلوقات وسخرها إليهم.
الخطبة الأولى: الغاية من وجود الإنسان في الدنيا ورجب شهر الدنو من الله
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾ المؤمنون 115.
يعيش الإنسان في هذه الحياة وهو مدرك بأنه قد تميز على سائر المخلوقات التي تعيش حوله في هذه الدنيا الواسعة، هذه الميزة تكمن في استمتاعه بقوة العقل والتفكير، وكذلك الإرادة والعمل، بينما تغيب هذه المزايا عن غيره من المخلوقات. وهناك ميزة أخرى مهمة وجلية، وهي أن هذه المخلوقات مسخرة إليه، لاستخدامها والانتفاع منها ﴿والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة لكم﴾ كل هذه المخلوقات سخرها الله تعالى للإنسان ولذا جاء خطابه لبني البشر: ﴿وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾. وآيات كثيرة تدل على هذه النقطة من تسخير الله كل مخلوقاته لهذا الإنسان ولم يجعل فوق الإنسان مخلوقاً يستخدمه ويسخره لأجله. لكن الإنسان يرى أنه يعيش فترة من الزمن في هذه الحياة ثم يموت, وكذلك بالنسبة لباقي المخلوقات فكلها يفنى بعد فترة من الزمن، فهل هناك حياة أخرى بعد الموت؟ وهل ثمة فرق بينه وبين باقي المخلوقات التي انتقلت إلى الموت؟
كل إنسان صاحب دين سماوي يستطيع أن يجيب على هذه التساؤلات، فحينما يعيش الإنسان بلا دين فلن يجد هناك فرقًا بينه وبين سائر المخلوقات في ما بعد الموت. كل مخلوق يعيش فترة من الزمن ثم يموت وينتهي كل شيء، ولكن الإنسان صاحب الدين يعتقد بغير هذا، فهناك هدف لوجوده. هذا الهدف يمضي معه بعد الموت وسوف يسأل عنه، على عكس غيره من المخلوقات فهي خلقت لأجله وإذا انتهت فترة حياتها فلن تسأل عن شيء عملته في الدنيا. إذًا فالإنسان المتدين يدرك بأن وجوده كان بهدف توحيد الله عز وجل وعبادته والخضوع له, وأنه إذا مات فسوف يبعث من جديد ويسأل عن مدى تحقيقه لهذا الهدف. هذه العبادة والخضوع هي الهدف من الوجود, وهي تتمثل في أمور شتى, ولهذا سخر الله عز وجل كل المخلوقات للإنسان, ولهذا يخاطبه: خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي كما ورد في حديث قدسي.
إذًا فكل إنسان مسؤل عن أعماله التي يقدمها في الدنيا, وهو يعلم بذلك ولو لم يكن هناك نشر وبعث لعاش الإنسان حياة بهيمية, شأنه كشأن غيره من المخلوقات, ولهذا يقول تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾. فالدين هو الذي يعطي للحياة قيمة ومعنى، ومن ليس له دين يفتقد معنى الحياة.
إذا علم الإنسان أن خلقه وتسخير هذه المخلوقات كلها لأجله لم يكن عبثًا، وأن الهدف من خلقه هو عبادة الله عز وجل والخضوع له: ﴿وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون﴾ وأنه سوف ينشر بعد الموت ويسأل عن كل شيء، إذًا فعليه أن يقترب من الله عز وجل, وأن يسعى لأن يكون أقرب إليه كما في دعاء كميل: (حتى أسرع إليك في المبادرين، وأشتاق إلى قربك في المشتاقين، وأدنو منك دنو المخلصين). وكلما أقترب الإنسان من ربه تجلت له قيمته والهدف من وجوده, والفرق بينه وبين سائر المخلوقات, وأن خلقه لم يكن عبثًا وأنه راجع إلى الله بعد الموت.
وحتى لا يلهو الإنسان وينشغل في هذه الدنيا على حساب البعد المعنوي من شخصيته, فقد جعل الله تعالى أزمنة خاصة هي بمثابة محطات الوقود التي يتزود منها الإنسان بالخضوع والتقوى والورع, فيكون قريبًا من ربه في كل حين. ومن تلك الأزمنة هذا الشهر الكريم شهر رجب, ونحمد الله أن وفقنا لإدراكه, ونسأله أن يبلغنا شهر شعبان وشهر رمضان المبارك. شهر رجب شهر عظيم عند الله عز وجل وهو من الأشهر الحرم، وهناك نصوص كثيرة تدل على أهميته وأهمية العبادة فيه, والتقرب إلى الله عز وجل, حتى تكون لحياة الإنسان معنى وقيمة. ورد عن الإمام الرضا : رجب شهر الله الأصب، فيه يصب الله الرحمة على عباده.
