ويدعو للانفتاح على الله بالمناجاة
الشيخ الصفار يتحدث عن دور السيدة خديجة وأبي طالب في إقامة الدين
أكد الشيخ حسن الصفار في خطبة الجمعة 9/9/1431هـ على أهمية الدور الذي قامت به أم المؤمنين خديجة ودور أبي طالب في نصرة الرسالة المحمدية. مشيرًا إلى أن رسول الله كان بحاجة إلى من يتحمل معه المسؤولية.
وحول هذا الدور الذي قامت به هاتان الشخصيتان العظيمتان قال: لولا تضحياتهما لكان من الصعوبة بمكان أن تشق الدعوة طريقها.
مشيرًا إلى أن رسول الله ولد يتميًا، وعاش فقيرًا، فلم تكن له شخصية نافذة في قريش، وهو يطرح عليهم دينًا جديدًا فلا شك أنهم سيحاربوه. فهيأ الله له هاتين الشخصيتين العظيمتين: عمه أبا طالب بوجاهته ومكانته في قومه. وخديجة بنت خويلد ذات الثروة المالية العظيمة، ووفرة العقل. وفيض العطف والحنان.
مبديًا أسفه تجاه ما يلفق حول شخصية أبي طالب من أنه مات كافرًا، على ما قدم وضحى في سبيل الله ونصرة رسوله. وقال سماحته مؤكدًا: نحن نعتقد بأن أبا طالب ـ بعد الإمام علي ـ أفضل الصحابة والمؤمنين. وما القول بكفره إلا فرية أموية، جاءت لمعاداة ابنه أمير المؤمنين .
وأشار إلى أن خديجة أفضل أزواج رسول الله كما تشير إليه الأحاديث الكثيرة. ونوّه بأنها كانت تتحلى بوفرة العقل والحكمة والفراسة وهذا ما مكنها من اكتشاف شخصية رسول الله .
وشجع سماحته نساء المجتمع على أن يأخذن دورهن في نهضة المجتمع وتفقد أوضاعه. ملفتًا إلى أن سيدات الشرق الأوسط يمتلكن 22 بالمائة أو نحو 500 مليار دولار من الثروات في المنطقة.
متسائلاً أين تنفق هذه الأموال؟
وحثّ في الخطبة الثانية على أهمية الانفتاح على الله عز وجل بالمناجاة. وقال بأنها تجربة روحية عظيمة. مستدركًا: ولكنها تحتاج إلى تهيؤ يُشعر العبد بلذيذ المناجاة.
مؤكدًا أنه لا ينبغي تفويت ليالي هذا الشهر الشريف من هذه الفرصة العظيمة.
الحمد لله الفاشي في الخلق أمره وحمده، الظاهر بالكرم مجده، الباسط بالجود يده، الذي لا تنقص خزائنه ولا تزيده كثرة العطاء إلا جودا وكرما، انه هو العزيز الوهاب.
نحمده تعالى على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته، وعلى طول أناته في غضبه، وهو قادر على ما يريد.
ونشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له في خلقه، ولا شبيه له في عظمته.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام الرحمة، وقائد الخير، ومفتاح البركة.
اللهم صل على محمد وآله وارفعه إلى الدرجة العليا من جنتك، وعرفه في أهله الطاهرين وأمته المؤمنين من حسن الشفاعة أجلّ ما وعدته يا رب العالمين.
عباد الله!
أوصيكم ونفسي قبلكم بتقوى الله فإنه ما نقل الله عبدا من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه من غير مال، وأعزه من غير عشيرة.
قال تعالى: ﴿لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلًا وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبير﴾ (الحديد 10).
