داعيًا إلى لغة تخاطب إيمانية
الشيخ الصفار يدعو إلى إنشاء مراكز للعلاقات الاجتماعية
حث سماحة الشيخ حسن الصفار في خطبة الجمعة 2/9/1431هـ بالقطيف، على إنشاء مراكز بحوث ودراسات في كل مجالات الحياة، مركزًا حديثه حول مجالات تنمية العلاقات الاجتماعية، قائلًا: "من المجالات التي يحتاج المجتمع أن يضع لها خططًا، مجال تنمية العلاقات الاجتماعية". معربًا عن أسفه تجاه شح هذه المراكز في مجتمعاتنا: "نحن بحاجة ماسة إلى مراكز دراسات، ومع الأسف عندنا نقص شديد في هذا الجانب". وأضاف: "الدراسات هي التي تمكننا من ترشيد أنشطتنا، وفهم واقع مجتمعنا، وكيف يمكن إدارته، والنهوض به".
مشيرًا إلى أن وضع الخطط المستقبلية سمة المجتمعات المتقدمة، على نقيض المجتمعات المتخلفة التي تترك الأمور تسير بالشكل العفوي التلقائي. ولفت سماحته إلى أن هذه الخطط المستقبلية تتمظهر في عدة أمور أهمها: وجود دراسات، ووجود برامج، ووجود ثقافة دافعة، ووجود مبادرات لتنمية العلاقات الاجتماعية.
ودعى في الخطبة الثانية إلى أهمية تميز المجتمعات الإسلامية بالجانب السلوكي والخلقي، وعدم الاكتفاء بالتميز العبادي والعقدي، وقال مؤكدًا: "إذا كان هناك تميزٌ في الانتماء، والعقيدة، والعبادة، لكن الجانب الخلقي سيء، فهذا يدل على أن الدين الذي يُعتقد به غير متمكن في النفوس". وحول لغة التخاطب بين الناس سيما ونحن نعيش أجواء الشهر الفضيل، صرح بأن اللغة التي يتخاطب بها أبناء المجتمع ينبغي أن لا تكون هابطة يسودها السب والشتم والتسقيط، وإنما ينبغي أن تكون قيمية فهي تعكس صورة المجتمع. وأشار سماحته إلى أهمية اتخاذ شهر رمضان المبارك مركزًا تأهيليًا للتدرب على عفة اللسان، وحسن السلوك.
الحمد لله الذي ترادفت نعمه فلا حصر لها ولا عد، وتواترت آلاؤه فلا نهاية لها ولا حد.
نحمده تعالى على دعوته لنا لضيافته في شهر رمضان، وما وعد عباده فيه من الرحمة والرضوان، ونسأله أن يوفقنا فيه لخالص الصيام والقيام.
ونشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له فهو الربّ المتعال، له العزة والجلال، والمجد والإجلال.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي اختصه بأعلى درجات الكمال، وبعثه بأفضل الشرائع والأديان.
صلى الله عليه وآله دعاة الحق وهداة الخلق الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
عباد الله أوصيكم ونفسي قبلكم بتقوى الله فإنها الغاية من فرض الصيام وسائر العبادات، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (سورة البقرة, 183).
جاء في خطبة رسول الله قبيل شهر رمضان: (أيّها الناس، من حسّن منكم في هذا الشهر خُلُقه كان له جوازاً على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن خفّف في هذا الشهر عمّا ملَكت يمينُه خفّف الله عنه حسابه، ومن كفّ فيه شرّه، كفّ الله فيه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحِمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع رحِمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه).
