في رحاب خطاب الوحدة للشيخ الصفار

حول موقعية الخطاب وأثره في تنمية العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وترتيب الاستراتيجيات الحضارية للأمم، وإطفاء الحرائق الاجتماعية والسياسية وما هنالك من فضاءات في الحياة الإنسانية، من هذا المنطلق ومن عمق المسؤولية جاد فكر العلامة الشيخ حسن الصفار بأفكار مهمة مليئة بالمشاريع الحية والقادرة على ترميم وتجديد الواقع الإسلامي العام، وتنظيف اللغة الاجتماعية من العديد من المصطلحات الدخيلة على أكسجين الحياة الإسلامية...

تحت عنوان"خطاب الوحدة: نقد وتقويم" جاء كتيب العلامة ليقدم قراءة تحليلية معمقة وبلغة صريحة عادلة بين كل مكونات الواقع الإسلامي الفاعلة والمحركة لمفهوم الوحدة عبر وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، كما حدد مواطن القصور وحالة التخلف والقصور التي يعاني منها الخطاب الوحدوي في مقابل الحضور الصاخب للإعلام المنتج لخطابات الشحن الطائفي وإمكانياته الهائلة...

في الأصل هذا الكتيب هو ورقة حول "التجديد في خطاب الوحدة" شارك بها سماحته في مؤتمر: «الاجتهاد في الخطاب الإسلامي - نحو خطاب إنساني متجدد» المنعقد بتاريخ 12 - ّ13/5/1431هـ الموافق 25 - 26/4/2010 في الدوحة بدولة قطر من تنظيم كلية الدراسات الإسلامية بجامعة قطر وكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمؤسسة قطر للتربية والعلوم، وعلى الرغم من الشكل المقتضب لمباحث الورقة إلا أنها وضعت النقاط على عدة حروف متعلقة بمطلب "خطاب الوحدة" المرتجى لمواجهة التحديات وتحقيق الآمال وتفعيل المشاريع التنموية للواقع الإسلامي في ظل النظام العالمي الجديد...

بعد مقدمة تقديرية لأهمية المؤتمرات واللقاءات بين العلماء والباحثين لتباحث شؤون وأمور المسلمين الحرجة والملحة، استهل الشيخ الصفار ورقته بطرح أبرز التحديات الخطيرة التي يواجهها خطاب الوحدة، منها تداعيات الانقسام وسياسات التمييز ومعارك الخلافات وعواصف الفتن، مع الانتشار الواسع لخطاب التعبئة والشحن الطائفي الذي أصبح عابرا للقارات عبر مقدرات مؤسساته الإعلامية، بالاضافة لضعف استجابة خطاب الوحدة لدواعي التجديد والتطوير...

وفي ذات المسار المحدد للورقة ألا وهو ضرورة التجديد والتطوير في خطاب الوحدة وعبر إثارة الملاحظات والمداخلات، سلط سماحته الضوء على واقع الحراك الوحدوي وخطابه وندرة المؤسسات المعنية بذلك، بالنظر لتسونامي مؤسسات إنتاج الشحن الطائفي والتعصب المذهبي، حيث استطاع الشيخ الصفار تقديم تقرير مبسط لواقع المؤسسات الداعمة لخطاب الوحدة، يعطي حجم القصور والتقصير الذي يعانيه خطاب الوحدة فيما يتعلق بالمؤسسات الأهلية، بينما نجد المجتمعات المتقدمة تزخر بمؤسسات أهلية ذات اهتمام بقضايا السلام والتسامح والاجتماع الحضاري، ليصل بالنهاية سماحته لطرح أول سؤال حساس ومركزي في مشروع الوحدة ككل وبالتحديد في الخطاب الداعم لفعاليته الاجتماعية في حياة المسلمين المعاصرة: أين دور علمائنا وأثريائنا ومجتمعاتنا في مجال تأسيس المؤسسات الأهلية التي تعمل لتوحيد صفوف الأمة، وإطفاء فتن النزاع والفرقة؟

