التعارف رؤية قرآنية

أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، قال اللّه العظيم في كتابه الحكيم:

بسم اللّه الرحمن الرحيم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[سورة الحجرات، الآية:13]. صدق اللّه العلي العظيم.

هذا الوجود البشري الكبير المتنوع في أعراقه، وألوانه، ولغاته وثقافاته، يرجع إلى أصل واحد، كما يؤكد على ذلك القرآن الكريم، وكما تؤكد كل النظريات العلمية، فأبناء البشر يرجعون إلى أصل واحد، والخالق هو إله واحد وهو اللّه سبحانه وتعالى، والمكونات الأساس لأبناء البشر هي مكونات متساوية في أصل وجودها وإن كانت متفاوتة في مستويات استخدامها وتفعيلها، وإلا فالجوارح والأعضاء ـ يعني المكونات الجسمية للإنسان ـ هي واحدة عند أبناء البشر، وكذلك الحال في المكونات الفكرية، والروحية، والنفسية هي أيضًا متشابهة عند كل أبناء البشر، لكن التفاوت يحصل في درجة استخدام هذه الأعضاء الجسمية وهذه القوى الفكرية والنفسية، فهناك من يفعّل هذه القدرات المادية أو المعنوية أكثر من الآخرين وإلا فأصل المكونات والمقومات في شخصية الإنسان هي متساوية في كل أفراد البشر، متساوية في أصل الوجود، ولكنها قد تكون متفاوتة في الدرجات وفي مستوى التفعيل والاستثمار والاستفادة.

هؤلاء البشر كلهم الذين يعودون إلى أصل واحد وخالقهم هو إله واحد، والمقومات الأساس في شخصياتهم هي مقومات واحدة، لكن شاءت حكمة الباري وقدرته جلّ وعلا أن تتنوع الخصائص وأن تتفاوت المستويات، فالخصائص بين أبناء البشر والمستويات بين أبناء البشر متفاوتة، وهذا له أسبابه الطبيعية.

كيف نشأ التفاوت؟

الناس في البداية نشأوا في محيط واحد وفي مكان واحد، وأبو البشر أدم حيث كان يشكّل العائلة الإنسانية الأولى المصغرة، هو مع زوجته حواء، مع أولادهم كانوا في محيط واحد، ومع استمرار التناسل البشري انتشر أبناء أدم في أنحاء مختلفة من الأرض، هذا الانتشار جعل كل مجموعة من أبناء البشر تعيش ضمن بيئة قد تختلف عن البيئة الأخرى، هذا الاختلاف البيئي، والجغرافي، وهذا الاختلاف في الحياة الطبيعية انعكس أيضًا اختلافًا ماديًا وثقافيًا، أشكال حياة الناس قد تختلف، يعني معيشة الناس في أجواء حارة أو أجواء باردة في مناطق جبلية أو في مناطق ساحلية، هذا التفاوت في البيئة الطبيعية التي يعيشها الناس تنعكس اختلافًا على أوضاعهم المادية، وبالتالي أيضًا أوضاعهم البيئية والاقتصادية تنعكس اختلافًا في ثقافاتهم، فحصلت تنوعات وحصل تفاوت في أبناء البشر، وبمرور الوقت أصبحت البشرية تنقسم إلى قبائل وإلى عشائر، وإلى شعوب.هذا التنوع لا ينفي الأصل الواحد.

ولذلك الآية الكريمة تتوجه بالخطاب إلى أبناء البشر جميعًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ، الآية الكريمة في سورة الحجرات وقد سبق أن شرحنا الآيات التي قبلها، الآيات السابقة كانت تخاطب المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كما مر علينا، هنا انتقل الخطاب من: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ لأن الحديث ليس خاصًا بالمؤمنين، وإنما هو يخاطب أبناء البشرية جمعاء وإنما هو متوجّه إلى الناس باعتبارهم ناسًا وبغض النظر عن أديانهم، وبغض النظر عن معتقداتهم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خطاب عام لكل من ينطبق عليه هذا العنوان، مهما كان لونه، مهما كانت لغته عرقه، دينه، مذهبه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ، والخطاب من قبل اللّه سبحانه وتعالى هو الخالق: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، هذا فيه إيحاء أيضًا وفيه تبيين للفلسفة التي تريد الآية أن تصل لها، وهي أنه ما دام الخالق واحد، كلكم مخلوقون لخالق واحد، هذا يمهد ويؤكد أرضية الوحدة بين أبناء البشر ما دام الخالق واحدًا: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ وكلكم ليس هناك أحد من البشر من خلق إله آخر، ولا يوجد إله آخر إلا اللّه سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ، فالتأكيد على أن الخالق واحد من أجل إعداد الأرضية الفكرية والنفسية، لتوطيد العلاقات بين هؤلاء الذين خلقهم إله واحد.