كل فكرة من الأفكار، ومبدأ من المبادئ، حينما يطرح في مجتمع من المجتمعات البشرية كشيء جديد، فإن السبق له يحتاج إلى توافر ميزات معينة، من أهمها ما يلي:
الطرح الجديد، يحتاج بحثاً بدقة وعناية ليتم إدراك صحته من خطئه. وعادة الناس أنهم يمانعون أي جديد يخالف ما اعتادوا عليه، ولكن ذوي البصيرة يحكّمون عقولهم، فلا يتأثرون بالرأي السائد، ولا يمانعون أو يقبلون جزافًا، وإنما يدرسون ذلك الأمر الجديد ثم يقررون.
مخالفة الرأي السائد، والوضع الذي اعتاد الناس عليه، يحتاج ثقة بالنفس، لأن طبيعة الإنسان التكيف مع المحيط الذي يعيش فيه، فإذا ما خطرت بباله فكرة يرى أنها الأصوب، ولكنه يعلم أن طرحها سوف يواجه الرفض من الناس وقد يصل إلى إيذائه، فإنه يتردد في طرحها، وقد يحجم عن ذلك. لكن من عنده ثقة في النفس، وتتوفر عنده الضوابط اللازمة لطرح رأيه فإنه لا يتردد في ذلك.
ما دام الشخص واثقًا من نفسه وفكرته، فعليه أن يضع في حسبانه معارضة الناس له، وأن يتحمل ويصبر في سبيل تحقيق هدفه ما دامت عنده قناعة بصحته.
من هنا فإن القرآن الكريم يتحدث عن هذا التقويم الذي يميز بين المؤمنين. حيث هناك جيلان، جيل آمن بتلك الرسالة الحق منذ البداية، وجيل آمن بها بعد أن تعززت وظهرت قوتها.
تميز الجيل الأول بالوعي والإدراك، حيث اكتشفوا قبل غيرهم صدق هذه الدعوة، ولأنهم وثقوا بها، وبصاحبها فقد توفرت لهم ميزة الإصرار والإقدام في نشرها ورفع رايتها، فتحملوا الكثير من الأذى في سبيل ذلك. أما الجيل الثاني فلم يكن في ذات المستوى ولذلك ميّز الله بينهم: ﴿لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا﴾. وقال في آية أخرى: ﴿السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار﴾ ومرة أخرى: ﴿السابقون السابقون أولئك المقربون﴾ وأيضًا: ﴿أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون﴾.
وهذا هو حال واقعنا، حينما يراد إنشاء مشروع جديد يخدم المجتمع، تجد من يبادر في طرح الفكرة، وأناس يتفاعلون معها ويدرسونها ويرون إن كانت نافعة أم لا، وآخرون ينتظرون رأي الناس، ولا يكلفون أنفسهم فعل شيء، والبعض يقف موقف المتفرج بل ويعارض دون وعي ودراسة. وتجد في الغالب، قلة من الناس ممن يتفاعل مع الشيء في بدايته. كثير من الناس يتفاعلون مع الشيء القائم. وهنا يتمايز الناس فيما بينهم.
نعيش هذه الأيام، في هذا الشهر المبارك ذاكرتين عظيمتين على قلب رسول الله وقد أخذتا منه مأخذهما من الحزن والأسى، وسمى ذلك العام لوقوعهما عام الحزن. حيث فقد رسول الله زوجته الطاهرة، أم المؤمنين خديجة ، وعمه وكفيله شيخ البطحاء أبا طالب . هذان العظيمان كان لهما دور محوري في نصر دعوة رسول الله ، وإقامة الدين الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. ولولا دورهما ـ مع عناية الله عز وجل وإرادته في إظهار هذا الدين ـ لكان من الصعوبة بمكان أن تشق الدعوة طريقها.
رسول الله ولد يتيمًا، وعاش فقيرًا، فلم تكن له شخصية نافذة ـ بالرغم من أن شخصيته كانت محترمة ومقدرة ـ وقد جاء لهم بدين جديد، غير الذي ألفوا عليه آباءهم، فمن الطبيعي أن يقفوا ضده، فكان بحاجة إلى من يدعمه، ويحميه، فهيأ الله له هاتين الشخصيتين العظيمتين: عمه أبا طالب بوجاهته ومكانته في قومه، وجليل أخلاقه، ونسبه الشريف. وخديجة بنت خويلد ذات الثروة المالية العظيمة، ووفرة العقل.