في المجتمعات التقليدية عادة ما تسير أمورهم في مختلف المجالات بعفوية وتلقائية، بينما في المجتمعات المتقدمة عادة ما تسير وفق تخطيط وبحث ودراسة، وليست بشكل عشوائي، ولهذا فإن مصطلح التنمية والخطط والتخطيط أصبح سائدًا عندهم. كل أمر له خطة استراتيجية، هناك خطط خمسية، وخطط عشرية، وقد تكون هناك خطط لمدى أطول. للتعليم خطة، وللاقتصاد خطة، وكذلك الثقافة، والإعلام، وهكذا كل مجال من مجالات الحياة تسير الأمور فيه ضمن برنامج وتخطيط. وقد سارت الدول العربية أيضًا مع هذا النهج من وضع خطط خمسية وغيرها، ولكن مع فارق كبير وجوهري وهو مدى الالتزام بتنفيذ هذه الخطة. أم تكون مجرد حبر على ورق، ومجرد بريق إعلامي؟
من المجالات التي يحتاج المجتمع أن يضع لها خططًا، مجال تنمية العلاقات الاجتماعية. فالعلاقات بين الناس مثلًا، هل نتركها للحالة التلقائية العفوية؟ هل نترك الناس على سجيتهم، وليكن ما يكن؟! هذا شأن المجتمعات البدائية المتخلفة، أما الحديثة المتقدمة فهي تعتمد خططًا إستراتيجية ومرحلية، تتمظهر في عدة أمور أهمها:
أولًا: الدراسات والبحوث. كيف نقرأ الحالة الاجتماعية القائمة بين الناس؟ ما هو وضع الأسر، هل هي متماسكة وقوية البنية؟ أم أن هناك حالات تفكك أسري؟ هذه الأسئلة وغيرها لكي نجيب عليها نحتاج إلى بحوث ودراسات، ثم تحليل واستنتاج. قد يسمع الإنسان عن حالات الطلاق في المجتمع فيزعجه رقمها وعددها، ولكن لا ينبغي أن يسير الأمر هكذا، بل ينبغي أن يكون بالدراسة والبحث، وهل أن الأمر طبيعي أم فوق المعدل؟ فنحتاج إلى مراكز بحوث ودراسة، تعطينا إجابات حول كثير من الأسئلة تخص موضوع البحث. في مسألة الطلاق مثلًا، سوف تكون هناك عدة أسئلة: كم عدد حالات الطلاق في المجتمع خلال عام؟ ما هي مسببات الطلاق؟ ما هو سن المطلقات؟ هل الأسر حديثة العهد بالزواج أكثر من حيث نسبة الطلاق أم ذات الأمد الطويل؟ كم هي نسبة الشكاوى في المحاكم؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات حتى يستطيع الباحثون التحليل والاستنتاج ثم وضع الحلول والخطط. ندرس مثلًا حالة العلاقات بين الأباء والأبناء، هل هناك رضى متبادل بين الطرفين في التعامل؟ هل يواجه الآباء عقوقًا من أبنائهم؟ هل يواجه الأبناء اهمالاً أو قسوة من آبائهم؟ وكذلك نحتاج إلى دراسة العلاقة بين الجماعات في المجتمع، كيف هي العلاقة بينهم؟ هل هي قائمة على الاحترام المتبادل، والتلاقي، والتكامل، أم قطيعة، ونزاع، واحتراب؟
نحن بحاجة ماسة إلى مراكز دراسات، ومع الأسف عندنا نقص شديد في هذا الجانب. الدراسات هي التي تمكننا من ترشيد أنشطتنا، وفهم واقع مجتمعنا، وكيف يمكن إدارته، والنهوض به.
ثانيًا: البرامج والخطط. إذا درسنا حالة ما، واكتشفنا أسبابها، نحتاج بعدها أن نضع البرامج والخطط لاحتوائها. فقضية التفكك الأسري مثلًا، نسأل أنفسنا: كيف نجعل الأسرة أكثر تماسكًا؟ ما هي خططنا لعلاج تلك المشكلة؟ أي الطرق أفضل؟
وقد ظهرت في المنطقة برامج جميلة، ففي مدينة صفوى هناك برنامج لانتخاب ملكة جمال الأخلاق في البر بالوالدين ويكون هناك تنافس جميل بين الفتيات، وترصد لهذه المسابقة مبالغ، وتعمل لها دراسات وهذا أمر جيد ومطلوب. وكذلك مركز البيت السعيد في صفوى له نشاطات جيدة ونافعة، في التأهيل للحياة الزوجية, وكذلك مركز التنمية الأسرية والذي نأمل أن ينطلق قريبًا من جمعية القطيف الخيرية. وهناك مبادرات فردية جميلة فقد أخبرني أحد الشباب، أنه اتفق مع أخوته وأخواته بأن يقيموا حفل تكريم لوالدهم لحسن تعامله وسيرته العائلية، حيث يساعد في الكنس والطبخ وأمور المنزل، بالإضافة إلى رعايتهم وتلبية حاجاتهم. هذه برامج تنمي الالتزام بالأخلاق، ونحن بحاجة لها، وبحاجة إلى تقويتها، وإلى المزيد من أمثالها.