ثم تشير الآية إلى الحكمة في التنوع، وإلى وحدة الأصل: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وإن الطريقة التي يأتي منها هذا الإنسان من أي لون كان من أي دين كان، من أي مستوى كان، هي نفس الطريقة التي يأتي منها الإنسان الآخر، فليس هناك إنسان يأتي للحياة بطريقة متميزة مختلفة وكل أبناء البشر يأتون من هذا الطريق: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، أي عن طريق اتصال بين ذكر وأنثى بقدرة اللّه سبحانه وتعالى، فوجد هذا الإنسان بنفس الطريقة التي يوجد بها كل إنسان آخر، والنتيجة إذن أن الإله واحد، وطريقة الخلقة إذن طريقه واحدة، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ، وهذا التنوع إنما حصل بإرادة اللّه تعالى وبحكمته وبقدرته وليس بإرادتكم أنتم.

وفي هذا إيحاء لكل إنسان يريد أن يتصور بأن كونه من هذه القبيلة أو كونه من هذه العائلة مدعاة للتميز، وأن كون الآخر من عائلة وقبيلة أخرى سببًا للدونية، هذا توحي له الآية الكريمة: هل أنت اخترت انتسابك لهذه القبيلة! وهل ذلك الآخر اختار انتسابه لتلك القبيلة؟ هل أن كل إنسان يوجد في هذه الحياة قبل مجيئه للحياة يعرض عليه معجم القبائل والأنساب ويقال له: اختر القبيلة التي تريد أن تولد منها، أو تكون منتميًا إليها؟ نحن نعرف الآن أن الإنسان في انتمائه في اختياره للجامعة تعرض عليه مختلف الجامعات، هو يختار الجامعة التي يريد، وبالتالي هو يتحمل مسؤولية اختياره، نحن نعرف أن مختلف القضايا المكتسبة يكون للإنسان رأي فيها، لكن انتماءك العائلي، انتماءك القبلي، انتماءك القومي العرقي لا اختيار لك فيه، فلا فخر لك فيه، ولا يشكل نقطة ضعف لك، المسألة ترتبط باللّه سبحانه وتعالى.

الشعوب والقبائل

تكلم المفسرون كثيرًا حول المقصود بالشعوب والقبائل وأيهما أوسع من الآخر، هل أن الشعب أوسع من القبيلة، أو أن القبيلة أوسع من الشعب، لا شأن لنا في هذا الاختلاف، لكن من حيث الفهم المعاصر الآن نحن نجد أن بينهما تداخلًا الآن، يطلق على كل من يعيشون في وطن واحد وتحت ظل نظام واحد يطلق عليه بأنه شعب، وبالتالي يقال الشعب الأمريكي، الشعب الياباني، الشعب السعودي، الشعب العراقي، وهذا الشعب يعتبر إطارًا يستوعب قبائل مختلفة إذن هنا يبدو أن الشعب أوسع من القبيلة؛ لأن الشعب هو ذلك الشعب البشري الذي يشترك في وطن واحد ضمن تعريف الأوطان في العصر الحديث، طبعًا الأوطان القومية أصبح لها تعريفها الجديد في الواقع المعاصر، وهو يختلف عن التعريفات السابقة، فالشعب الآن أصبح أوسع من القبيلة لكننا في نفس الوقت نجد أيضًا أن بعض القبائل قد تكون لها فروع في مختلف الشعوب فقد تكون القبيلة ليست ضمن شعب واحد، وعندنا الآن على المستوى العربي نجد أن بعض القبائل لها فرع في العراق ولها فرع في سورية ولها فرع في السعودية ولها فرع في مختلف المناطق، فقد تكون في بعض الأحيان القبيلة أوسع من حالة الشعب على العموم بينهما عموم وخصوص من وجه، كما يقول المناطقة.