تكفّل أبو طالب بحماية رسول الله من أذى قريش، فما كان أحد يمكنه مواجهة رسول الله ، وكان الوضع يتطلب من أبي طالب أن لا يظهر انتماءه لدين رسول الله فتسقط حمايته، ويحارب معه. فكان يشجع أبناءه أن يكونوا في صف رسول الله ، وهو دليل على إيمانه بما جاء به رسول الله . مرّ ذات يوم وبصحبته ابنه جعفر، ورأى رسول الله يصلي وعن يمينه ابنه علي . قال لجعفر: صل جناح ابنك عمك. ثم مضى جعفر وصلى عن يسار رسول الله فاستبشر أبو طالب وراح يقول:
إن عليًا وجعفرًا لا تخذلا، وانصرا ابن عمكما والله لا أخذل النبي ولا |
ثقتيعند ملم الزمان والنوب أخي لأمي، من بينهم، وأبي يخذله من بني ذو حسب |
وقال لابنه جعفر: اما إنه لا يدعونا إلا إلى الخير فالزمه.
وله أشعار كثيرة تدل على إيمانه ومنها قوله:
ولقد علمت بأن دين محمدٍ | من خير أديان البرية | دينا
مواقفه المشرفة مع رسول الله وشعره، وكلامه، وكلام أهل البيت في حقه كلها شهود صدق على إيمانه عليه السلام. ونعتقد بأن أبا طالب ـ بعد الإمام علي ـ أفضل الصحابة والمؤمنين. وما القول بكفره إلا فرية أموية، جاءت لمعاداة ابنه أمير المؤمنين . إن ذنب أبي طالب أنه أبو علي ! ويحز في النفس أن تنسى جهود هذا العظيم، وتحمله البلاء والأذى مع رسول الله في سبيل الله، ثم يرمى بالكفر والعياذ بالله. يقول ابن أبي الحديد:
ولولا أبو طالب فذاك بمكة آوى وحامى وما ضر مجد أبي طالب |
وابنهلما مثل الدين شخصًا فقاما وهذا بيثرب جس الحماما جهول لغا أو بصير تعامى |
خديجة امرأة وقادة الذكاء، امتلأ قلبها حبًا لرسول الله ، كما امتلأ قلب رسول الله حبًا لها، و ما فتئ يذكر خديجة إلى آخر حياته. كان يتحسر عند ذكرها ويقول: وأين مثل خديجة؟ ويغضب إذا ذُكرت بسوء ويعدد أفضالها. وقد سمّى عام فقدها وفقد عمه أبي طالب: عام الحزن.
روي عنه أنه قال: أتاني جبرئيل فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك، ومعها إناء فيه إدام وطعام، فإذا هي أتتك فأقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وقال : (خديجة سابقة نساء العالمين إلى الإيمان بالله وبمحمد).
وأحاديث كثيرة تبين مكانة خديجة عند رسول الله . تروي عائشة كما جاء في أسد الغابة، تقول: كان رسول الله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها. فذكرها يومًا من الأيام فأدركتني الغيرة. فقلت: هل كانت إلا عجوزًا فقد أبدلك الله خيرًا منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب. ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادًا إذ حرمني أولاد النساء. قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبدًا.
وتقول عائشة: كان رسول الله إذا ذبح الشاة يقول: ارسلوا إلى أصدقاء خديجة. فذكرت له يومًا فقال: إني لأحب حبيبها.
وتنقل أم سلمة أنه حينما كلمنه أزواجه في زواج فاطمة الزهراء وذكرن خديجة، بكى وقال: خديجة! وأين مثل خديجة؟ وأخذ في الثناء عليها.