ثالثًا: ثقافة تنمية العلاقات الاجتماعية. ويكون ذلك عبر المجالس والمنابر والإعلام، أن نشجع هذه الثقافة ونضخها في مجتمعاتنا.
رابعًا: مبادرات إصلاح ذات البين وتقوية العلاقات الاجتماعية. كما يحتاج البلد إلى فرق إطفاء لمواجهة الحرائق المادية، أيضًا الحرائق الاجتماعية تحتاج إلى من يطفئوها. في المجتمعات المتقدمة حينما تقع مشكلة بين فئة وأخرى يبادر المصلحون ويسعون لحل المشكلة، ويحتوونها، ويضعون لها حداً. أما المجتمعات التي ليس لها اهتمام بالقيم الاجتماعية، فيكتفون بالتفرج، وانتظار من تكون له الغلبة! هذه أمور تؤثر على المجتمع.
في هذا الشهر المبارك علينا أن نهتم بجانب تنمية العلاقات الأجتماعية، ونسعى لتحسينها، بحسن الخلق، والتعامل الحسن، والاحترام المتبادل بيننا، رسول الله يؤكد على هذا الجانب كما في الحديث الذي تلوناه: (أيّها الناس، من حسّن منكم في هذا الشهر خُلُقه كان له جوازاً على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام) شهر رمضان، شهر يؤهل لتقويم الخلق والسلوك. ويضيف : (ومن خفّف في هذا الشهر عمّا ملَكت يمينُه خفّف الله عنه حسابه) ليس عندنا الآن ملك يمين، ولكن عندنا خدم، وعمال، وعلينا أن نحسن التعامل معهم، ونخفف عنهم العبء في هذا الشهر لا أن نضاعفه، حتى يخفف الله علينا يوم القيامة. ويذكرنا رسول الله كذلك بكف الأذى عن الناس، وإكرام اليتيم، وصلة الرحم. نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما دعانا له رسول الله ، وأن يتقبل منا أعمالنا، إنه سميع مجيب.
عن رسول الله قال: (لا تساب وأنت صائم، فإن سبك أحدٌ فقل: اللهم إني صائم وان كنت قائماً فاجلس).
مجتمع المسلمين يجب أن يتميز سلوكيًا وأخلاقيًا عن سائر المجتمعات، حيث لا يكفي تميزه في الجانب العقدي فقط. أن نتفاخر بأنا مسلمون، أو مؤمنون موالون، وأن عقائدنا صحيحة، هذا وحده لا يكفي. كما أن التميز التعبدي المتمثل في الصلاة والصيام وسائر مناسك العبادة وحده كذلك لا يكفي. التميز الأهم ينبغي أن يتمثل في السلوك والأخلاقيات. السلوك والخلق الصحيح الذي يمليه علينا ديننا الحنيف، والذي مثلّه رسول الله حتى قال عنه عز وجل: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾.
إذا كان هناك تميزٌ في الانتماء، والعقيدة، والعبادة، لكن الجانب الخلقي سيء، فهذا يدل على أن الدين غير متمكن من النفوس. القرآن الكريم في مدح صفات المؤمنين ركزّ على الجانب الخلقي لهم أكثر من أي شيء كقوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (سورة الفرقان, 63), ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (سورة المؤمنون, 3).
