الود الإلهي
الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، قال اللّه العظيم في كتابه الحكيم: بسم اللّه الرحمن الرحيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾[سورة مريم،الآية: 96]. صدق اللّه العلي العظيم.
حينما يمتن اللّه سبحانه وتعالى على أحد من عباده بشيء ويعده بذلك الشيء، فلا بدّ أن يكون ذلك الشيء عظيمًا، والآية الكريمة تؤكد أن اللّه سبحانه وتعالى يعِدْ عباده المؤمنين ويمِّن عليهم بنعمة كبيرة من نعمه، تلك النعمة هو أنه سيجعل لهم ودًا في القلوب والنفوس. فلا بدّ أن يكون وجود المحبة والمودة للإنسان في قلوب الآخرين شيئًا مهمًا، ولو لم يكن شيئًا مهمًا لما وعد اللّه به صفوة عباده، ولما نسب وجود ذلك الودّ إلى ذاته سبحانه وتعالى.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، يعني أن الناس الذين يؤمنون باللّه ويؤمنون بالمبادئ الدينية والقيم الأخلاقية السامية، هؤلاء الناس الذين يمتلكون صفة الإيمان وهي صفة عقلية نفسية، لأن الإيمان مصدره العقل ومقره النفس. وإلى جانب هذه الصفة، هناك صفة أخرى﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، هذه الصفة النظرية النفسية يجب أن تتحول إلى سلوك وعمل وممارسة، أما إذا بقيت مجرد نظرية في العقل أو فكرة في القلب ولم تتحول إلى سلوك خارجي فإنها لا تعتبر ذات قيمة وتأثير..، فالقيمة والتأثير والفائدة هي في انعكاسها على الحياة العملية، ولذلك فإن اللّه سبحانه لم يكتف بصفة الإيمان ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بل أردفها ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، صحيح أن الإيمان يفترض أن يدفع للعمل الصالح، لكن في بعض الأحيان بعض الناس في حالة غير سوية، يكتفون بالإيمان النظري وبالحالة العقدية ـ أنه يعتقد دون أن يترجم ذلك إلى عمل. اللّه سبحانه وتعالى يقول أن من يكتفي بالإيمان النظري العقدي في قلبه ولا يلتزم بمعطيات هذا الإيمان، فإن ذلك لا يؤدي إلى نتيجة ﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فقط: لا، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾أيّ إن الإيمان يجب أن يكون إلى جانبه العمل المنبثق من حالة الإيمان، لذلك يقول اللّه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، الذين تتوفر في عقولهم الرؤية الصحيحة للكون والحياة وللمبدأ والمعاد ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، سلوكهم وعملهم وممارساتهم منسجمة مع مقتضى ذلك الإيمان ومن وحي ذلك الإيمان هؤلاء الذين يمتلكون هاتين الصفتين سيجعل لهم اللّه سبحانه ودًا، الود هو المحبة والمودة، أيّ إن اللّه سبحانه سيجعل لهم المحبة والمودة في قلوب الناس.
﴿سَيَجْعَلُ﴾ هذا الجعل كيف يكون؟وللإجابة يمكننا تصور ذلك على نحوين:
الأول: الجعل الغيبي: أيّ إن اللّه سبحانه وتعالى سيجعل القلوب منجذبة إليهم، وهناك روايات تؤيد هذا المعنى: ورد في حديث عن رسول اللّه أنه قال: «إذا أحب اللّه العبد نادى جبرائيل ـ وهو أشرف وأفضل الملائكة المقربين ـ إن اللّه قد أحب فلانًا فأحبوه، فيحبه جبرئيل، ثم ينادي جبرئيل في أهل السماء: «أن اللّه قد أحب فلانًا فأحبوه»، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض»[1] . أن اللّه سبحانه وتعالى إذا أحب عبدًا ـ (أيِّ عبدًا من عباده) ـ والسؤال: كيف يحب اللّه عبدًا من عباده؟ إنه جلّ وعلا لا يحبه لمنظره أو جماله أو ماله، إنما يحبه لأنه يستحق المحبة، لصفاء قلبه، لخلوص نفسه، لسلامة سلوكه وعمله، هذا هو التأثير الغيبي، أيّ: يحبه أهل السماء ويجعل اللّه سبحانه له جاذبية فتنجذب نحوه القلوب والنفوس في الأرض،.هذا تأثير غيبي إلهي.
الثاني: النحو الآخر الذي يمكن أن نفهم به هذا الجعل: أن طبيعة الإيمان والعمل الصالح تجعل الإنسان في موقعية المحبوب عند الناس.