الهدف لتعارفوا

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ، طبيعة الحياة اقتضت أن تكونوا متنوعين في انتماءاتكم الشعوبية والقبلية، هذا الاختلاف والانتماء القبلي والانتماء الشعوبي ـ إن صح التعريف ـ ينعكس اختلافًا في الثقافات في العادات، في الأعراف، في التقاليد، في المستويات، في التوجهات، له هذه الانعكاسات هذا التنوع بما فيه انعكاسات ينبغي أن يكون دافعًا للتعارف هذا التنوع هو مظهر من مظاهر القدرة الإلهية.

نحن نجد الآن أن الفنان الذي يستطيع أن يصنع مناظر مختلفة ومتعددة إنما يبرز قدرته بهذا التنوع، إن الحديقة التي تدخلها تكون فيها الألوان متنوعة والروائح الزكية فيها متنوعة إن ذلك مدعاة لقيمة أكبر لهذه الحديقة، هذا الكون وهذا الوجود البشري هو مظهر من مظاهر القدرة الإلهية، ولذلك في آيات أخرى من القران الكريم تعتبر اختلاف ألسنتكم وألوانكم آية من آيات اللّه سبحانه وتعالى، مظهر من مظاهر العظمة الإلهية الآية التي تدل على ذلك.

قواعد التعارف وآفاقه

أولا: المعرفة

في نفس الوقت هذا ينبغي أن يكون مصدرًا للإثراء، لماذا هذا التنوع بين أبناء البشر؟ من أجل أن يكون دافعًا للتكامل: ﴿لِتَعَارَفُوا التعارف ينبثق أولًا من المعرفة، اللّه سبحانه وتعالى أعطاه هذه الخاصية ـ خاصية المعرفة ـ وقيمته تأتي من تفعيله لهذه الخصيصة، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا[سورة البقرة، الآيتان:31 ـ 32].

ميزة آدم أنه كانت له خاصية المعرفة، أي العلم، وبذلك فضله اللّه على الملائكة وأمر الملائكة بأن يسجدوا له، والتعارف ينبثق من خاصية المعرفة أن الإنسان القادر على المعرفة والمهتم بالمعرفة والساعي خلف المعرفة ينبغي له أن يستفيد من التنوع البشري في كسب المعرفة ﴿لِتَعَارَفُوا، وعلينا أن نتأمل إلى كلمة ﴿لِتَعَارَفُوا، يعني كل طرف يتعرف إلى الآخر كحالة متقابلة، يعني ليس تعرفًا من جهة واحدة فقط وإنما من الجهتين، فكل طرف يسعى للتعرف إلى الآخر، إن التعارف قيمة كبيرة جدًا في حياة البشر حين يكون هناك تنوع، أنت تنتمي إلى دين وآخر ينتمي إلى دين آخر، أنت تنتمي إلى مذهب والآخر ينتمي إلى مذهب آخر، تنتمي إلى ثقافة وهو ينتمي إلى ثقافة أخرى، إلى قبيلة وهو ينتمي إلى قبيلة أخرى، إلى شعب وهو إلى شعب آخر، هذا التنوع فيه انعكاسات قد تكون فيه أفكار مختلفة عادات مختلفة، تقاليد مختلفة، تجارب مختلفة، أول ما ينبغي أن تهتم به في حالة التنوع أن تتعرف إلى خصائص وصفات الطرف الآخر، أنت ضمن مذهب وهناك ناس ضمن مذهب آخر، اسع للتعرف إليهم، اسعَ للاطلاع على خصائصهم، آرائهم، ميزاتهم، إيجابياتهم، نقاط ضعفهم، هذا ما يجب أن تسعى إليه.