ينبغي أن تكون عندنا لغة الأخلاق والأدب، فهي التي تعطي انطباعًا حسنًا عن الدين الذي نعتنقه ونؤمن به. حينما ندخل مجتمعًا ونرى نساءه سافرات، سنسمه بأنه مجتمع غير ملتزم بالدين، وبتعاليم الدين، كذلك حينما نسمع في مجتمع ما لغة التخاطب تسودها السخرية، والسب، واللمز، فلن نستطيع حينها أن نقول إن هذا مجتمع إيماني ملتزم بتعاليم دينه وذلك لسيادة لغة هابطة يتبادلها أبناء المجتمع. مهما كان عند هذا المجتمع من تميز في الجانب الديني والعقدي، ولكن ليس لهما أي انعكاس على السلوك فلا فائدة ترجى من هذا التميز، وهذا الانتماء. رسول الله يقول: (أحسنكم إيمانًا، أحسنكم أخلاقًا).
اللغة التي تسود في مجتمع ما هي التي تعكس صورة عنه، إن كان مجتمعًا إيمانيًا أم لا. ومن السهل الآن أن تتعرف على ذلك. فعالم الإنترنت مثلاً يكشف لك أخلاقيات المجتمعات البشرية. إذا أردت أن تتعرف على وضع فئة معينة من الناس تصفح الإنترنت وشاهد كيف يتخاطبون فيما بينهم، إذا كان كل منهم يدلي برأيه، ويعارض فكرة الآخر وفقًا للحدود والضوابط الأدبية فهذا أمر مشروع، ولكن إذا كان بالسباب، والشتم، وتسقيط الآخر فهذا خلاف الذوق والتعاليم الدينية. فأين إذًا أثر العبادة والعقيدة والانتماء؟
نحن الآن في شهر رمضان المبارك، وهناك علاقة وثيقة بين هذا الشهر الكريم وبين عفة اللسان، فهو شهر تدريب وتأهيل لنتحكم في لغة التخاطب بيننا، كما في الحديث عن رسول الله : (لا تساب وأنت صائم) لا تكتفي بالصوم عن الأكل والشرب ـ كجانب ديني، تشريعي ـ بل لا بد من صيام الجوارح. وإذا ما بدأك أحد بالسب فأعرض عنه: (فإن سبك أحدٌ فقل: اللهم إني صائم)، لا تُستفز وتعالج الخطأ بالخطأ فتبادر من سبك بسب مثله. كما أنك مؤمن بعدالة الله عز وجل وحكمته، فاترك هذا الأمر له تعالى، فهو تكفّل بأن يجعل هذا الأمر رصيدًا يثقل به ميزان حسناتك يوم القيامة، حيث يعطيك من حسنات من أساء إليك، أو يحمّله من سيئاتك. بالإضافة إلى أنك ستنال عفو الله ورضاه.
ينقل عن أحد العلماء أنه كان يقول حين يبلغه أن أحدًا سبه: هذا ثواب ساقه الله إلي دون عناء. أي دون عناء في السعي لاكتساب هذا الأجر، وإلا فالنفس البشرية تتأذى من السب والتجريح من قبل الآخرين.
وقد أكد تعالى على أهمية لغة التخاطب بين الناس: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم﴾ فأي إيمانٍ يجيز لنا السخرية ببعضنا؟، ﴿ولا تلمزوا أنفسكم﴾ واللمز هو عد العيوب. وحين تعيب أخاك المؤمن وتعدد مساوئه، وتحصي عثراته، فأنت من حيث لا تدري تعيب مجتمعك، وتسقطه. ثم إن من يتعاطى هذه اللغة الهابطة يدخل ضمن دائرة الفسقة: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ﴾. وكما يقول رسول الله : (سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر). وهذا الشهر الكريم فرصة كبيرة لتدريب اللسان على العفة عن سب الآخرين والسخرية منهم، ولمزهم. فلعينا أن لا نفوّت هذه الفرصة الثمينة. وأن نغتنم هذا الشهر لتدريب أنفسنا، وتقويم سلوكنا.