الناس متى يحبون الشخص؟ يحبونه إذا رأوه صالحًا، محسنًا، طيبًا، القلوب تحب شخصًا كهذا. الإنسان المؤمن الذي يعمل الأعمال الصالحة، طبيعة شخصيته وسلوكه تجذب النفوس إليه، فهو مثلًا يتصف بالإحسان إلى الآخرين واحترامهم، ورد في الحديث: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها»[2] ، فالإنسان المؤمن من الطبيعي أن يحبه الناس، لماذا؟لأنه محسن، لأنه يخدم الآخرين ويحترمهم ولا يسيء إليهم، بل يحسن معاملتهم، فمن الطبيعي أن يحبه الناس. هذا هو النحو الآخر: أن سلوك الإنسان المؤمن وطبيعة شخصيته تجعله محبوبًا لدى الآخرين، بشرط أن يكون مؤمنا حقيقيًّا، يعني: أن يكون ملتزمًا بأخلاق الإيمان وآدابه. بعض الأحيان يكون الإيمان في أذهاننا ونظرنا يتخذ صورة معينة، مثلًا نقول: إن المؤمن هو ذلك الذي يذهب إلى المسجد ويتعبد ويطيل في صلاته ويصوم، فهذا التصور الذهني يجعلنا لا نفكر أنه يجب أن يكون بشوشًا، حلو المعشر كريم الأخلاق والطباع، هذا التصور ـ بعض الأحيان ـ ليس جزءًا من صورة المؤمن في أذهاننا، لذلك نصاب بالعجب عندما يقال إن المؤمن محبوب. فمثلا هناك أناس مؤمنون ـ حسب تصورنا للإيمان ـ ولكنهم غير محبوبين، حتى أقرباؤهم لا يودونهم، لذلك نحن نحتاج أن نصحح صورة المؤمن في أذهاننا.
هناك تساؤل: هل المؤمن من يصلي ومن يذهب للمسجد يقرأ الأدعية والقرآن ويصوم؟، الجواب: هذه ليست الصورة الكاملة للإيمان، إنما الصورة الكاملة تكون بإفشاء السلام وإطعام الطعام، من يكون حزنه في قلبه وبشره في وجهه، من يحسن إلى الناس، من لا يسيء إليهم..إلخ. فمن يلتزم بالأخلاقيات الحميدة يحبه الناس، حتى لو لم يظهروا محبتهم له، نحن نجد في سيرة رسول اللّه وفي سيرة الأئمة الطاهرين عليهم أفضل الصلاة والسلام، حتى أعداؤهم الذين يكيدون لهم في أعماقهم في إعجاب وانبهار، ولكن المصالح والصراع الدنيوي والمصلحي جعلتهم في هذه الموقعية.
وهناك رأي للسيد الخوئي (رحمه الله): عندما يتحدث عن معنى النواصب ـ الذين ينصبون العداء لآل البيت ـ يقول كلامًا مؤداه: أنه ليس بالضرورة أن الخلفاء الحاكمين ـ الذين كانوا في عصر أهل البيت ـ نواصب، نعم، هم يؤذون أهل البيت، لكن طلب المصلحة والعرش والحكم والسلطة جعلهم يؤذونهم، ولكن داخل قلوبهم ليس لديهم عداوة لأهل البيت، بل ربما كان هناك إعجاب ومحبة لهم، كما قال هارون الرشيد لولده في القصة المنقولة لما رآه يحترم الإمام الكاظم في ذلك الكلام الطويل: «إن الملك عقيم ولو نازعتني فيه أنت لأخذت الذي فيه عينيك»، هذا ليس ناصب العداوة لولده، ولكن إذا اقتضت المصلحة يقتل ولده. وقد نقل هذا الرأي عن السيد الخوئي السيد محمد مهدي الخلخالي في تقريره لدرسه بعنوان دروس في فقه الشيعة، ومما جاء فيه: «من هنا يحكم بإسلام الأولين الغاصبين لحق أمير المؤمنين إسلامًا ظاهريًا لعدم نصبهم ـ ظاهرًا ـ عداوة أهل البيت وإنما نازعوهم في تحصيل المقام والرياسة العامة»[3] .
الإنسان المؤمن له محبة في النفوس، حتى من يعاديه ظاهرًا في أعماق نفسه وقلبه لديه انشداد نحوه ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾[سورة مريم: الآية 96]، يعني محبة ومودة، لدينا نصوص كثيرة تتحدث حول قيمة وأخلاقية التودّد إلى الناس.