أنت ضمن دين وهناك أناس ضمن دين آخر، حاول أن تتعرف إليهم، وهذا يتكامل مع نصوص قرآنية أخرى، كقوله: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ[سورة الزمر، الآية:18] يعني ـ يتقصّد سماع الآراء والأقوال ـ حتى يتبع أحسن الأقوال والآراء، أنت ضمن شعب ضمن قبيلة ضمن جماعة ضمن جهة، البعض من الناس تحصل عندهم حالة انطواء على ذاتهم، على ذاتهم القومية، على ذاتهم القبلية، على ذاتهم الدينية، على ذاتهم المذهبية، على ذاتهم الفئوية، ينطوون على أنفسهم، لا يكون لديهم سعي للتعرف إلى الطرف الآخر، وتهيب من التعرف ـ أنا ليس لي دخل بالتعرف على أتباع المذهب الآخر، ماذا أصنع بهم؟ما معنى أن أتعرّف إلى أتباع الدين الآخر؟، على أصحاب الثقافة الأخرى ـ وتضيق الدائرة إلى أن يكون أناس ضمن مذهب واحد لكن لهم مدارس متعددة، فيعزف كل طرف عن التعرف إلى ما عند الطرف الآخر لا يجد نفسه منتفعًا كي يتعرف إليهم.

وفي بعض الأحيان يكون له صورة خاطئة عن الطرف الآخر وينشغل بها ولا يسعى للتعرف الحقيقي، أنا أرسم في ذهني صورة لصاحب المذهب الآخر، مثلًا: أنا إنسان شيعي، أرسم في ذهني صورة للإنسان السني أو للزيدي أو للأباضي أو لأي أتباع مذهب آخر، أرسم هذه الصورة وأكتفي بهذه الصورة بحيث في أي وقت يكون لدي دافع نفسي وأزعم أن هذا هو الآخر فأقول: السنة كذا، الأباضية كذا، أو إذا كان سنيًا يقول: الشيعة كذا الزيدية كذا، من قال إنهم كذا؟ أنا أفتعل صورة، أنا أتقبل صورة رسمت ضمن بيئة معينة ولا أسعى للتعرف الحقيقي، الآية الكريمة تجعل التعارف قيمة ﴿لِتَعَارَفُوا، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا يفترض أن هذه الآية الكريمة تخلق دافعًا لكل مؤمن، عند كل مسلم بأن يتعرف إلى الآخرين، يتعرف إليهم كما هم على حقيقتهم، فإذا تعرفت إليهم أيضًا تتيح لهم الفرصة بأن يتعرفوا إليك، وأن الآية الكريمة تقول﴿لِتَعَارَفُوا يعني ـ تبادل ـ تتعرف وتعرف﴿لِتَعَارَفُواينبغي لكل إنسان أن يسعى للتعرف إلى الآخر، وأن يتيح الفرصة للآخر حتى يتعرف إليه حتى يتحقق هذا المبدأ وتتحقق هذه القيمة.

ثانيًا: معرفة الأشخاص

في آخر حديثنا نشير إلى أنه حتى على المستوى الفردي، بعض الناس لديهم هذا الاهتمام بأن يتعرفوا إلى الأفراد الآخرين، فإذا جلس في مجلس وكان إلى جانبه شخص عن يمينه وعن شماله وخاصة إذا تكرّر اللقاء معه يندفع للتعرف إليه، فلان: ما اسمك؟، يدخل معه في حديث يتعرف إليه يعرفه على نفسه، في المجتمعات الغربية أصبح متداولًا بأن كل شخص عنده بطاقة تعريف (كارت) من يلتقي مع الآخر تجده يعرفه بنفسه ويعطيه (كارت)، هذا خلق حضاري، هذه عادة طيبه، ولكن هذه العادة ليست رائجة لدينا إلا على المستويات الرسمية، وعلى مستوى رجال الأعمال، إذا التقى رجال الأعمال أو في اللقاءات الرسمية يعرفون فيعطي أحدهم (كارته) للآخر، بينما هي عادة طيبة أن الإنسان حينما يلتقي مع شخص يتعرف إليه، في بعض الأحيان تجد أن بعض الناس ذهبت لمجلس الفلاني ورأيت شخص قال: من ذالك الشخص؟ قال:لم أسأل عنه، لا أدري.

هنالك رواية مرّت، وهي: «أنه من صحب إنسانًا في سفر ولو بمقدار أربعين خطوة ثم لم يتعرف إليه فقد جفاه». ولو بهذا المقدار: يسأله من أنت؟، بعض الناس يبخل أو ليس لديه اندفاع.