وعلى نفس المنهج يجري سماحة الشيخ حسن الصفار مقارنة مقتضبة بين خطاب الوحدة ومحنته في الراهن الإسلامي مع الحيوية والفعالية والجماهيرية الواسعة لخطاب الطائفية، حيث يدعم التحليل التاريخي لسماحة الشيخ حيدر حب الله لهذا الواقع غير السوي، بالتأكيد على أن هناك تقصير من لدن الكثير من دعاة الوحدة في إنتاج الخطاب القادر على التأثير في جمهور الأمة، وإعداد مشروع قابل للاستجابة والتفاعل، واستطرادا للحتمية التاريخية في قراءة هذا الواقع الخامل عن إنتاج خطاب وحدوي فعال، يقارب المسألة بالنظر لاستجابة الشعوب الأوروبية لدعوة التقارب والإتحاد، ليبعث أسئلة حيوية، تحتاج لإجابات تأسيسية وعملية: ماهي خلفيات الوعي الوحدوي عند الأروبيين؟ وماهي مقومات التأثير والاقناع في خطابهم الوحدوي؟ ولماذا لم يصل بعد خطاب الوحدة لدينا إلى مستوى مماثل من القدرة على التأثير؟ داعيا لتحصيل واستجماع الجرأة والحزم في نقد خطابنا الوحدوي وتقويمه، دون التنكر للدور الايجابي لرواد هذا الخطاب عبر التاريخ المعاصر، مما حافظ على ديمومة القضية حية كمفهوم ومبدأ في وجدان وثقافة الأمة...

بعد ذلك استفاض سماحة الشيخ الصفار في ترتيب الوعي الوحدوي وتقويم خطاب الوحدة عبر إبراز المهمة الرئيسية والغالبة على أركان هذا الخطاب مثل: التأكيد على مساحات الاتفاق بين المذاهب والمدارس الإسلامية، التقليل من شأن الاختلافات، مستندا على حقيقة أن: مساحات الاتفاق أوسع من مواقع الاختلاف، ولقد تمكن سماحته من تركيز هذه الأفكار بعرض عدة حقائق ووقائع ونقاشات للعديد من الظواهر والمآزق العويصة في الوعي والواقع الإسلاميين، مثلا: سوء فهم خطاب الوحدة عبر تصوره تجريم للاختلاف، أو محاولة فرض توافق في القضايا الدينية عقدية أو فقهية، وأيضا الخوف أو التوجس المرضي في غالبية الأوساط المذهبية من مفاهيم الوحدة والتقارب والانفتاح على أنها دعوات للتنازل عن بعض المعتقدات والخصوصيات، ليواصل سماحته في الصفحات التالية تأصيل مقتضب لمسألة الاختلاف وتصحيح لماهية الوحدة والتقارب مستشهدا بنماذج منيرة من تاريخنا الاسلامي إبان خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . حيث كل ما تقدم بمثابة تمهيد لمناقشة وتحليل مسألة التعددية المذهبية وتبيان أن التعددية الفقهية المقبولة هي في الأصل نتاح للتعددية العقدية المتحفظ عليها، كما أنها ذاتها التعددية الفقهية التي يسلمون بها الآن، كانت مرفوضة في كثير من الأوساط في الأزمنة الماضية، إذ يستدل على ذلك بعدة حقائق من أرشيف الفتاوى الإقصائية عبر التاريخ الإسلامي، لينتهي بالترشيد إلى أن الحل في التعامل بإيجابية تحت عنوان الوحدة والوئام تفاديا لشرور التمزق والفتن... وهنا تتحدد المهمة الأساس للخطاب الوحدوي في هذا العصر...

وفي الختام تقويما مضاعفا لخطاب الوحدة، يوجه النظرة التقويمية نحو المفاهيم الحضارية الجديدة والتي من شانها أن تصحح العلاقة بين فئات وأطراف المجتمع الاسلامي وحمايته من النزاع والشقاق ليعيش الاستقرار والأمن الداخلي ويتجه نحو التنمية والبناء، حيث استطاع سماحته وبكل جدارة كعادته أن يبسط مهمة خطاب الوحدة بتحديد المفاهيم الواجب اعتمادها في تفعيل مشروع الوحدة ميدانيا، والتي يأتي في طليعتها: المواطنة وحقوق الإنسان، كصنوان مفاهيمي استراتيجي في صناعة أرضية الوحدة وتوفير السلم والاستقرار والتنمية، مستوضحا أن العكس هو ما جعل الطائفية أكثر حضورا في يوميات العرب والمسلمين، كما أن عناوين المواطنة وحقوق الإنسان والمساواة وحرية التفكير والمعتقد والتفكير والتعبير عن الرأي تمثل لغة عالمية يفهمها إنسان هذا العصر وتدعمها المؤسسات الدولية والمناخ العالمي. ثم إن التوسل بهذه المفاهيم لا ينتج حرجا شرعيا، لأن ديننا الحنيف لا يمنع من الاستفادة من تجارب المجتمعات البشرية الأخرى حيث الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها.