هناك أعمال وبرامج ورد التأكيد عليها في هذا الشهر الحرام ومنها الصلاة والصوم والصدقة والعمرة وغيرها والأجر فيه مضاعف وعظيم. فعن علي بن سالم عن ابيه قال: دخلت على الصادق في رجب وقد بقيت منه ايام فلما نظر إليّ قال لي: يا سالم هل صمت في هذا الشهر شيئا؟ قلت: لا والله يا ابن رسول الله ، فقال لي: لقد فاتك من الثواب ما لم يعلم مبلغه إلا الله عز وجل، إن هذا شهر قد فضله الله وعظم حرمته، واوجب للصائمين فيه كرامته.
والتأكيد على الصوم إنما جاء للإرتقاء عن متطلبات الجسد والمادة، وتحقيق أسمى صور الخضوع والعبادة. وإذا لم يتمكن الإنسان من صيام كل الشهر أو أغلبه, فلا بأس بصيام ولو يوم منه, سيما يوم السابع والعشرين وهو اليوم الذي يصادف ذكرى مبعث رسول الله .
ومن تلك الأعمال المندوبة الدعاء، والاستغفار كما في الحديث عن رسول الله : رجب شهر الاستغفار لأمتي فأكثروا فيه الاستغفار فإنه غفور رحيم. والاستغفار يكون قولًا وعملاً. ومن تلك الأعمال أيضًا صلاة الليل وفيها خلوة العبد بربه والدنو منه، وكذلك الصدقة سيما على ذوي الرحم ممن هو محتاج.
الخطبة الثانية: المجتمع بحاجة إلى جهاز مناعة لمقاومة الظلم والفساد
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلًا ممن أنجينا منهم﴾ هود 116.
يتعرض جسم الإنسان لدخول وغزو الجراثيم والميكروبات سيما مع وجود الجروح، ولذلك زوّد الله تعالى الإنسان بجهاز مناعة لمقاومة هذه الكائنات الميكروبية المؤذية, عن طريق كريات الدم البيضاء. وإذا ضعف جهاز المناعة أو انعدم يهدد بالانهيار.
جسم المجتمع كذلك معرض لتسلل عناصر الفساد والانحراف فيه، لذلك فهو بحاجة إلى أجهزة مناعة لمواجهة هذه العناصر الدخيلة التي تقض راحته واستقراره. هذا الجهاز المناعي للمجتمع يتمثل في فئة من المجتمع تنذر نفسها لتحمل المسؤلية, وتمضي قدمًا في دفع الظلم والجور عن كيان المجتمع الذي تعيش فيه. ووجود مثل هذه الفئة في المجتمعات يعني السلامة والأمن والاستقرار.
من يقرأ أوضاع المجتمعات المتقدمة يجدهم يشعرون بمسؤليتهم الشخصية تجاه كل ما يعترضهم من ظلم أو فساد يطالبون بحقوقهم، ويشكلون لجانًا لتحقيق تلك المطالب، أما المجتمعات المتخلفة فعادة ما يسكتون عن الظلم والفساد, أو يتجاهلونه, أو يلقون باللائمة على بعضهم بعضًا, ويوزعون المسؤليات على حسب أهوائهم, أو ينتظرون الغيب حتى يدفع البلاء عنهم.
الله عز وجل لا يريد للأسباب الغيبية أن تتدخل في كل شيء، يريد من الناس أنفسهم أن يسعوا إلى إصلاح شأنهم, والكل مسؤل: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾. وفي الآية الكريمة: ﴿فلو لا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض﴾ ألوا بقية يعني ألوا فضل ومكانة في المجتمع، إذا لم يتوافر هذا الصنف من الناس في المجتمع فإن ذلك يكون سببًا لهلاكه وتضعضعه. كما أن في الآية تحفيزاً للمسلمين بأن يسعوا إلى حل مشاكلهم, ووضع جهاز مناعة لحماية مجتماعتهم.