التودّد، ماذا يعني؟ التودّد يعني: طلب المودة ـ أيّ أن تطلب محبة الناس ـ أن تسعى لأن يحبك الناس، بعض الناس ليس لديهم هذا التوجه، الراويات والنصوص تطلب من الإنسان المؤمن أن يسعى لكسب قلوب الناس ومحبتهم، التودّد طلب مودة الآخرين، لكن، كيف تحصل على مودتهم؟ طلب مودة الآخرين بما يوجبها، وأني استغرب كثيرًا أن بعض هذه المفاهيم الأخلاقية السلوكية تكاد تكون مغيبة في وعينا وأفكارنا، وخاصة في الوسط الديني، نحن نعرف فضل الصلاة والزيارة والعزاء، وفضل كثير من العبادات والمستحبات، لكن هناك من المفاهيم والسلوكيات ما ترتبط بالتعامل مع الناس، والتركيز عليها في الوسط الديني قليل، وهذا يجعل الإنسان المؤمن مهتمًا ببعض العبادات الطقوسية، لكنه غير مهتم بالمعاملة مع الناس وحسن العلاقة معهم، هذا إيمان مبتور «إيمان ببعض الكتاب» ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾[سورة البقرة، الآية:85].
لنلقِ نظرة على بعض النصوص، ورد في الحديث عن رسول اللّه «رأس العقل ـ بعد الإيمان ـ التودّد إلى الناس»[4] ، لاشيء أهم بعد الإيمان باللّه سبحانه من أن تسعى لكسب محبة الناس، يقول : «رأس العقل» ـ يعني أفضل العقل ـ يتحقق في أمرين: الإيمان باللّه والتودّد إلى الناس. هذا الموضوع في رأس القائمة والأولويات، بأن تتصرف بشكل يحبك ويودّك الناس، وفي حديث آخر عنه : «رأس العقل بعد الإيمان باللّه التحبب إلى الناس»[5] هنا دعوة إلى التحبب إلى الناس كافة ـ لم يقل إلى المؤمنين أو المسلمين أو الأقرباء ـ إنما الناس بشكل عام، وعنه : «التودّد نصف العقل»[6] أيّ إن الإنسان يسعى لكسب محبة الناس، هذا 50 % من استخدام العقل، وبمعنى آخر إن من لا يسعى لمحبة الناس نصف رأس مال عقله مجمّد. وعن أمير المؤمنين علي : «أول العقل التودّد»[7] .
جاء عن رسول اللّه : «التودّد نصف الدين»[8] ليس فقط نصف العقل بل نصف الدين، ولكن ما معنى نصف الدين؟ الدين له هدفان: حسن العلاقة مع الخالق وهذا هو الهدف الأول، أما الهدف الثاني:حسن العلاقة مع المخلوقين.
نصف الدين أن تتعامل مع اللّه بشكل سليم: عبادة اللّه والخضوع له.
أما النصف الثاني: المعاملة الطيبة مع الناس، والمعاملة الطيبة مع الناس جزء من العبادة للّه، فالرسول يقول:«التودّد نصف الدين».
المودة تخلق وشيجة مع الآخرين تشبه الرحم والقرابة.
ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «المودة قرابة مستفادة»[9] . أيّ كلما كسبت مودة أحد اكتسبت أقرباء جدد، وعنه : «المودة إحدى القرابتين»[10] ، القرابة إما عبر الرحم أو عبر المودة والمحبة، بل هناك نصوص تشير أن المودة موقعيتها أكثر من الرحم، عن أمير المؤمنين : «المودة أقرب نسب»[11] ، وفي رواية أخرى «المودة أقرب رحم»[12] ، وفي رواية ثالثة «المودة أقرب الأنساب»[13] ، بل هناك روايات تقارن بين القرابة الرحمية وقرابة المودة: عن رسول اللّه : «القريب من قربته المودة وإن بعد نسبه، والبعيد من باعدته المودة وأن قرب نسبه»[14] ، قريبك ولكن لا تربطكما محبة، لا تحبه ولا يحبك،. وآخر بعيد ـ ليس بينكما صلة قرابة ـ ولكن بين الطرفين مودة هذا هو أقرب الأقرباء، وفي كلمة جميلة لأمير المؤمنين علي : «كل قرابة تحتاج إلى مودة»[15] ، كونه قريبك: أخوك أو ابن عمك أو ابن خالك، هذا لا يكفي ما لم تكن هناك ألفة ومحبة، وفي كلمة أخرى تحتاج القرابة إلى مودة، ولا تحتاج المودة إلى قرابة، كلمة رائعة، وعنه : «ربَّ أخ لم تلده أمك»[16] ..
ونختم برواية عن أمير المؤمنين علي قال: «أنفع الكنوز محبة القلوب»[17] يا لها من عبارة رائعة، أنفع الكنوز ـ لا المال لا الثروة لاشيء آخر ـ محبة القلوب هو أهم رصيد، ولذلك يبذل الإنسان ماله وجاهه وجهده من أجل أن ينال المحبة والمودة من الآخرين.