المبعث النبوي والبعث الاخلاقي
عن دور الأنبياء في الارتقاء العلمي والمعرفي ﴿يتلوا عليهم آياته﴾ و الاتقاء الأخلاقي ﴿ويزكيهم﴾ تحدث سماحة الشيخ حسن الصفار في خطبة الجمعة (27/7/1431هـ) مؤكدا أن الأمم المتقدمة إنما تقدمت لاهتمامها بهذين الجانبين. حيث تزدهر عندهم العلوم والانجازات المتطورة, والاختراعات, ويهتمون باحتضان العلماء والمفكرين. وكذلك اهتموا بالجانب الأخلاقي حيث وضعوا نظمًا للعلاقات البينية بين أفراد المجتمع.
مبتدأً خطبته بقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾.
مباركا للأمة الإسلامية هذه المناسبة العظيمة ذكرى مبعث سيد الخلق أجمعين نبينا محمد . هذا اليوم العظيم، الذي بعث فيه رسول الله أراد الله له أن يشكلَّ انعطافة في تاريخ البشرية، وأن يصنع للإنسانية واقعًا جديدًا يتجاوز بهم واقع التخلف والجهل الذي كان سائدًا في تلك المجتمعات البشرية. والله تعالى في الآية الكريمة يمتنّ على الناس عامة وعلى العرب خاصة بأن بعث فيهم هذا النبي العظيم : ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم﴾ والأميون تأتي بمعنى من لا يعرف القراءة والكتابة أو من ليس له إلمام بمبادئ العلم والمعرفة، أو تأتي بمعنى أهل مكة حيث كانت مكة شرفها الله تسمى أم القرى. يريد الله تعالى أن يبين لطفه بعباده حيث يذكرهم بأنه بعث فيهم ومنهم هذا النبي العظيم حتى لا يتيهوا في بر الجهل والضلال.
﴿رسولًا منهم﴾ أي من نفس ذلك المجتمع المتخلف، فهو لم يأت من بيئة أرقى من تلك البيئة، بل ولد ونشأ وتربى فيها، فما هو تفسير هذا الهدى الذي جاء به؟ وكيف جاء بهذا العلم العظيم الذي بهر العقول، وحير أهل الألباب؟ من أين جاء بهذه النظم الأخلاقية الراقية، وهذه الشريعة السمحة؟ لا تفسير لذلك إلا الاعتقاد بصدق رسالته: ﴿بعث في الأميين﴾ رسولًا كلفه بمهمتين عظيمتين هما من أبرز مهامه:
المهمة الأولى: الارتقاء العلمي والمعرفي ﴿يتلوا عليهم آياته﴾، ﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾. حيث إن انعدام العلم سبب للتخلف والجهل. كان المجتمع الذي بعث فيه النبي مجتمعًا يعتمد الخرافات والأساطير فجاء النبي ليحرر تلك العقول من سيادة تلك الأوهام، ويفتح لها أبواب العلم والمعرفة.
المهمة الثانية: الاتقاء الأخلاقي ﴿ويزكيهم﴾. حيث كان المجتمع الجاهلي الذي بعث فيه النبي مجتمعًا يعيش تخلفًا أخلاقيًا، كانت تسوده الحروب والفتن والمشاكل. ولأن الجانبين متلازمان في الغالب حيث إن التخلف العلمي هو أرضية للتخلف الأخلاقي، والتخلف الأخلاقي هو معوق للارتقاء العلمي، لذا كان لابد من تقوية هذين الجانبين حيث إن كل أمة من الأمم لا ترقى إلا بهذين الجناحين. جاء ليرفع عن البشرية من نفوسها ما يشوبها من خلق مشين، ويعظم فيها كرائم الأخلاق, ويبث فيها روح العلم والمعرفة.
الأمم المتقدمة إنما تقدمت لاهتمامها بهذين الجانبين. حيث تزدهر عندهم العلوم والانجازات المتطورة, والاختراعات, ويهتمون باحتضان العلماء والمفكرين. وكذلك اهتموا بالجانب الأخلاقي حيث وضعوا نظمًا للعلاقات البينية بين أفراد المجتمع. صحيح أنهم لم يفلحوا في تعميق هذه النظم في نفوس الناس كما تفعل الأديان, لكنهم وضعوا هذه النظم ليقننوا العلاقات في المجتمع، فالنظام عندهم يضمن حق الشعوب والحكومات والأسر والأفراد. وان كانت تشوبه نواقص قياساً إلى ما تحمله قيم وتشريعات الإسلام.
رسول الله ركز على هذين الجانبين, وقد نجح نجاحًا باهرًا حيث أنه بعث في بيئة متخلفة في الجانب الخلقي والعلمي, وقد غير فيهم الكثير، وبث روح الأخوة, وروح العلم، ليوحدهم في مشروع إنساني عظيم، وما أحوج أمتنا اليوم لهذين الجانبين.
كيف يتعامل الناس فيما بينهم؟ ولماذا حياتهم تشوبها الحروب والمشاكل والفتن؟ لاشك أن لضعف الجانب الأخلاقي أثراً كبيراً في ذلك, من الناحية الثقافية حيث ضعف الإرشاد والتوجيه، ومن الناحية القانونية حيث ضعف الأنظمة التي تحفظ حقوق الجميع.
المسلمون أكثر من مليار ونصف يتوزعون في أرجاء العالم، لكنهم مبتلون بهذه الحروب والمشاكل فيما بينهم، لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع فيه مشكلة هنا أو هناك. اليوم انفجار في أحد الأسواق الشعبية في باكستان قتل فيه خمسة وأربعين شخصًا وأصيب تسعون آخرون. وبالأمس كان انفجار في العراق استهدف زوار الإمام الكاظم ، وفي هذا الأسبوع انفجار في الصومال استهدف متابعين لمباريات كأس العالم. هذه النزعات البينية بين المسلمين تبعثر جهودهم وطاقاتهم.
وفي هذه الذكرى العظيمة نحن بحاجة ماسة للتذكير والتأكيد على الجانبين الأساسين الذين ركز عليهما رسول الله الجانب العلمي والأخلاقي حتى ترتقي أمتنا وتخرج من واقعها المأزوم.