كل فرد من المجتمع عليه أن يشعر بمسؤليته إذا ما رأى ظلمًا أو فساداً يقع في مجتمعه، ومسؤليته تزداد إذا وقع هذا الظلم عليه. والحمد لله فظروفنا حاليًا تعتبر متقدمة ومتطورة عما هي عليه في السابق. كانت تكاليف مواجهة الظلم والفساد في مجتمعاتنا في الماضي باهضة, ولكن الوضع الراهن نشهد في مجتمعنا حالة إيجابية في طريق مواجهة الظلم والفساد فعلينا استغلالها بعدم السكوت عن أي ظلم يقع علينا.
ان قنوات الدفاع عن الحقوق متعددة ومن تلك القنوات المتاحة تفعيل وسائل الإعلام. في الماضي كنا نشهد صعوبة في نشر أي ظلامة تقع سيما إذا كانت ضد مؤسسة حكومية, حيث كانت تقرأ على أنها نيل من قوة النظام أو اضعاف لهيبته. ولكن الأمر تغير فأصبح مفتوحًا ولو بنسبة معينة. ونحن نقرأ اليوم في الصحف المحلية اليومية رصدًا لكثير من المخالفات النظامية التي تقع على شخص ما، أو جهة ما. حتى ما هو ضد الأجهزة الحكومية فإنه ينشر. وكل شخص يتأكد من أنه صاحب حق فعليه بالدفاع عنه عبر المتاح من وسائل الاعلام.
كذلك من تلك القنوات التي يستطيع الإنسان عبرها أن يطالب بحقه وجود أجهزة مستقلة لاستقبال الشكاوى والتي تتمثل في ديوان المظالم ومنظمات حقوق الإنسان الرسمية في البلاد وغيرها. وعلى الإنسان ألا يتشائم من متابعة حقه ولا ييأس، وعدم تمكن بعض هذه الجهات من معالجة بعض القضايا, لا يعني ترك الاستفادة من وجودها, على كل من يقع عليه الظلم أن يرفع صوته وشكواه لهذه الجهات، وتراكم هذه الشكاوى إذا لم تجد طريقها للحل يضع علامات استفهام وموارد شك تجاه هذه المؤسسات، وبالتالي يكون هناك ضغط عليها لحل هذه القضايا.
إن كل فرد من أفراد المجتمع عليه أن يتحمل دوره في دفع الظلم عن نفسه وعن غيره, بكل ما أوتي من إمكانية. كلنا يعلم قضية وجود التمييز والعنصرية التي كانت تمارس ضد السود في أمريكا، حيث كان القانون يعطي الأولوية والسيادة والمكانة للبيض، وهذه القضية قد حُلت وتلاشت بسبب نهضة الشعب ومطالبتهم بحقوقهم، ولكن الأهم في الأمر أن الشرارة الأولى لهذه النهضة كانت من قبل امراة سوداء اسمها روزا باركس. هذه المرأة كانت ذات يوم في باص وكان النظام يعطي أولوية الجلوس في مقاعد الباص للأبيض, وإذا ما شغر مقعد فيستطيع الأسود أن يجلس فيه. هذه المرأة جلست في مقاعد الباص, وأتى شخص أبيض وطلب منها أن تبرح المقعد ليجلس هو حسبما يقره النظام له، ولكنها رفضت باعتبار أن لا فرق بينها وبينه، وتعرضت إثر ذلك للسجن والغرامة، ولكنها حركت في الناس مثلها أن ينهضوا للمطالبة بحقوقهم.
المشكلة التي نواجهها في المجتمع أن كثيرًا من الناس غير مستعدين لدفع الظلم عن أنفسهم فضلًا عن غيرهم. بعض الأخوة يشتكون سوء تعامل مديرهم بسبب انتمائهم المذهبي وحين أطلب منهم الذهاب للمسؤل الذي بيده التدخل لهذه القضية يخشون من عواقب الأمر! إذا كان الشخص منا غير مستعد للتضحية في سبيل رفع الظلم عن نفسه فكيف يرتجيها من الغير؟ وهل يرجى منه الدفاع عن غيره إذا لم يطالب بحقه؟ الكل منا مطالب بدفع الظلم عن نفسه وعن مجتمعه, وهذا أمر مشروع ومفروض، بل إن السكوت عن الظلم ظلم آخر.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لرفع الظلم عنا وعن اخوننا المؤمنين إنه سميع الدعاء قريب مجيب والحمد لله رب العالمين.