كانت لخديجة شخصية فذة، ولذا فرضت شخصيتها واحترامها في مجتمع جاهلي، لا يرى للمرأة مكانة. كانت وافرة في عقلها، وذات حكمة وفراسة، فاكتشفت شخصية رسول الله حين سافر في تجارتها وسمعت عن سيرته من غلامها ميسرة.
وحين جاءها رسول الله متأثراً من أول لقاء مع الوحي، يشعر بثقل المسؤولية، وحكى لها ما جرى، قالت: كلا والله، ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على النوائب.
وبادرت للإيمان به. فحظيت بشرف السبق للإيمان به مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي كان معه.
بهذه البصيرة النافذة، والروح العطوفة النبيلة، والكف السخية المعطاءة، وقفت مع رسول الله ووضعت كل ثروتها تحت تصرفه بالإضافة إلى الدعم المعنوي والروحي فكانت تشد من عزمه وتسانده.
ونحن نتذكر دورها العظيم، نذكّر نساءنا بأن كلًا منهن يمكنها أن تخدم مجتمعها وتعمل لرفعته، وأن لا تتجاهل طاقتها الكامنة لخدمة الدين والمجتمع. نساؤنا الآن لهن إمكانيات مادية لا يستهان بها، بسبب الوظيفة، أو التجارة، أو غيرها. حيث تشير الإحصائيات إلى أن النساء يمتلكن عام 2009م 27 بالمائة من ثروات العالم. أي بما يساوي عشرين ترليون دولار. وفي الشرق الأوسط بما يعادل 22 بالمائة من الثروات أو نحو خمسمائة مليار دولار. فأين تصرف وتنفق هذه الأموال والثروات؟
للأسف فإن كثيرًا من هذه الثروات تنفق في المظاهر والترف، والأشياء الكمالية، في وقت يكون المجتمع بأمس الحاجة لهذه الأموال. يفترض أن يكن النساء أكثر تفقدًا لحاجات الفقراء والأيتام، والأرامل لما أودع الله في طبيعتهم من عطف ورحمة.
كم في الشرق الأوسط من فقر مدقع، وحاجات اجتماعية؟ فمطلوب من النساء أن يوظفن هذه الثروات في حاجات المجتمع، ويساهمن في نهضته وتقدمه، وأجر ذلك عند الله عظيم.
جاء عن الإمام الباقر أنه قال: (تعرّض للرحمة وعفو الله، بحسن المراجعة. واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء، والمناجاة في الظلم).
ما أحوج الإنسان دائمًا وأبدًا إلى مراجعة نفسه، أن يراجع سلوكه ومواقفه وممارساته؟ لا تأخذه العزة بالإثم، فحينما يجد في ذاته خطأ ما لا ينبغي له أن يتردد في التراجع عنه. المشكلة أن الكثير منا يسترسل على ما تعود عليه. الإنسان له إرادة، فلماذا يبقى أسير عادة معينة، وموقف ما؟
اتخاذ القرار الصائب، والموقف السديد يحتاج حسن مراجعة. فكيف يستطع الإنسان أن يخلق ظروفًا تعينه على المراجعة؟
الإمام الباقر يجيب على ذلك بقوله: (بخالص الدعاء والمناجاة في الظلم).
المناجاة مفردة مبتكرة في الإسلام، وهي تعني المَسارّة. أي أن تخاطب شخصاً بحيث لا يسمعك أحد. الإسلام استخدم هذه المفردة في الحديث مع الله عز وجل، أن يتكلم العبد مع الله تعالى وليس معه أحد. هذا الأصل، وقد تطلق مفردة المناجاة على أي حديث مع الله عز وجل.
ويؤكد الإمام على أفضل أوقات المناجاة وهي الليل (الظُلم). وهي تجربة الأنبياء والأئمة . كانوا يختلون بأنفسهم في جوف الليل، يبوحون لله عز وجل بما في نفوسهم، ويخاطبونه مباشرة. كما يخاطب الإنسان غيره من البشر بشكل مباشر، ويطلب منهم، فالله تعالى أولى بهذا الأمر.