إن من الأمور المطلوب حصولها في المساجد بعد الانتهاء من الصلاة الأفضل أن تسلم وأن تلتفت عن يمينك وعن شمالك وتقول: «السلام عليكم ورحمة اللّه» حتى تخلق حالة تواصل بينك وبين من جنبك، وهذا أمر محبوب ومستحب، وعندما يصافح شخصًا من إخوانه في المسجد، تقول له: «غفر اللّه لك»، زاحم نفسك تعرف إليه، أسأل من هو؟من أين؟، الإنسان عندما يركب الطائرة ويكون بجانبه شخص، تعرف إليه، فقد ينطوي على معرفة، تجربة، له مكانه، له موقعيه، ماذا ستخسر لو تعرفت إليه أو تحدثت معه؟ ماذا يضرك أن تكسب معرفته وصداقته؟ وقل ذلك في مختلف الجوانب.

البعض من الناس ليس لديه هذا التوجه ـ توجه كسب الآخرين ـ التعرف إلى الآخرين، بينما هناك بعض من الأشخاص عندهم هذا الاهتمام بل عندهم براعة وذلك بمجرد أن يلتقي مع شخص يتعرف، يكسبه، يتبادل معه المعرفة ،ثم يفكر كيف يستثمر هذه العلاقات وهذه الصداقات، نحن بحاجة إلى هذا الخلق الحضاري على مستوى الأفراد، فلنجرب، كل واحد منا، لن تخسر شيئًا بل ستربح ثروة من المعارف من الأفكار، من التجارب، من المجالات من المكتسبات، جرب أن تهتم بالتعرف إلى أكبر قدر ممكن من الأشخاص الذين تكون في محيطهم أو يكونون في محيطك بسبب أو بآخر، فتجد أمامك آفاقًا مفتوحة وارتياح نفس، تتعرف إلى الآخرين وتعرف الآخرين إلى نفسك ﴿لِتَعَارَفُوا على المستوى الفردي وعلى مستوى الجماعات.

حينما تسمع عن جماعة معينة (جماعة دينية ـ جماعة فكرية ـ جماعة سياسية)، اسعَ للتعرف إليهم: من هم، ما أفكارهم، ما هي آراؤهم، ما هي مواقفهم، اسع للتعرف إليهم عبر التواصل المباشر أو عبر القراءة عنهم، يذكرون أنه في أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أقبل الأمريكيون بشغف على مطالعة كل ما يتعلق بالإسلام والمسلمين وفرغت المكتبات من كل كتاب يرتبط بالإسلام والمسلمين.لماذا؟ لأن الأمريكي يسمع في وسائل الإعلام أن هذه الحادثة حصلت وخلفها إسلام ومسلمين، ما هو الإسلام؟ ومن هم المسلمون؟ صار يبحث، يذهب للمكتبة، يشتري كتابًا، والعلماء المسلمون ـ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ـ يقولون: صار لنا سوق صرنا ندّعى في الجامعات ندعى في المراكز في المؤسسات دلالة على أن الناس هناك يبحثون عن المعرفة، ﴿لِتَعَارَفُوا، بينما نحن ـ مع الأسف ـ في كثير من الأحيان نسمع عن جهة، نسمع عن دين، تسمع عن مذهب، نسمع عن اتجاه، لا نكلف أنفسنا ونكتفي بالمعلومات الجاهزة ـ يقال إنهم كذا ـ يصلنا خبر بأنهم كذا، هذا خطأ.

إنها قيمة كبيرة يركزها القران الكريم: قيمة التعارف﴿لِتَعَارَفُوا.

وسيأتي الحديث عن بقية مفردات الآية الكريمة إن شاء اللّه، نسأل اللّه أن يوفقنا وإياكم لفهم القرآن ومعرفته والأخذ بقيمه ومبادئه وأحكامه، إنه ولي التوفيق والحمد للّه ربّ العالمين، وصلى اللّه على نبينا محمد وآله الطاهرين.

* ألقيت المحاضرة بمجلس سماحة الشيخ حسن الصفار بتاريخ 17 صفر 1428هـ.