ويضبط سماحة الشبخ الصفار هذا الإنتاج الثقافي المهم بتوصيات تحدد بعض المواقف العملية التي تحقق بها الوحدة في الواقع الخارجي، لان تصنيف الخطاب بالوحدوي يعني فقه صانعه لمفهوم الوحدة وآليات تحققها ومصاديق تجسيدها في الواقع، وذلك كله يعني هذه المواقف:

1/ الاعتراف والاحترام «ب/لـ» التعددية العقدية والفقهية بعد التسليم بأصول الايمان وأركان الإسلام

2/ رفض الإساءة للرموز المحترمة عند أي مذهب من المذاهب

3/ إدانة التمييز الطائفي، مع عدم السكوت على سياسات التمييز التي تمنع أتباع أي مذهب إسلامي من ممارسة شعائرهم الدينية والمذهبية أو تحرمهم من التمتع بحقوقهم الوطنية.

4/ تشجيع حالة التواصل والاندماج الاجتماعي بين أبناء الأمة.

هذا الكتيب الصغير الحجم الجليل المضمون والصادر عن مكتب الشيخ حسن الصفار سنة 1431هـ - 2010م، جاء كجرد دقيق نوعا ما لمشوار الرسالة الوحدوية في أحد أبعادها "الخطاب"، قد لا يقبله البعض وخاصة من كان لهم اسهام ولو بسيط في تاريخ هذه الرسالة العظيمة "الوحدة" في الزمن الإسلامي المعاصر، لكنه يبقى إرهاصة ثقافية مهمة تحتاج في بعض المواقع لتفصيل وفي أخرى لتحليل منهجي معتبر، وذلك كله لا يفرغ مضمون الكتيب من غايته التمهيدية التي حددها ولعل التفاعل الأمثل مع هذا المنتج الثقافي هو مساءلة الذات أساسا عن تصورها للوحدة قبل الحديث عنها إما قبولا أو رفضا، وهذه المساءلة لا تتحقق في إطار الأحكام السبقية وإنما عبر الدراسة الموضوعية والبحث العلمي السليم لمفهوم الوحدة بتواضع...

بكل صراحة هذا الكتيب مباحثه من شأنها أن تكون فصولا ومحطات لبرمجة الخطاب الوحدوي، كمقرر دراسي للدعاة والخطباء وعلماء الدين ورجال الإعلام الإسلامي، حيث يجدر بنا التنويه على ضرورة توسيع مبحث قدرات التأثير بتوظيف النظريات الحديثة في الاقناع والحوار والنقد والترشيد الاجتماعي، كما أرى من الأهم في مثل هذه الإصدارات الثقافية تضمينها بملحق مفاهيمي يعرف القارئ المبتدئ بالمفاهيم الشاسعة الآفاق والقادمة من الأزل التاريخي الإسلامي أو المستحدثة كـ: الأشاعرة والسلفية والصوفية والجعفرية والزيدية والإباضية، وبالتالي يكون هناك تشجيع فعلي للقارئ للتواصل المعرفي مع الآخر الإسلامي وكذا المفاهيم التخصصية والثقافية الجديدة من خلال الملحقات المرفقة كتثقيف وإثارة لدفينة العقل لوعي المسؤولية الإسلامية الحقيقية، وأيضا وقاية لعقل القارئ من التمويه الذي يبثه الخطاب التمزيقي لتعطيل غاية التعارف بين أطياف الأمة الإسلامية، وتكبيل حرية التفكير...

وعودا لما سبق، الكتيب في العمق عبر عن ذات الموضوع منهجا وغاية، لدرجة أن القارئ يجد النقد بلغة التطوير والتقويم بثقافة التجديد، فكلا المحورين وردا بلغة الرفق مما جعل أفكار الموضوع مرنة وإبداعية خلاقة لأبعاد تنويرية ذات اتصال بالرسالة الوحدوية... بكلمة هذه السطور ليست بمستوى القراءة الرصينة، ولكنها تحية إجلال وتقدير لأحد رواد الرسالة الوحدوية في الزمن الاسلامي الراهن أستاذنا الشيخ حسن الصفار، كما أنها دعوة للباحثين للتعاون والتواصل من أجل الإجابة العلمية والعملية على الأسئلة الواردة في الكتيب... وأنوه في الختام أن هذا الكتيب شمعة في ظلمات الخطاب الطائفي وأيضا هو نواة ومفصل حيوي في هيكل مشروع إسلامي حضاري كبير... والله من وراء القصد...

12/7/2011م
باحث و كاتب إسلامي جزائري