شغل الناس ولم ينشغل بهم

رحيل فضل الله إلى سعة رحمة الله, وتسليم روحه لخالق الأرواح قصة من أروع القصص، ولست أدري لماذا اعتبر رحيله من أروع وأمتع القصص والجرح بعد لم يندمل في قلوب أهله وعشيرته ومقلديه ومحبيه, وجميع من تصيد العلم من لسانه ويده, ودروسه وبحوثه وكتاباته ومقابلاته.

ربما لأن سنواته الأخيرة كانت مليئة بالجديد والملفت والخارج عن المألوف، وربما لأني ما زلت أفكر كيف يتحول الشخص بين عشية وضحاها من (عالم خسرته النجف)، كما نقلها البعض عن المرحوم الكبير السيد محمد باقر الصدر في حق الفقيد، إلى هدف تتجه إليه السهام؟

فور سماعي خبر ترجله إلى بارئه أغمضت عيني وغادرني فكري إلى جلستين جلستهما مع سماحته, الأولى في مزرعته في منطقة السيدة زينب بسوريا, والثانية في حوزته بنفس المنطقة، وقلت له: “سيدنا أريد أن أفهم منك مباشرة بعض ما أسمعه من الناس حول آرائك وأفكارك”, فكان يبسط لي القول لأكتشف بنفسي أن مناوئيه في واد وهو في واد آخر.

كانت المكنة المضادة كبيرة الحجم واسعة الجمهور, وقد نشطت في قص كلماته وإخراجها عن سياقها واقتطاعها من أجوائها, فكانت الكلمة الواحدة تعطي للجمهور إيحاءً يدفعها للثوران وردود الأفعال المتشظية والمتشنجة.

في وضعنا الشيعي هناك هامات انتقدت وصرحت بانتقاداتها للملأ، ورفضت أطروحات فضل الله، وكان من حقها أن تفعل ذلك, والاختلاف معها في الأسلوب وطريقة الطرح لا يمنعها حقها في إبداء رأيها, مع أني أنحني لهامات أخرى عايشت مسيرة هذا الفقيد فحافظت على هدوء الناس وإنزال السكينة في نفوسهم، ونأت بجمهورها عن كثير من اللغو والقيل والقال.

أعود للحظة سماعي خبر وفاة الفقيد, فقد كنت أرسل العديد من الأسئلة إلى أعماقي وأعيد إرسالها لتحرك كل مشاعري, الله كم من الحزن يملأ قلب هذا الرجل.. وكم من التشويه اللاأخلاقي قد تعرض له.. وكم اتخذه البعض للاستهزاء والاستهتار وإضحاك المجالس.. كم تألم وكم انجرحت مشاعره.. وكم سهر ليله مغموما.

كانت الأسئلة تعود خائبة حسيرة، فالحزين لا يبني, والحزين لا ينتج, والحزين لا ينتشر, والحزين لا يبدع, والحزين لا ينطلق, والحزين لا يفكر ولا يدرّس ولا يباحث ولا يربي.

المغموم والحزين ينتهي وينطفئ ويتراجع ويخبو, لأنه ينشغل بمن آذاه ومن نفترض أنه أحزنه..

ولو وصل المناوئون له لهذا التأثير الحقيقي في نفسه إذاً لحققوا أهدافهم, وأوقفوا مشروعه، وفرضوا عليه مزيدا من التراجعات، ثم دجنوه ليصبح نسخة مكررة منهم، لكن الكبير لا تسمح له نفسه بتسرب اليأس والإحباط والحزن لها، بل يبقى يخط مسيره ويترك للآخرين وقتا مديدا وفسحة كافية وتسامحا كبيرا للانشغال به, وملاحقة خطواته ليعيشوا ردات الفعل وليس الفعل الحقيقي.

لا يحزن الكبير أبدا, بل يتجوهر كلما تحركت نار التشويه والنيل منه, ولو حزن فقد مكانه ومكانته وعاد صغيرا لا يُؤسف على موته، ولا يُرجى خير من حياته.

كنا نذهب للمرحوم الكبير السيد محمد الشيرازي ونشتكى له ما يقول الناس عنه, وما يجب أن نفعل أمام تلك الشائعات، فكان يدفعنا لتوزيع شريط, وطباعة كتاب, ومحاولة الكتابة ويقول رحمه الله: لا تنشغلوا بأحد.

الكبير يغفر للناس ويسامحهم, وفضل الله لو امتدت به الأيام لما انتقم من أحد, وهذا هو المرجو من أولاده وأسرته ومقلديه ومحبيه, فدورهم الإيجابي جميعا سيعطي للفقيد حياة وحياة وحياة.

أختم بالقول: إن جوهر التدين وعظمة الإنسان لا يبرزها لباسه, ولا طول سجوده ولا دروسه ومحاضراته، بل تبرزها ساحات الاختلاف وتعدد الرؤى والأفكار, والقليل هم من يتدينون حين اختلافهم.

السبت 28/7/1431هـ الموافق 10/7/2010م - العدد 13539