المناجاة تجربة روحية عظيمة، ولكنها تحتاج إلى تهيؤ. التهيؤ للمناجاة هو الذي يشعر العبد بلذيذ المناجاة، وبدونها لا لذة لها ولا طعم. هذا التهيؤ يكون قبل الولوج في المناجاة كحسن المكسب، وحلّية المأكل والمشرب، الاجتناب عن الكبائر، وغيرها. وكذلك بالإقبال على الله تعالى.
وعن وقت المناجاة يقول أمير المؤمنين : (للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرُم معاشه، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمُل). يعني يوميًا لابد أن يكون لنا وقت للمناجاة.
ولهذا يؤكد الإمام زين العابدين في دعائه لله عز وجل: (اللهم احملنا في سفن نجاتك، ومتعنا بلذيذ مناجاتك، وأوردنا حياض حبك، وأذقنا حلاوة ودك وقربك).كما نتشوق للحديث مع حبيب حتى ننشغل عمن حولنا منصرفين له، فإن هذا الأمر أولى أن يكون في حال التخاطب مع الله عز وجل. وهذا ما دأب عليه الأولياء والصالحون. (وزين لي التفرد بمناجاتك بالليل والنهار) كما يقول الإمام زين العابدين .
وبالإضافة إلى ما في مناجاة الله من لذة وراحة، من إقبال العبد على ربه، فإن الله عز وجل يقبل على عبده أكثر، ويفتح له أبوابه ليطلب ما يشاء. جاء عن رسول الله : (إن العبد إذا تخلى بسيده في جوف الليل المظلم وناجاه اثبت الله النور في قلبه، فإذا قال: يا رب، ناداه الجليل جل جلاله: لبيك عبدي سلني أعطك، وتوكل علي أكفك). ثم يقول جل جلاله للملائكة: (ملائكتي انظروا إلى عبدي قد تخلى بي في جوف الليل المظلم والباطلون لاهون، والغافلون ينامون، اشهدوا أني قد غفرت له).
لذا علينا أن نحرص في هذا الشهر الشريف أن لا نفوّت أوقات المناجاة على أنفسنا. فكيف يقبل الإنسان على نفسه أن يلتقي الناس، ويقضي جل وقته في الحديث معهم، ويحرم نفسه من مناجاة الله تعالى؟
كيف يسمح لنفسه أن تمرّ عليه ليلة من ليالي شهر رمضان دون أن يختلي بربه ويناجيه؟ وهذا شهر ينبغي أن تكون فيه انطلاقتنا نحو مراجعة الذات، وتغييرها. فأي فرصة أفضل من هذه الفرصة؟ الأئمة الكرام مع مكانتهم السامية عند الله تعالى ما كانوا يتركون مناجاة الله والسهر لخدمته، بل لولا هذا الأمر لما نالوا واستحقوا هذه المكانة.
عن أبي الدرداء: قال: شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات النجار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته، وبعد عن مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغم شجي، وهو يقول: ((إلهي كم من موبقة حلمتَ عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك. إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براجٍ غير رضوانك)).
فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب بعينه، فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغامر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء، والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله تعالى أن قال:
((إلهي أفكر في عفوك، فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك، فتعظم علي بليتي)).
ثم قال: ((آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته ولا يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء)).
ثم قال: ((آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من لهبات لظى)).
قال أبو الدرداء، ثم أمعن في البكاء، فلم أسمع له حساً، ولا حركة.
هكذا تكون المناجاة مع الخالق عز وجل.
نسأل الله تعالى أن لا يحرمنا لذيذ مناجاته أناء الليل وأطراف النهار، وأن يعمر قلوبنا بحبه، وألسنتنا بذكره، أنه سميع مجيب.
«الخطبة الأولى: الدور الأساس لخديجة وأبي طالب في نصر الإسلام»
«الخطبة الثانية: المناجاة انفتاح على الله»